رأس السنة الأمازيغية: الحاجة إلى منظور عمالي تقدمي للنضال
بعد إعلان رأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية، انطلقت حملة دعائية ضخمة تجعل من المَلكية راعية حقوق الأمازيغ (اللغوية والثقافية)، واكتسى تخليد هذه الذكرى طابعا مزدوجا: 1) رسميا، تقوم به مؤسسات الدولة الوزارية والتعليمية والثقافية، وتختصر تاريخ القضية في مجهودات المَلكية والدولة؛ 2) وتجاريا/ فلكلوريا يحصر ذاك التخليد في الأزياء والمأكولات والمهرجانات. ومع ذلك توارى إلى باحة النسيان تاريخ نضال الأمازيغ ضد الاستبداد والاستعمار ونضال رواد الحركة الجمعوية من أجل تلك الحقوق.
تعتمد المَلكية آلية التدريج في الاستجابة للمطالب بطريقة تكرس صورتها في الذهنية الشعبية على أنها المؤسسة الوحيدة القادرة على نزع فتيل القضايا التفجرية بأقل كلفة. ومعها تنطلق حناجر الليبراليين الملكيين تصوِّر المَلكية على أنها أكثر تقدمية من المجتمع ذاته، في تغييب كلي للحركة التقدمية التي قمعتها المَلكية وهي تناضل من أجل تلك القضايا التي تدعي المَلكية حلها اليوم برعايتها السامية؛ ويصدُق هذا على الحقوق الأمازيغية وحقوق النساء… إلخ.
ومع كل تلك الدعاية الضخمة يستمر الاضطهاد بكل أشكاله. فبعد أكثر من عقد من إضفاء الطابع الرسمي على اللغة الأمازيغية في دستور الاستبداد سنة 2011، اقتصر «إنصاف» الأمازيغية على تزيين واجهات المؤسسات الرسمية والشوارع بحروف تيفيناغ، بينما يتعثر إدماج الأمازيغية في المدرسة العمومية (%40 فقط من المدارس الابتدائية، ولا يتعدى عدد مُدرسي- ات اللغة 2000… إلخ)، وتشتكي الجمعيات الأمازيغية من التباطؤ في تفعيل القوانين التنظيمية المتعلقة بالأمازيغية في التعليم والإدارة.
وبعيدا عن واجهة المؤسسات الرسمية، يُستبعَد من النقاش السياق الاقتصادي- الاجتماعي الذي دُمجت فيه الأمازيغية، فالتعليم المخرَّب بفعل عقود من سياسات التقشف النيوليبرالي والخوصصة، يقصي ملايين الأطفال ويدفع بأخرى إلى الهدر المدرسي، وقطاع خاص لا يستطيع ولوجه سوى القادرون- ات على الأداء.
أما العالم القروي فحدث ولا حرج. فسياسة نزع الأراضي وتعبئة الوعاء العقاري لصالح الرأسمال الخاص (المحلي والأجنبي) وتسييج الأراضي بآليات عدة (الملك الغابوي، المحميات الطبيعية)، تحصر صغار الفلاحين- ات في حيزٍّ يضيق باستمرار، يدفعهم- هن إلى الهجرة نحو المدن ومجالات الاستغلال الرأسمالي (المزارع بالخصوص) أو امتهان أساليب كسب عيش بائسة (التجارة على الرصيف والشيالة… إلخ).
أبرزَ الإعلام إلى الواجهة مظاهر الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة متحدِّثا عن تقاليد غذائية، لكن ساكتا عن أن السياسة الفلاحية للدولة والتغيرات المناخية قد قضت بشكل نهائي على الفلاحة المعاشية التي كانت أساس تلك التقاليد. وأصبح الاحتفال يكتسي طابعا تجاريا/ فلكلوريا، وهو ما تسميه الدولة في وثائقها «رأسمالا لاماديا»، ويعني ذلك رسمَلةَ كل مناحي الحياة البشرية وجعلها مصدرا لدر الأرباح، مع ما يخلفه ذلك من تدمير البيئة التي شكلت تاريخيا، إلى جانب أشكال الحياة الجماعية التعاونية أساس صمود لغة وثقافة عمرت آلاف السنين.
خلف كل هذا إذن يتوارى المضمون التقدمي والنضالي لقضية ديمقراطية دفعت أجيالا من الشبيبة إلى النضال والتسيس. وقد تمكنت الدولة، بتضافر مع منظور ليبرالي وبعد ذلك شوفيني يحصران الأمازيغية في بعدها الهوياتي المحض بعيدا عن الأبعاد الأخرى (الطبقية والجندرية)، من احتواء ذاك النضال ومن جعله مجالا للاستثمار السياسي والتجاري.
لا يزال قسم مهم من الشبيبة يندفع نحو القضية، إن لم يكن للنضال حاليا، فلتأكيد وجود واكتساب اعتبارٍ مفتقَد، في مجتمع لا يعترف إلا بالقيمة المالية للأشياء والبشر. هذا ما يفسر ظاهرة الإقبال الكثيف على اقتناء رموز تأكيد تلك الهوية (الأعلام و الأزياء).
لكن لا تزال جمرة النضال متقدة تحت الرماد، فأساتذة- ات وأستاذات الأمازيغية يحتجون ضد إدماج يعتبرونه مشوَّها في المدرسة العمومية، وسكان القرى وتنسيقيات «أكال»، تكافح من أجل الحفاظ واستراجع ما انتُزع من أراض فقراء الفلاحين- ات.
تظل النقيصة الكبرى هي غياب الحركة العمالية (النقابية بالأساس) عن هذه القضية، شأنها شأن القضايا الديمقراطية الأخرى (ومنها حقوق النساء أيضا)، وهذا ما يتيح طبعا لأيديولوجيي البرجوازية الحديث عن مَلكية أكثر تقدمية من المجتمع. يشكل الناطقون بالأمازيغية قسما مهما من شغيلة البلد وكادحيه وكادحاته، ويفرض هذا إدماج مطالبهم- هن في النضال العمالي بالمغرب، فهذا وحده القادر على ضمان تحقيق فعلي لها، وفي نفس الوقت اندراج ذلك التحقيق في بناء مجتمع تحرر فعلي من كل صنوف الاضطهاد الاجتماعي والطبقي والثقافي والجندري.
اقرأ أيضا