أُفقنا في العام الجديد 2025

الافتتاحية, سياسة12 يناير، 2025

بدأ العام 2024 بتوقف حراك التعليم بعد ثلاثة أشهر من الكفاحات غير المسبوقة بالقطاع، شهد تدفق طاقة النضال المتجاوزة لطوق التأطير البيروقراطي المتعاون مع الدولة، وانتهى العام بانتفاض شغيلة الزراعة في سهل سوس، حيث الدور الرئيس لفئة شغيلة «المُوقْف» غير المنظَّمين نقابيا، لكنهم أتوا فعلا نضاليا ميدانيا لم تسبق إليه نقابات القطاع ولا هي بحالتها الراهنة قادرة عليه.

هذه القوة النضالية الكامنة، المنبجسة بين فينة وأخرى، هنا وهناك، ونظيرتها المتنامية في قطاعات عمالية وأخرى شعبية، وتلك الجارية بما تبقى من مواقع كفاح نقابي، أبرزها حاليا لدى شغيلة الصحة، رغم تشتتها وضعفها النوعي، هي الوجه الآخر المشرق والباعث على الأمل في اللوحة الإجمالية الحالكة للوضع بالبلد، ضمن مشهد عالمي محفوف بمخاطر رجعية وفاشية متنامية، تشكل الإبادة الجارية بفلسطين أبلغ تجلٍّ عنها.
منذ هزم حراك الريف، وتعمق تعاون قيادات الحركة النقابية مع الدولة، وترتيب الآلية السياسية بالتخلص من «الإسلاميين» في حكومة الواجهة، وتشديد قبضة القمع بالحملة على حرية التعبير والتنظيم، لم يبق ما يربك سير تسريع الخطط النيوليبرالية، اقتصاديا واجتماعيا، على الصعيد الداخلي، وتوطيد تعاون النظام مع حلفائه الإقليمين والإمبرياليين خارجيا بما فيه التطبيع مع الدولة الصهيونية.
تسري بوتيرة جادة سياسة إفراط استغلال قوة العمل، لصالح رأس المال المحلي وحليفه الإمبريالي، ومعه تدمير البيئة، وتدبير تفجرية الوضع بتنازلات اضطرارية تفرضها هَبَّات نضالية، وبنهج «اجتماعي» مزعوم صوب أفقر الفقراء، ومزيد من الضبط القمعي. ولن ينتج عن هذا السريان غير تعاظم الاستياء والغليان العمالي والشعبي الذي سيجد، بلا أدنى ريب، منفذا للتعبير عن نفسه ميدانيا، بأماكن العمل وبالشارع على السواء.
قسم من الاستياء الشعبي تكظمه القوى الدينية، بالغة الانغراس في المجتمع، منها غير السياسية مباشرة، المتيحة عزاءً وتبريرا، وتلك السياسية المتراوحة بين إسناد سياسي للنظام، متظاهرة بمعارضة في «المؤسسات»، و بين»اعتراض ممانع» لا يترجَم في عمل سياسي. هذا فضلا عن المفعول المهدئ للدين على الجماهير الشعبية حتى البعيدة عن تأثير القوى الإسلامية المنظمة. وقسم آخر من الاستياء يجمده التوق إلى الهروب من البلد عبر دروب الهجرة إلى الخارج المتزايدة ضيقا بفعل سياسة المراكز الإمبريالية وتعاون دركييها المحليين.
مع ذلك، ورغم كل ذلك، يتجه الوضع نحو مزيد من تدفق طاقة النضال، فلدى الجماهير تجربة كفاح حققت طفرات منذ سنة 2011، ومجمل الحراكات الشعبية التي شهدها البلد منذ متم سنوات 1990. واستمرار موجة الغلاء، وتصاعد البطالة، وتكثيف الاستغلال، كلها عوامل ترفع حدة شحنة الاستياء ودرجة الغليان، أمر لن تزيده الهجمات المرتقبة على حقوق التقاعد ومكاسب مدونة الشغل، وتعميم خوصوصة الخدمات العامة، … إلا تفاقما.
أُمُّ المعضلات أن قوى النضال الناشئة، من جيل جديد دخل سوق العمل في العقدين الأخيرين، وتلك الصامدة في المناطق القروية المهمَلة، مثالها الأبرز راهنا يجري في فجيج، لم تُتَحْ لها الاستفادة من خبرة النضال العمالي والشعبي التاريخية، ولا من مقومات راهنة للسير قدما، بفعل تردي حالة منظمات النضال، النقابية منها بما آلت إليه بفعل توغل قياداتها في «الشراكة الاجتماعية» بنحو يجعلها آلية بيد الدولة لتدبير المسألة العمالية أكثر مما هي أداة نضال بيد الشغيلة ضد رأس المال ودولته. وسياسيا بفعل الحالة التي صار عليها اليسار، بعد انهيار القوى الاصلاحية المهيمِنة طيلة حقبة تاريخية، وعجز الواقفين على يسارها عن بناء منظمة نضال ذات قاعدة في الطبقة العاملة تؤهلها لأداء فعال في الصراع الطبقي.
هذا واقع يرفع مسؤولية الأقليات الثورية القائمة، بمختلف الهيئات وخارجها، في التعاون من أجل الإفادة المثلى من تنامي قوى النضال الكامنة بالتفاعل المتيح تنويرا حول الأهداف الإستراتيجية والآنية، وسبل النضال الأشد فعالية. ليس ثمة منظور إجمالي للنضال العمالي والشعبي، مرشدُ عمل اشتراكي عمالي، يوحد الأقليات الثورية القائمة.
إمكانات الفعل والفرص التي يتيحها تفاقم المسألة الاجتماعية لا تنتظر وستتبدد حتما، طالما ليس اليسار المنتسب إلى الطبقة العاملة في مستوى مهامه. وقد سجل التاريخ فعلا تفويت ما أتاح حراك التعليم من فرص التقدم، عبر الدفع لتعميمه، نحو إخراج الحركة النقابية من دركها الأسفل، وذلك بتعامل معظم اليسار المنتسب إلى الشغلية مع دينامية الأشهر الثلاثة بما هي محض نضال مهني فئوي.
واجب على اليسار العمالي، المفكَّك والضعيف حاليا، أن يضع الأسس لتنظيمات مستقلة وديمقراطية للنضال والفعل الذاتي، ولا سبيل غير العمل كي تكون هذه المنظمات متجذرة بعمق، ومُعبِّرة عن الطبقة العاملة وممثلة لها بشكل عضوي. ولتحقيق ذلك، يجب على كل المنتسبين- ات إلى قضية التحرر العمالي والشعبي الإسهام في بناء قوة متجددة طبق تغيرات الواقع، وأن نبقي أعيننا على الهدف ونوفر المنظور والالتزام اللازمين لتحقيقه.
لقد شهد المغرب على غرار الكثير من دول العالم، على مدى العقدين الماضيين، تحركات جماهيرية ذات أبعاد تاريخية وآفاق جذرية واعدة. لكن فشلنا الجماعي في ترجمة هذه الفرص إلى تنظيمات طبقية مستقلة ودائمة، وفي ولادة حزب للطبقة العاملة بكل تنوعها، ساهم في استمرار السياسات الرأسمالية والاستبدادية، ما يترتب عنها من معاناة للشغيلة وعموم الطبقات الشعبية.
يستوجب بناء أداة الكفاح السياسي الطبقي، التي بدونها تظل طبقتنا صفرا سياسيا ومحض وقود بشري للتراكم الرأسمالي ولحروبه الحتمية، تدريبَ جيل جديد من الكوادر، في سيرورة لا تنفصل عن بناء أدوات النضال اليومي، العمالية و الشعبية، انطلاقا من المقاومات الأولية بكل ما يَسمها من عفوية ونقص منظور إجمالي، وفي الآن ذاته من طاقة جبارة، أعطت عنها عاملات الزراعة في حراك 25 نوفمبر 2024 بسهل سوس صورة مثلجة لصدر كل مناضل-ة.

شارك المقالة

اقرأ أيضا