سوريا: سيناريو البلقان
بقلم؛ مات برومفيلد Matt Broomfield
18 ديسمبر 2024
لا يزال مستقبل سوريا غامضاً منذ سقوط بشار الأسد في حرب خاطفة في وقت سابق من هذا الشهر. وبينما يحتفل الملايين بحق بسقوط الديكتاتور، تتنافس القوى الكبرى – بما في ذلك الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل – للتأثير على التسوية السياسية الجديدة. وقد سيطرت الجماعة السلفية المتمردة «هيئة تحرير الشام» على الحكومة المركزية، ما أجبر عشرات الآف الشيعة والأقليات الدينية الأخرى على الفرار من البلد؛ ويخشى العلويون في المناطق الساحلية من انتقام النظام الجديد؛ وتواجه الجماعات الكردية في شمال شرق البلاد هجومًا من الميليشيات المدعومة من تركيا. وفي ظل هذه الخلفية المتوترة، يتمثل أحد أكثر السيناريوهات المعقولة في نسخة القرن الحادي والعشرين من المصير الذي حل بيوغوسلافيا السابقة. هناك، مهّد انهيار الدولة الطريق للصراع بين الأعراق، وبلغ ذروته في مذبحة 8000 بوسني في سريبرينيتسا والتقسيم النهائي للفدرالية الاشتراكية السابقة على أسس عرقية. أدّت الإصلاحات الهيكلية النيوليبرالية من جهتها إلى الركود الاقتصادي والبطالة وهجرة السكان، لصالح النخب المحلية والدولية.
ويرفض المؤرخ اليوغوسلافي أندريه غروباتشيتش الاستخدام البسيط لمصطلح «البلقنة» لوصف هذه العملية، لأنه ينطوي على رؤية قومية جوهرانية تجعل شعوب شبه جزيرة البلقان عاجزة عن التعايش السلمي. ويصرُّ، بدلاً من ذلك، على أنها «بلقنة من أعلى»: برنامج يرعاه الغرب لعمليات نقل السكان و»التدخلات الإنسانية» التي عمّقت العداوات الإقليمية من خلال خلق مجموعة من الدول العرقية الصغيرة. وقد أدى ذلك إلى ظهور نموذج «الاستقرار الديمقراطي»، حيث حقق رجال البلقان الأقوياء سلامًا نسبيًا عبر الحكم بقبضة حديدية، مع فتح اقتصاداتهم أمام التجارة من الشرق والغرب على حد سواء. وقد ساعد الاتحاد الأوروبي في دعم هذه الحكومات القمعية، وأبقاها في حالة خضوع دائم، مع حرمانها من أي احتمال حقيقي لنيل عضوية الاتحاد.
وعلى الرغم من اختلاف السياقات، لا يوجد ما يجعل هذا النموذج خاصا بالبلقان. فتركيا بزعامة رجب طيب أردوغان، التي احتفلت هذا العام بربع قرن من انتظار الضم إلى الاتحاد الأوروبي، يُسمح لها أيضًا بقمع الأقلية الكردية داخل حدودها وخارجها مقابل قمع ملايين اللاجئين السوريين وغيرهم من المهاجرين. ودون المبالغة في المماثلة، يمكن النظر إلى أذربيجان والمملكة العربية السعودية كنموذجين آخرين لـ «الاستقرار»، حيث تُستخدم علاقاتهما الوثيقة مع الغرب لتبييض أنظمتهما القائمة على هويات حصرية.
واليوم، يتردد الشعار نفسه على ألسنة قادة سوريا. وللحفاظ على استقرار البلد المزعوم، ينتهجون سياسة عدم اعتداء على القوات الإسرائيلية التي تحتل مساحات جديدة من الجنوب. وهم ينأون بأنفسهم عن روسيا – مقترحين عليها سحب قواتها التي كانت متمركزة في سوريا لدعم الأسد – ويتجهون إلى القوى الغربية، ويعيدون إقامة علاقات دبلوماسية معها ويضغطون فعلياً من أجل تخفيف العقوبات. عندما أدار رئيس الوزراء الانتقالي محمد البشير شبه دولة هيئة تحرير الشام في إدلب بين يناير/كانون الثاني وديسمبر/كانون الأول 2024، اعتمد جملة إجراءات «تحديث»، بما في ذلك تقنيات الحوكمة الإلكترونية وقوانين التخطيط الليبرالية. واليوم، تروّج حكومته للتحول من الحمائية إلى نموذج السوق الحرة: إزالة الضوابط التقييدية على الواردات وإضفاء الشرعية على التجارة بالدولار، ما أسعد المستثمرين الدوليين، الذين يتوقعون نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسب من رقمين لسنوات قادمة. يعد النظام أيضًا باحترام الأقليات الدينية، على الرغم من أنه من المفهوم أن تستمر معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية.
لكن، كما كان الحال في البلقان، قد تنهار أحلام اليوطوبيا النيوليبرالية. كانت إدلب، في ظل حكم هيئة تحرير الشام، حالة نموذجية لرأسمالية محاسيب: نظام احتكاري تهيمن فيه النخبة السياسية على واردات النفط، وبورصات العملة، وسوق المواد الغذائية، وحتى مراكز التسوق، بينما تقمع المنتفعين المنافسين أو المعارضين السياسيين. ومن المرجح توسيع هذا النظام الآن في جميع أنحاء سوريا، حيث تستفيد الزمرة المحيطة بالجولاني من أموال إعادة الإعمار بينما يملأ برنامج الخصخصة الحكومي جيوب رجال الأعمال التابعين للنظام (كما رأينا في بيع الأصول العامة في عهد الأسد.)
وبهذا المعنى، توضح هيئة تحرير الشام التوازن المتشكل بين الإسلام المتشدد والاقتصاد النيوليبرالي. وكما قال آصف بيات، لم يتمكن الإسلام الملتزم اجتماعياً في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، والذي تطور في تجاذب اختياري مع الحركة الشيوعية، من الصمود في مرحلة الانتقال ما بعد الحرب الباردة. وقد حل محله تدريجيًا تيار أكثر استنادًا إلى الهوية يجمع بين المحافظة والطائفية من جهة والنيوليبرالية والعولمة من جهة أخرى. كما استُخدمت الهوية العرقية أو الدينية، في دول غرب البلقان، غطاء لنقص خدمات اجتماعية ذات مغزى تسديها الدولة. وغالباً ما أجج المستبدون المشاعر الشعبوية المعادية للغرب لإلهاء قاعدتهم عن المصاعب الاقتصادية، بينما كانوا ينفذون إصلاحات نيوليبرالية مدعومة من الغرب.
وبالطبع، هناك انقطاعات جلية بين السياسة الأمريكية الانتصارية في التسعينيات ومقاربتها للوضع الحالي. فبعد فترة من نزعة تدخلية قصوية، بدأت شهية الولايات المتحدة المهيمنة في شن حملات القصف المباشر لخصومها من الدول في التراجع. وأستعيض عن الحروب الجوية، من قبيل «الصدمة والترويع»، عهد كلينتون وبوش باللجوء المتزايد إلى مجموعات مختلفة من الوكلاء الحكوميين وغير الحكوميين من البلقان إلى الشرق الأوسط. وفي عهد أوباما، وجهت عمليتا «تيمبر سيكامور» و»تدريب وتجهيز» الموارد إلى ما يسمى بـ «الثوار المعتدلين» في سوريا، لكنها لم تحقق سوى القليل من الضربات المهمة ضد الأسد، حيث سرعان ما تم التغلب على المقاتلين المدعومين من الولايات المتحدة من قبل التنظيم السابق لهيئة تحرير الشام، جبهة النصرة. وفي الوقت نفسه، دعم التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الجناح العسكري للفيدرالية التي يقودها الأكراد والمعروفة باسم الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا في حربها ضد داعش. بعد هزيمة داعش، تراجع عدد الضربات الجوية الأمريكية المعلنة في العراق وسوريا من بضع عشرات الآلاف إلى 20 ضربة جوية فقط في عام 2022، وأصبحت الولايات المتحدة تعتمد بشكل متزايد على تركيا وإسرائيل لتعزيز مصالحها الإقليمية. لذا لم تكن الحملة الجوية الأمريكية، بل الضربات العقابية التي وجهتها إسرائيل لحلفاء الأسد الرئيسيين – إيران وحزب الله – هي التي مهدت الطريق أمام هجوم هيئة تحرير الشام على دمشق.
كيف سترد الولايات المتحدة على الوضع الجديد على الأرض؟ لطالما كان وجودها في شمال البلاد مبررًا بتهديد تنظيم داعش، لكنه كان يهدف أيضًا إلى منع إيران من إقامة منطقة نفوذ متاخمة لطهران والبحر المتوسط. وقد يكون سقوط الأسد قد غيّر كل ذلك. فخلال الأسبوعين الماضيين، تفرقت القوات الموالية لإيران، في حين تقدمت الميليشيات المدعومة من تركيا إلى أراضي الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا غرب الفرات، وتأمل في إنهاء المهمة في المناطق الشرقية حيث لا تزال الولايات المتحدة متمركزة. ويبقى أن نرى ما إذا كانت الإدارة الأمريكية الجديدة ستمنح تركيا الإذن بتوسيع احتلالها ليشمل جميع أراضي الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا أم لا. وقد أكدت الولايات المتحدة لأنقرة منذ فترة طويلة أن تعاونها مع الحركة الكردية المسلحة كان «مؤقتًا وتعامليًا وتكتيكيًا». وقد سعى ترامب إلى سحب القوات الأمريكية في عام 2019، ما فتح الباب أمام الغزو التركي المدمر المسفر عن مقتل المئات وتشريد مئات الآلاف. وقد أكد مؤخراً بأن الولايات المتحدة يجب ألا يكون لها «أي شأن» بسوريا، على الرغم من أن المحافظين الجدد في حكومته قد يختلفون معه.
إن انسحابا أمريكيا لن يسمح للسوريين بتقرير مصيرهم بأنفسهم. وبدلاً من ذلك، سيدشن مرحلة جديدة من الصراع، حيث ستفسح القوات الأمريكية على الأرض المجال لبلقنة للصراع من فوق. وكجزء من هذه العملية، يمكن للقوى الكبرى أن تعتمد على القوى الإقليمية ضامنة الاستقرار في المنطقة للقيام بعملها القذر نيابة عنها: تصفية الفيدرالية التي يقودها الأكراد وتقسيم سوريا بين إسرائيل وهيئة تحرير الشام وتركيا. ومع أمل روسيا في الاحتفاظ بقواعد عسكرية على ساحل البحر الأبيض المتوسط العلوي وربما الترحيب بسوريا الجديدة ضمن مجموعة البريكس، قد يتمكن الجولاني من تكرار خفة اليد في غرب البلقان عبر مصادمة موسكو وبروكسل بعضهما مع بعض. ولكن من المرجح، كما هو الحال في غرب البلقان، أن تكون نتيجة هذه المقاربة المزيد من إراقة الدماء بين الأعراق. وسيدعو البعض إلى حل من خلال عمليات نقل السكان، ما سيؤدي إلى تفتيت المجتمعات المختلطة التي نجت من الحرب الأهلية التي استمرت ثلاثة عشر عامًا – ويصب في مصلحة الطائفيين مثل الجولاني.
إن الصدمة التي رافقت تفكك يوغوسلافيا تعني أنه لم يكن هناك أي احتمال واقعي لـ «البلقنة من الأسفل»، والبناء على تاريخ المنطقة في التعاون بين الأعراق لإقامة فيدرالية تعددية جديدة. لكن في سوريا، يمكن أن تشير تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا متعددة الأعراق، التي يضم نحو أربعة ملايين نسمة، وحيث يتعايش الناشطون الأكراد اليساريون والجماعات العربية المحافظة بسلام، إلى طريق ممكن للمضي قدماً. وقد تجنبت هيئة تحرير الشام والإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا في معظمها الصراع على مدى الأسبوعين الماضيين من التغيير الإقليمي الدينامي. فهل يمكن للضغط الشعبي أن يؤدي إلى تقاسم السلطة بينهما؟ الاحتمالات ضئيلة، وربما تعني البراغماتية النيوليبرالية لهيئة تحرير الشام أنها ستختار الطريق الأقل مقاومة: السماح لشركاء الغرب الإقليميين السلطويين بأن يصبحوا أسياد سوريا المجزأة والتشكيك في بقاء الدولة الكردية المصغرة. لكن في هذه المرحلة، لا شيء محسوم سلفاً.
المصدر: موقع مجلة اليسار الجديد New Left Review
https://newleftreview.org/sidecar/posts/the-balkan-scenario
اقرأ أيضا