نظرة عامة حول اتفاق الشراكة المغربي البريطاني: «شراكة» استعمار جديد
بقلم- سليم نعمان
دخلت اتفاقية الشراكة بين المغرب والمملكة المتحدة حيز التنفيذ في 01/01/2021، بناءً على اتفاقية الشراكة الأورو- متوسطية لعام 1996، واتفاقية تسوية المنازعات لعام 2010. يهدف الاتفاق إلى ملء الفراغ القانوني الناتج عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والحفاظ على العلاقات التجارية القائمة، بما في ذلك الشروط التفضيلية. ينص الاتفاق على إنشاء منطقة تجارة حرة للبضائع، وتأسيس مجلس ولجنة شراكة، وآلية لتسوية المنازعات. كما يتضمن ملاحق وبروتوكولات خاصة بالتجارة الزراعية والسمكية وقواعد المنشأ. وجرى التوقيع على إعلان مشترك بشأن مقاربة ثلاثية الأطراف لقواعد المنشأ، يبدأ سريانه مع دخول الاتفاق حيز التنفيذ، أو عند انتهاء العمل بالاتفاقيات المغربية- الأوروبية السابقة مع المملكة المتحدة. صادق مجلس الحكومة المغربية (11 يونيو 2020) ومجلس النواب (16 نونبر 2020) ومجلس المستشارين على الاتفاقية (15 دجنبر 2020). ورغم أهمية الاتفاق وتداعياته، إلا أن عملية صياغته وتنفيذه مُحتكرة من طرف الملك ودائرة مستشاريه الضيقة، مع دور محدود للحكومة والبرلمان على حد سواء.
سياق الاتفاقية
تأتي اتفاقية الشراكة الاقتصادية والتجارية بين المغرب وبريطانيا في إطار تعزيز الانفتاح الليبرالي الذي بدأه المغرب منذ سنوات 1980. فقد انضم المغرب إلى العديد من الاتفاقيات التجارية الدولية، ما ساهم في فتح أسواقه أمام السلع الأجنبية. تشمل هذه الاتفاقيات شراكات مع دول متعددة (قرابة 60 دولة)، ما يعكس خضوع المغرب لمقتضيات التجارة الحرة ونزع الضبط الاقتصادي والاجتماعي…
تسعى بريطانيا إلى إيجاد أسواق جديدة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. ويتطلب منها هذا التوجه توقيع اتفاقيات تجارية مع دول مختلفة، بما في ذلك المغرب. بعد البريكست 31 يناير 2020، أصبحت بريطانيا أكثر حرية في إبرام اتفاقيات ثنائية، ما يتيح لها توسيع نطاق تجارتها العالمية. وبالنسبة للمغرب تمثل اتفاقيات التبادل الحر خيارًا استراتيجيًا، حيث تخضع الدولة لإملاءات المؤسسات المالية الدولية لتطبيق سياسات نيوليبرالية. وتهدف هذه السياسات إلى ضمان مصالح الشركات متعددة الجنسيات وتعزيز الرأسمال الكبير المحلي. وبالتالي، يسعى المغرب من وراء ذلك إلى «تحقيق نمو اقتصادي مستدام». هذا، بينما تسعى بريطانيا لتعزيز تنافسية شركاتها الكبرى، إذ يمكنها من خلال هذه الاتفاقيات، تقليل تكاليف الإنتاج وزيادة فرص الاستثمار في البلدان النامية، ما يعكس رغبة بريطانيا في الاستفادة من الموارد الطبيعية والقوى البشرية المتاحة بهذه الدول.
ماض استعماري
لعبت بريطانيا دوراً محورياً في إضعاف المغرب قبل فرض الحماية الفرنسية عام 1912، رغم عدم احتلالها له مباشرة. فقد فرضت معاهدات تجارية غير متكافئة، كمعاهدة 1856، التي فتحت السوق المغربية أمام المنتجات البريطانية وأضعفت الاقتصاد المحلي. كما شاركت في مؤتمرات دولية، كمؤتمر مدريد 1880، التي عززت النفوذ الأوروبي، وساهمت في منح امتيازات اقتصادية وقضائية للأجانب. بالإضافة إلى ذلك، دعمت بريطانيا، ضمن اتفاقية الوفاق الودي البريطاني- الفرنسي سنة 1904، النفوذ الفرنسي في المغرب مقابل تنازلات في مصر، مما مهد الطريق لفرض الحماية. كما أدت القروض البريطانية، إلى جانب قروض دول أوروبية أخرى، إلى أزمة مالية خانقة زادت من تبعية المغرب للقوى الأجنبية وسهلت فرض الحماية. باختصار، ساهمت بريطانيا بشكل كبير في تقويض السيادة المغربية بواسطة سياسات استعمارية اقتصادية ودبلوماسية، مما مهّد الطريق للاستعمارين الفرنسي والاسباني.
تفاوت في القوة الاقتصادية والديبلوماسية
يجعل التفاوت الاقتصادي الشراكة البريطانية- المغربية غير متكافئة، فبريطانيا قوة اقتصادية عالمية، السادسة عالميا، بينما يواجه المغرب تحديات اقتصادية جمة. تتمتع بريطانيا بنفوذ سياسي عالمي أكبر من المغرب، ويبلغ ناتجها المحلي الإجمالي حوالي 3100 مليار دولار، بينما لا يتجاوز الناتج المغربي 138 مليار دولار. كما أن الناتج المحلي الإجمالي للفرد في بريطانيا يصل إلى 47,000 دولار، في حين أن المغرب لا يتجاوز 3,800 دولار، كما أن اقتصاد بريطانيا صناعي متقدم ويعتمد على قطاع خدمات عالية القيمة المضافة، بينما لا يزال المغرب رهين قطاع فلاحي هش وصناعات خفيفة متخلفة وخدمات ريعية منخفضة القيمة المضافة. أي أن هناك فجوة ساحقة في مستوى المعيشة والقدرة التنافسية. بالتالي فإن هذه الديناميات تؤكد على ضرورة إعادة النظر في هذه العلاقات التجارية غير المتوازنة.
يعتمد الاقتصاد المغربي اعتمادًا كبيرًا على القطاع الزراعي، الذي يمثل حوالي 12% من الناتج المحلي الإجمالي. في المقابل، تتمتع بريطانيا باقتصاد قوي يعتمد على صادرات متنوعة تصل قيمتها إلى 900 مليار دولار سنويًا، ما يبرز الفجوة الاقتصادية بين البلدين. ورغم أن المغرب يسعى لجذب الاستثمارات البريطانية، إلا أن حجم الاستثمارات العالمية لا يقارن بتلك التي تجذبها بريطانيا، حيث لا تتجاوز استثماراته الأجنبية 50 مليار دولار، ما يعكس التفاوت في القوة الاقتصادية والتكنولوجية بينهما. وينعكس هذا التفاوت أيضًا في العلاقات التجارية، حيث تظل مصالح بريطانيا هي الأهم، ما يجعل المغرب في وضع تبعية.
تطور خادع
في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد توقيع الاتفاقية، جرى تسجيل زيادة ملحوظة في صادرات المنتجات الزراعية المغربية لبريطانيا بعد اتفاقية بريكست، مع فرص لتنويع الصادرات وزيادة القيمة المضافة. كما توجد، وفق الادعاءات الرسمية، إمكانية جذب استثمارات بريطانية في القطاع الزراعي، واحتمال نقل التكنولوجيا والخبرات البريطانية في مجالات الزراعة الحديثة وإدارة سلاسل التوريد. بالتالي، فإن هذا من شأنه أن يُحسّن الإنتاجية والقدرة التنافسية للمنتجات المغربية في الأسواق الدولية.
لكن الأكيد هو وجود مخاطر الاعتماد الكبير على السوق البريطانية، ما يُعرّض الاقتصاد المغربي للتقلبات في هذه السوق. كما أن الفجوة الاقتصادية الكبيرة بين البلدين، وقوة الجنيه الإسترليني، تُشكّلان تحديًا لمنافسة المنتجات المحلية في السوق المغربية. أخيرًا، الأرجح أن تُبقي هذه الشراكة المغرب في وضعية تبعية، حيث تظل بريطانيا صاحبة اليد العليا في إملاء شروط الاتفاقيات. وأن التعاون التقني قد لا يكون كافياً لتجاوز التحديات الجمة التي تواجهها بلدان الجنوب العالمي في مواجهة الاحتكار التكنولوجي الإمبريالي.
يبدو جليا من التطورات الأخيرة في العلاقات المغربية البريطانية اعتماد المغرب الكبير على بريطانيا في مجال التصدير، خاصةً في المنتجات الزراعية، ما يجعله عرضة للتقلبات الاقتصادية والسياسية في بريطانيا، ويبقيه في وضع تابع إلى حد كبير.
إن اتفاقيات التبادل الحر، بما في ذلك اتفاقية الشراكة بين المغرب وبريطانيا، تُفاقم العجز التجاري للمغرب وتُزيد من تبعيته الاقتصادية. فهذه الاتفاقيات تبين بجلاء كونها شكلًا جديدًا من الاستعمار، حيث تُفرض شروط غير متكافئة على المغرب.
المطلوب عوضا عن اتفاقات الاستعمار الجديد من هذا القبيل هو شراكات مع دول الجنوب العالمي تتحدى الإملاءات الإمبريالية ومؤسساتها المالية والاقتصادية والتجارية… شراكات متوازنة بين أنداد تعزز العلاقات على كافة الصعد، بما يستدعيه ذلك من تصنيع للبلد والقطع مع تخلفه وتبعيته. تصنيع يزيد القيمة المضافة للمنتجات المحلية ويقوي صمودها أمام منافسة منتجات المراكز الإمبريالية. وأيضا ردم الفجوة التكنولوجية بين المغرب وبريطانيا، وغيرها من البلدان الإمبريالية، لأنها تُعيق قدرة المغرب على المنافسة. لذا من الضروري التركيز على الاستثمار في التكنولوجيا الحديثة، لتحسين الإنتاجية وجودة المنتجات. ولتقليل اعتماد المغرب على قطاع زراعي هش عليه تطوير قطاعات اقتصادية أخرى، مثل الصناعة الثقيلة، والطاقة المتجددة، والتكنولوجيا.
حواجز تحد من طموحات المغرب
تحدد اتفاقية الشراكة المغربية البريطانية حصصًا جمركية محددة للمنتجات الفلاحية والسمكية المغربية، مما يسمح بتصدير كميات معينة برسوم مخفضة أو معفاة. «ويعتزم البلدان، بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على تنفيذ الاتفاقية، مراجعة التعريفات الجمركية المتعلقة بهذه المنتجات، بهدف تحسين شروط التبادل التجاري بينهما». تتضمن الاتفاقية ملاحق تفصيلية تحدد الحصص الجمركية والجداول الزمنية، خاصة فيما يتعلق بقواعد المنشأ والبروتوكولات الزراعية. «هذه الملاحق تُفصّل المنتجات المشمولة بالحصص، الكميات المسموح بها، والجداول الزمنية لتخفيض أو إلغاء الرسوم الجمركية».
يجتمع مجلس الشراكة المغربية البريطانية دوريًا لمتابعة تنفيذ الاتفاقية وتحديث بنودها، كما حدث في الدورة الثانية التي عُقدت في الرباط في 16 فبراير 2023. تُعدّ الطماطم من أبرز المنتجات الفلاحية المصدرة، وتخضع لحصص جمركية محددة. «بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على دخول الاتفاقية حيز التنفيذ في يناير 2021، بدأ البلدان في مراجعة التعريفات الجمركية والحصص المطبقة على المنتجات الفلاحية والسمكية، بما في ذلك الطماطم».
شهدت صادرات الطماطم المغربية إلى المملكة المتحدة نموًا ملحوظًا، حيث صدّر المغرب حوالي 128.27 مليون كيلوغرام خلال الموسم الفلاحي 2023/2024، ما يمثل نحو 33.03% من إجمالي واردات بريطانيا من الطماطم. تحدد الاتفاقية حصصًا سنوية للحمضيات والأسماك، مع إمكانية زيادة تدريجية بنسبة 3-5% سنويًا. «تراجع لجنة مشتركة الحصص تُقيِّد الكميات المُستوردة سنوياً وتعدلها بناءً على الطلب». وتتخذ إجراءات الحماية عبر فرض رسوم مؤقتة إذا زادت الواردات بشكل مفاجئ. يجب أن تكون الطماطم مُنتجة بالكامل في المغرب للاستفادة من الحصة، مع تقديم شهادات منشأ معتمدة. «تُمنح الحصص عادةً لفترة محددة (مثلاً من أكتوبر إلى مايو) لدعم المزارعين المغاربة خلال المواسم التي لا تُنتج فيها أوروبا الطماطم بكميات كبيرة». تُوزع الحصة عبر نظام حصص فردية للمصدرين المغاربة المسجلين، وتُدار من قِبل المكتب المغربي للتصدير أو وزارة الفلاحة.
من الممكن أن تُقيّد الحصص الجمركية النمو المحتمل لصادرات المنتجات الفلاحية المغربية إلى المملكة المتحدة. فوجود حصص محددة للمنتجات، مثل الطماطم والحمضيات والأسماك، يضع سقفًا لكمية الصادرات التي يمكن للمغرب تصديرها إلى المملكة المتحدة بأسعار مُخفضة أو معفاة من الرسوم الجمركية. إذا تجاوزت الصادرات هذه الحصص، تُفرض رسوم جمركية قد تُعيق القدرة التنافسية للمنتجات المغربية في السوق البريطانية. وهذا وارد حتى بالنظر إلى أن زيادة الحصص تدريجيًا بنسبة 3-5% سنويًا لمواكبة نمو الطلب في السوق البريطانية. وهذا علما أن البلدان يعتزمان مراجعة التعريفات الجمركية والحصص المُطبقة على المنتجات الفلاحية والسمكية بشكل دوري لتحسين شروط التبادل التجاري، وكذا إلغاء التعريفات الجمركية على بعض المنتجات. هناك دعوات لإلغاء التعريفات الجمركية والحصص على المنتجات النباتية المغربية التي لا تُنافس المنتجات البريطانية.
تؤكد الاتفاقية التجارية بين المغرب وبريطانيا على استمرار التبعية الاقتصادية للمغرب، حيث ستظل البلاد تعتمد على المساعدات والقروض. هذه الشراكة لا تعكس سوى مصالح بعض المجموعات الفلاحية الكبرى، ما يهدد المنتجين الصغار في المغرب. كما أن السياسات الزراعية المعتمدة تركز على تصدير المنتجات عالية القيمة، ما يزيد من التبعية الغذائية ويعمق الأزمات الاقتصادية.
تتجلى آثار اتفاقيات التبادل الحر التي وقعها المغرب مع القوى الكبرى في تفاقم العجز التجاري، حيث بلغ معدل العجز حوالي 19% من الناتج المحلي الإجمالي. هذه السياسات أدت إلى زيادة الواردات على حساب الصادرات، مما أثر سلبًا على الاقتصاد المغربي. كما أن الاعتماد على المنتجات الزراعية للتصدير لم يحقق التوازن المطلوب في الميزان التجاري.
تترافق هذه التحديات مع تزايد المديونية، حيث بلغ الدين العمومي حوالي 87% من الناتج الداخلي الخام. هذه الديون مشروطة بإجراءات ليبرالية تعمق من فقدان المغرب لسيادته الاقتصادية. في النهاية، تعكس هذه الديناميكيات الاقتصادية والاجتماعية الفجوة الكبيرة بين المغرب وبريطانيا، مما يبرز الحاجة إلى استراتيجيات تنموية أكثر استقلالية وفعالية.
وعلى صعيد آخر، يواجه القطاع الزراعي المغربي تحديات كبيرة، بما في ذلك التغيرات المناخية والجفاف، ما يؤثر سلبًا على الإنتاجية وظروف العمل. رغم أن المغرب يعد من أكبر مصدري المنتجات الزراعية إلى بريطانيا، إلا أن الاعتماد على هذه الصادرات قد يجعل الاقتصاد المغربي عرضة للتقلبات. كما أن الظروف المعيشية للعمال الزراعيين تظل هشة، مع ضعف الأجور وعدم الاستقرار الوظيفي. يتطلب تحسين الوضع الزراعي في المغرب استثمارات كبيرة في التكنولوجيا والبنية التحتية، بالإضافة إلى إعادة النظر في السياسات الزراعية لضمان استدامتها وعدالتها الاجتماعية والبيئية.
تشير تقارير عديدة إلى أوجه قصور في إدارة المياه في المغرب، حيث يهدد التوسع في الزراعة المتعطشة للمياه واستمرار نقص التنظيم استدامة القطاع الزراعي. رغم وعود خطة إدارة المياه بدعم صغار المزارعين، إلا أن النتائج كانت مخيبة، حيث يعاني هؤلاء من نقص المياه والبنية التحتية، ما يؤدي إلى هجرة قروية كبيرة. كما أن اتفاقيات التجارة الحرة لم تحقق الفوائد المرجوة، بل زادت من العجز التجاري وأضعفت الاقتصاد المغربي. يتطلب الوضع إصلاحات شاملة لدعم التنمية المستدامة وتحسين الظروف المعيشية للسكان، مع التركيز على إلغاء الديون والاتفاقيات الضارة.
مفاقمة تدهور أوضاع الحياة والشغل المتردية أصلا
تشترط الاتفاقية مع بريطانيا الالتزام بالمعايير الدولية للصحة والجودة وسلامة الغذاء، ورغم عدم وجود متطلبات صريحة لشهادات المسؤولية الاجتماعية في الاتفاقية، إلا أن المصدرين المغاربة يعتمدونها كوسيلة لتعزيز تنافسيتهم في السوق البريطانية. ومع ذلك، فإن هذه الشهادات لا تعكس حقيقة ظروف العمل القاسية التي يعيشها العمال.
تشير البيانات الميدانية إلى أن المجموعات الزراعية تلتزم ببعض المعايير القانونية، مثل الحد الأدنى للأجور والتصريح لدى الضمان الاجتماعي، ولكنها لا توفر مزايا إضافية للعمال. يعاني العمال من ظروف عمل صعبة، حيث لا يحصلون على تعويضات عن العطل أو مزايا اجتماعية أخرى، ما يزيد من معاناتهم اليومية. كما أن وسائل النقل التي توفرها هذه المجموعات غالبًا ما تكون غير صالحة.
يُعد القطاع الفلاحي المغربي أحد أهم القطاعات الاقتصادية، لكنه يواجه تحديات كبيرة، مثل انخفاض الأجور، وعدم الاستقرار الوظيفي، وضعف الحماية الاجتماعية. كما تزيد التحديات البيئية التي تواجهها الزراعة المغربية من اختلالاتها، مثل الإجهاد المائي، واستنزاف المياه الجوفية، والتغيرات المناخية، فعلى سبيل المثال يُهدد الاستغلال المفرط للمياه الجوفية، بسبب التركيز على المحاصيل المتعطشة للمياه، استمرارية القطاع الزراعي على المدى الطويل، ناهيك عن كون الفجوة التكنولوجية بين البلدين تُعيق تحسين جودة منتجات المغرب الزراعية لتلبية المعايير البريطانية والأوروبية.
سيؤدي تضافر كل هذه العوامل إلى زيادة حدة تهور الوضع الاجتماعي للطبقة العاملة المغربية. تُظهر الشهادات أن العمال يعملون لساعات طويلة في ظروف قاسية، حيث يتعرضون لمبيدات سامة دون وسائل حماية. كما تعاني النساء العاملات بصورة خاصة من ظروف عمل غير ملائمة، حيث يضطررن للقيام بأعمال شاقة دون مراعاة لخصوصياتهن الصحية. كما أن غياب حضانات الأطفال في أماكن العمل يزيد من معاناتهن. ويواجهن أيضًا تحرشات جنسية في أماكن العمل، بالإضافة إلى ضغوطات من المسؤولين ضد العمل النقابي. تؤدي هذه الضغوط إلى تراجع دور النقابات وتقييد حقوق العمال-ات، مما يزيد من هشاشة أوضاعهم-هن. كما أن العاملات والعاملين يشعرون بأنهم مستهدفون من قبل الإدارة، ما يعيق قدرتهم-هن على التعبير عن مطالبهم-هن.
أخيرًا، يعاني العمال-ات من تدني الأجور التي لا تكفي لتلبية احتياجاتهم-هن الأساسية، ما يضطرهم-هن للجوء إلى القروض. تتفاقم أوضاعهم-هن المعيشية في ظل غلاء الأسعار، ما يزيد من مستويات الفقر والحرمان. يعيش هؤلاء العمال-ات في ظروف سكنية سيئة، ما ينعكس سلبًا على حياتهم-هن اليومية ويزيد من معاناتهم-هن.
القطع مع اتفاقات الاستعمار الجديد
من أجل بدائلَ تعتمد على السيادة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وكسر التبعية للرأسمال العالمي.
لتقدم المغرب ورفاهيته لا بد من بدائل قائمة على السيادة السياسية والاقتصادية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، والقطع مع التبعية للرأسمال العالمي ومؤسساته المالية والتجارية والاقتصادية… ولهذا من الضروري إلغاء الديون غير الشرعية وفرض سياسة مالية سيادية بإجراء تدقيق شامل للديون العمومية لتحديد الديون «غير الشرعية» (المقترضة لتمويل مشاريع فاشلة أو فاسدة) أو «الديون الكريهة» (المفروضة تحت ضغوط سياسية). كما أيضا رفض شروط صندوق النقد الدولي والبنك العالمي التي تفرض خصخصة الخدمات العمومية (الصحة، التعليم) وتقليص الإنفاق الاجتماعي، وتوجيه الموارد نحو القطاعات الإنتاجية كالصناعة التحويلية والزراعة الإيكولوجية، بدلًا من سداد الديون فوائدها.
ويقتضي الأمر أيضا إنهاء الاتفاقات الاستعمارية المسماة «شراكة» و»تبادلا حرا» مثل اتفاقية التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة. تلك الاتفاقات التي تفتح السوق المغربية أمام المنتجات الأجنبية المدعومة. وفرض رسوم جمركية وقائية لحماية الصناعات الناشئة (النسيج، الأدوية، المواد الغذائية) من المنافسة المدمرة.
فضلا عن ذلك، لا بد من بناء اقتصاد محلي متين قائم على السيادة الاقتصادية والغذائية والطاقية، إحدى ركائزه الإصلاح الزراعي عبر دعم الفلاحة الصغيرة بدلًا من الزراعة التصديرية المكثفة (مثل زراعة الطماطم أو الفراولة)، وحماية الأراضي الزراعية من الاستيلاء عبر صفقات الاستحواذ الرأسمالي على الأراضي. وتبني انتقال طاقي عادل بعيد عن متطلبات رأس المال بتطوير الطاقات المتجددة (الشمسية، الرياح) تحت السيطرة المحلية، وليس عبر شركات أجنبية تستحوذ على الموارد، كما هو حال مشروع «نور» للطاقة الشمسية في ورزازات ومشاريع تطوير الهيدروجين الأخضر الذي تستفيد منه الشركات الأوروبية.
من الملح أيضا تأميم القطاعات الاستراتيجية وفرض رقابة شعبية، وإعادة تأميم الخدمات العمومية مثل الماء والكهرباء والنقل، والتي جرت خصخصتها تحت ضغط المؤسسات المالية الدولية، وخلق صناعات عمومية في قطاعات مثل الصلب أو الكيماويات، لضمان سلاسل إمداد محلية. ومراقبة تحويل الأموال إلى الخارج عبر فرض ضرائب على الأرباح التي تحولها الشركات متعددة الجنسيات إلى مقارها الرئيسية.
ويستدعي هذا التوجه أيضا تعزيز التكامل جنوب- جنوب بدل التبعية للشمال عبر بناء تكتلات اقتصادية جنوب- جنوب مثل تعزيز التعاون المغاربي والإقليمي الأوسع، أو التكامل الأفريقي، أو التعاون مع بلدان جنوب أخرى في آسيا وأمريكا، بدل الاعتماد المفرط على أوروبا وأمريكا الشمالية أو التعويل على الإمبرياليات الصاعدة مثل الصين وروسيا، أو قوى إقليمية مثل دول مجلس التعاون الخليجي. سيتيح مثل هذا التعاون دعم الصناعات المشتركة مثل تصنيع الأدوية أو الأسمدة داخل القارة الأفريقية.
أيضا، لا بد من إصلاح النظام الضريبي بفرض ضرائب تصاعدية على الثروات الكبيرة، بدلًا من الإعفاءات الضريبية للشركات الأجنبية والرأسمال المحلي. ومحاربة التهرب الضريبي عبر تأميم النظام البنكي وإغلاق الملاذات الضريبية.
حماية حقوق العمال برفع الحد الأدنى للأجور وتحسين ظروف العمل، وضمان الشغل للجميع، والقضاء على الاستبداد السياسي والاستغلال الرأسمالي اللذان يخدمان الطبقات المالكة المحلية المتواطئة مع الشركات الأجنبية.
إن ما يحد حاليا من انتهاج هذا السبيل هو غياب الإرادة العمالية- الشعبية المنظمة لمواجهة سياسات التقشف والتبعية. لكن هذا البديل الإجمالي الذي من شأنه خلق إمكانية القضاء على الاستبداد والاستغلال، وفتح آفاق أرحب لمجتمع تشاركي حر ليس خيالا، بل تدعمه تجارب الشعوب المضطهدة، فالإكوادور مثلا أجرت تدقيقًا للديون عام 2007 وألغت جزءًا منها لكونه «غير شرعيِّ». ورفضت أيسلندا سداد ديون المصرفيين بعد أزمة 2008، ونجحت في التعافي دون خصخصة القطاع العام. أما جنوب أفريقيا ففرضت شرط «التكنولوجيا مقابل الاستثمار» في بعض القطاعات.
باختصار، السيادة الاقتصادية أو الانهيار. التوقف عن خدمة مصالح الشركات العابرة للقارات وإعادة توجيه الثروة الوطنية لصالح الأغلبية وبناء اقتصاد مستقل لا يكرّس التبعية. إنه بديل يواجه معارضة شديدة من الطبقات الحاكمة والمؤسسات المالية الدولية، لكنه يبقى الخيار اللازم، رغم أنه غير كاف، لتجنب استمرار النهب الاستعماري الجديد.
اقرأ أيضا