بوحمرون: صك اتهام آخر في وجه السياسة البرجوازية في قطاع الصحة

بقلم- ماسين

ما داء الحصبة (بوحمرون)؟
يُعد داء الحصبة مرضا شديد العدوى وخطيرا، ينتقل عبر الهواء ينتشر بسهولة عندما يتنفس شخص مصاب بعدواه أو يسعل أو يعطس، ويسببه فيروس يمكن أن يؤدي إلى الإصابة بمضاعفات وخيمة تصل إلى الوفاة، وفق منظمة الصحة العالمية نتيجة فيروس موجود في الأنف والحلق لدى الطفل أو الشخص البالغ المصاب الحصبة. ويمكن أن تصيب الحصبة أي شخص، ولكنها أكثر شيوعاً بين الأطفال. وتصيب الحصبة الجهاز التنفسي ومن ثم تنتشر في جميع أنحاء الجسم. ومن أعراضها الحمى العالية والسعال وسيلان الأنف وانتشار الطفح الجلدي في جميع أنحاء الجسم. وحسب الدعايات الصحية فالتلقيح ضد الحصبة أدى إلى تجنب أكثر من 60 مليون وفاة بين عامي 2000 و2023. وبالرغم من التطعيم الجماعي ضد الحصبة، فإن عام 2023 شهد تسجيل قرابة 10.3 ملايين حالة في جميع أنحاء العالم، ما أدى لوفاة 107 آلاف و500 شخص، معظمهم من الأطفال دون سن الخامسة.
شهدت الإصابات بالحصبة، ارتفاعاً بنسبة 20% في جميع أنحاء العالم سنة 2023 بسبب أوجه قصور مقلقة في تغطية التطعيم، على ما أظهرت دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية والمراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها (سي دي سي). وحدد مُعدو الدراسة حالات انتشار كبيرة لمرض الحصبة في 57 دولة في عام 2023، في جميع القارات باستثناء أمريكا، ونِصفها في أفريقيا، مقارنة بـ 36 دولة في 2022.
كيف تحول الداء إلى وباء بالمغرب؟
بدأت علامات الأولى لـ»بوحمرون» تسجل بالمغرب منذ سبتمبر 2023، لا بد من توضيح فترتين مهمتين، وهما الفترة قبل عام 2013 والفترة من عام 2014 حتى الآن. قبل عام 2013، كانت التوصية بجرعة واحدة من لقاح الحصبة في عمر تسعة أشهر، وذلك منذ إعادة هيكلة برنامج التطعيم الوطني في عام 1986. وبعدها في 1999 صدر قانون الأداء عن الخدمة العلاجية كأول خطوة في اتجاه تصفية مجانية الخدمات الصحية العمومية.
في 2025 وصلت الحصيلة لـ 120 حالة وفاة (جلها أطفال) و25 ألف إصابة، في ارتفاع غير مسبوق مقارنة بالسنوات الماضية، منذ ثمانينات القرن الماضي، حسب معطيات وزارة الصحة، فقد سُجلت 7633 إصابة لدى الأشخاص الذين أعمارهم ما بين 18 شهرا و11 سنة، و6429 حالة لدى الأشخاص ما بين 12 و36 سنة، و2028 حالة لدى من تجاوزت أعمارهم 37 سنة، و1893 حالة لدى رضع أقل من 9 أشهر، و1693 لدى من هم بين 9 شهور و17 شهرا والوفيات، فإن 42% سُجلت لدى أطفال أقل من خمس سنوات، و24% لدى أشخاص تفوق أعمارهم 37 سنة، و15% ما بين 18 و36 سنة، و12% ما بين 5 و11 سنة، و7% ما بين 12 و17 سنة.
تكمن خطورة الحصبة في أنه مرض معدٍ، إذ يمكن لشخص واحد أن ينقل العدوى لحوالي 15- 20 شخصا. ووفق مؤسسات الدولة فإن «الانتشار الوبائي لبوحمرون يثير المخاوف من احتمال حدوث تفشٍّ مماثل لأمراض أخرى مشمولة في البرنامج الوطني للتلقيح، حيث إن العامل المشترك بينها جميعًا هو تراجع نسبة التغطية بالتلقيح، وأن الامر غير عادٍ إذ الأمر يدعو إلى القلق، حيث نأمل أن يتوقف هذا الارتفاع في الإصابات، وألا نشهد موجات جديدة من أمراض يمكن الوقاية منها باللقاح؛ مثل الدفتيريا، والسعال الديكي، الكزاز الولادي، وشلل الأطفال».
دعايات الدولة ومخاوفها حول تفشي الوباء
تدعي الدولة من خلال مؤسساتها الرسمية أن السبب الرئيسي في تفشي بوحمرون هو «تراكم أعداد كبيرة من الأشخاص غير المحصنين؛ مما سهّل انتشار الفيروس بسرعة، إذ ينتقل من شخص مصاب إلى أفراد آخرين غير محصنين”، مؤكدة أن “التفشي لم يكن محصورًا في فئة عمرية معينة أو منطقة محددة، بل طال جميع الفئات العمرية وجميع أنحاء البلاد، مع تسجيل معدلات انتشار أعلى في بعض المناطق مقارنة بغيرها، ما يعزو تزايد المخاوف من ظهور مشكلات صحية أخرى إلى جانب وباء الحصبة؛ وهو ما يستوجب الحذر واليقظة تجاه أمراض مثل: السعال الديكي، والخناق، والكزاز، وحتى شلل الأطفال».
تعزو مؤسسات الصحة الأمر إلى تراجع تلقي اللقاحات الطبية في السنوات التي أعقبت جائحة كورونا وانتشار المعلومات المغلوطة تسببا في عودة داء الحصبة وانتشاره في المغرب خاصة بين الأطفال. وكذا امتناع بعض الآباء عن تلقيح أبنائهم يعود إما لعدم إعطائهم الأهمية الكافية لهذا اللقاح، أو لرفضهم المبدئي للتلقيح. مشيرةإللى أن هذا السلوك ليس جديدا؛ بل هو ظاهرة عالمية تعود لما قبل جائحة كورونا.
بالنسبة مديرية الأوبئة المشْكلة في التطعيم وأن جائحة كوفيد لها علاقة كبيرة بذلك، لأنه كان هناك انخفاض في التلقيح والمراقبة مع جائحة كوفيد. تراجع الإقبال على التلقيح عقبها بسبب انتشار الشائعات والمعلومات المغلوطة حول سلامة وفعالية وأهمية اللقاحات، وكذا التراكم المسجل في أعداد الأشخاص غير الملقحين الناتج عن عدم احترام الجدول الوطني للتلقيح المعتمد من طرف الدولة والذي يغطي مجموعة من الأمراض المعدية والخطيرة، مما أدى إلى تفاقم الوضع وزيادة انتشار وتفشي مرض الحصبة، ما يعني حسبها ارتفاع حالات الإصابة بالحصبة، بسبب انخفاض مستوى المناعة الجماعية، وتبرر ذلك بالاختلاط الاجتماعي الناتج عن السفر والرحلات والاجتماعات العائلية خلال العطلة المدرسية. مع ضرورة تأكيد أنه سينتشر بين الرضع والأطفال الذين سيولدون، وبالتالي تعتبر الإجراءات المتخذة على مستوى المدرسة ضرورية وجوهرية وحيوية لمكافحة الداء؛ لكنها مع ذلك لا تزال غير كافية، داعية إلى إجراء تحقيقات لفهم التراخي في مراقبة مستويات التطعيم وتوفير اللقاحات.
هذه التبريرات هي عملية ذر الرماد في العيون. فالمشكلة الأساسية بنيوية مرتبطة بالخيارات السياسية للنظام بقطاع الصحة ذي التوجه الرأسمالي.
توالي الكوارث يعري هشاشة الخدمة الصحية
تقصف الدولة عقول كادحي- ات المغرب بأضاليل لا حد لها بواسطة ترسانتها الإعلامية الكبيرة وبمؤسساتها الرسمية العديدة والخبراء المؤدى لهم، وفي أحيان أخرى بواسطة القيادات البيروقراطية للنقابات العمالية واحزابها الخاضعة أحيانا أخرى، ومن بين تلك الأكاذيب ما يطلق عليه اليوم «الدولة الاجتماعية» والتعويضات والحماية الاجتماعية والتغطية الصحية الشاملة.
عرت الكوارث و الأوبئة التي عرفها المغرب في السنوات الأخيرة (جائحة كوفيد 19 وزلزال الحوز، والآن وباء بوحمرون) الواقع الحقيقي لقطاع الصحة، حيث حجم الخصاص مهول في القطاع العمومي، سواء في المعدات والأدوية كما في الشغيلة بكل فئاتهم. يصل الخصاص في الأطر الطبية إلى 32 ألف طبيب- ة، و65 ألف ممرض- ة، زد على ذلك النقص في البنيات التحتية والتجهيزات الضرورية لخدمة صحية ذات جودة. و للإشارة أن في عز ارتفاع نسبة المصابين بداء بوحمرون عرفت المراكز الصحية نقصا حاد في فيتامين A الذي يدخل في بروتوكول العلاج من هذا الوباء ويجنب المرضى عواقبه السلبية (أمراض العين مثلا).
إذا كان النقص في الأطر الصحية والبنايات و الأدوية يصل إلى حد إهمال مصالح السكان وحقهم في الرعاية الصحية والعلاج، فإن النقص الكبير في أدوات العمل وسائل الحماية الفردية (كمامات ومحاليل التعقيم)، التي تؤكد الوزارة في خطاباتها ضرورةَ توفيرها، جاء ليتوج الوضع المتأزم بكارثة، مما يعرض حياة العاملين والمرضى على حد سواء لخطر العدوى.
هذا الواقع المر الذي فضحته الكوارث الطبيعية وانتشار وباء بوحمرون وقبله جائحة كورونا والقادم أخطر، هو نتاج تراكم طويل من السياسات النيوليبرالية في قطاع الصحة، تهدف إلى تسليع الخدمات الصحية وتشجيع القطاع الصحي الخاص، وهذا ما لاحظناه من توسع في عدد المصحات والمختبرات الخاصة التي لم تقدم أي دعم خلال جائحة كورونا ولا الآن مع انتشار وباء بوحمرون (مجانية التحاليل الطبية والاستشفاء في المصحات الخاصة لتخفيف الضغط على المستشفيات…).
شغيلة الصحة الذين تجندوا في فترة كورونا لوضع حد لتفشي الوباء في المجتمع يضحون بوقت راحتهم، في نكران ذات قل نظيره في غياب التحفيز المادي والمعنوي، بل يتعرضون لهجوم شرس على مكتسباتهم في الوظيفة العمومية، و التنكر لملفهم المطلبي و تلبية الاتفاقيات (على علتها) مع الوزارة.
لا يمكن التصدي بنجاعة للأوبئة والكوارث الطبيعية وقطاع الصحة يفتقد للسيادة، رغم كل مساحيق التجميل المملاة من المؤسسات المالية التي تروج لها الحكومة. وحده القطع مع سياسة الخوصصة وتسليع الخدمات العلاجية كفيل بوقف انتشار الأوبئة.
إن ماكشفته جائحة كوفيد 19 عن الوضع المتردي لخدمات الصحية هو عين الحقيقة، فكل الأكاذيب مثل: «الدولة غير قادرة على التمويل، الشراكة بين القطاع الخاص والعام، توفر القطاع الخاص على النجاعة والفعالية»؛ صدمت بحقائق الواقع وزاد من ذلك التباطؤ في ردة فعل حول وباء داء الحصبة (بوحمرون). فمنذ نهاية 2023 أصبح الوضع يتعقد ولم تتحرك الدولة إلا نهاية 2024 وبداية 2025، بعملية تلقيح جماعية لأطفال المدارس.
سيزداد تردي الوضع الصحي مع فتح المجال للقطاع الخاص واستيراد الأطر الصحية من الخارج، ورهن صحة الكادحين- ات لجشع المستثمرين الرأسمالين، فالنظام يطبق سياسة مفروضة من المؤسسات المالية العالمية التي تضع استراتيجية “إصلاح قطاع الصحة”، والتي تم اعتمادها اليوم في ما سمي الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية الاجبارية.
اليوم يفرض على المقهورين- ات دفع رسوم الاشتراك في الضمان الاجتماعي، بعد إيهامهم أن الاستفادة تكون مجانية والذي سيؤدي مستقبلا إلى عدم شمول أغلبية الشعب بالتأمين الإجباري عن المرض ولن تستفيد من التطبيب، وهي غير قادرة على الدفع محشورة بين ألم المرض الدائم أو الموت جراء أمراض قابلة للعلاج، وسيكشف تطور داء الحصبة ذلك، بالرغم مما تحاول مؤسسات الدولة وإعلامها ترويجه عن طبيعة اللقاح مما يضر بالأمن الصحي للبلاد، وأن اللقاح ضد الحصبة آمن وناجح ومجاني. لكن الذاكرة الشعبية لاتزال محتفظة بعاهات لقاح كوفيد ومخلفاته الصحية.

شارك المقالة

اقرأ أيضا