الخطل في تقييم نضالية الشغيلة والجماهير الشعبية

سياسة24 نوفمبر، 2024

بقلم؛ م.ج

ظهر قسم من اليسار الجذري المغربي، المنتسب إلى كفاح الطبقة العاملة، في حقبة تاريخية يحكمها سياق تاريخي مطبوع بتصاعد الثورة العالمية على جبهاتها الثلاثة، البلدان الرأسمالية المتقدمة، والدول العمالية المبقرطة [*]، والعالم المستعمر وشبه المستعمر. كان ذلك في ستينات القرن الماضي حتى منتصف سبعيناته. وقد كان هذا اليسار الجذري متدافعا مع اليسار الاصلاحي، المتجسد في كل من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب التحرر والاشتراكية (اسم الحزب الشيوعي المغربي آنذاك). كان اليسار الجذري يصارع بفكرة أن الجماهير في مستوى متقدم من القتالية، متجاوزة للنزوع الإصلاحي، ومؤهلة للسير نحو الثورة. وقد غلب منظور حسم مسألة السلطة السياسية على اليسار الجذري بناء على ثنائية أزمة النظام المتفاقمة وتصاعد كفاحية الجماهير العمالية والشعبية المتواصل. ورغم الانتكاسات المتتالية لليسار الجذري وأزمته العميقة، وانزلاق قسم كبير منه، منظمة 23 مارس بكاملها وجزء من منظمة إلى الأمام، إلى مواقع إصلاحية، ظل النظر إلى كفاحية الجماهير العمالية والشعبية معتبرا أنها دائمة وفي تصاعد، دون تحليل ملموس لواقعها الحي، واستجلاء العوامل المؤثرة فيها صعودا وهبوطا. ورغم تسجيل انطفاء نضالات، وتقدم الهجوم البرجوازي، يستمر الحديث عن انتشار النضالات، ولا يندرج ذلك ضمن رؤية تقييمية إجمالية تفضي إلى استنتاجات يُسترشد بها في تعيين صائب لمهام الساعة.
وعلى امتداد التطورات التي شهدها هذا اليسار وصولا الى خريطته الراهنة، استمر اعتبار كفاحية الشغيلة والجماهير الكادحة تتبع خطا تصاعديا. أكثر ما يؤسس عليه هذا الحكم سرد لنضالات اللحظة خارج مجرى التطور العام لتلك الكفاحية. ولعل بيانات التيارات الطلابية، وامتداداتها في منظمات النضال، هي ما يعرض صورة كاريكاتورية لهذا التناول غير الموضوعي لواقع النضالات، حيث يطغى التمجيد الأجوف، بعيد عن كل تحليل ملموس للواقع الملموس.
ولا تزال قائمة في تحليل معظم اليسار الجذري رواسب تلك الرؤية غير الموضوعية، المُسقِطة للرغبات على الواقع. نأخذ مثالا حديثا من وثيقة صدرت هذا الشهر، جاء فيها:
«في ظل هذا الواقع المتأزم، تواصل الطبقة العاملة والجماهير الشعبية خوضها للصراع الطبقي الذي يتخذ حاليا شكل مقاومة شعبية ونضالات عمالية منتشرة في مختلف المناطق والقطاعات الإنتاجية والخدمية وغيرها، كما هو الشأن بالنسبة للنضالات الشعبية في المناطق المهمشة حراك فكيك ضحايا الزلزال – ساكنة تغيغاشت بإملشيل سيكوميك كوباك جودة… ونضالات شغيلة الصحة والعدل والتعليم والعمال الزراعيين وطلبة كليات الطب والصيدلة والمعطلين نضالات الجبهة المغربية لدعم فلسطين وضد التطبيع….»
الاستنتاج الذي يوحي به هذا السرد ان النضالات مستمرة وكثيرة ومتنوعة. إن جردا من هذا القبيل ممكن دائما لكنه لا يفيد في فهم دينامية النضالات. مجرد سرد كيفما اتفق. فالأمثلة الواردة في المقطع أعلاه معبرة عن اعتباطية الصورة المرسومة، مثلا معركة شغيلة كوباك-جودة هي عمليا في حكم المنتهية، بعد طرد النقابيين وبقاء عناصر قليلة صامدة تخوض أشكال نضال يائسة لا تأثير لها على ر ب العمل، وسط عزلة قاتلة. هذا فضلا عن كون السمة الغالبة في النضالات النقابية، لا سيما في القطاع الخاص، هي أنها تجرى في آخر خطوط الدفاع (ضد الطرد من العمل ومشكل تأخير الأجور…)، وهذا ينطبق على معركة ذات نفس منذ شهر يوليوز، عنينا معركة شغيلة مناجم بوازار والدرع الأصفر (شركة طوب فوراج المناولة لدى مجموعة مناجم/ مدى).
لا حديث بتاتا عن الإخفاق والهزيمة. ثمة خشية من قول حقيقة أن حراك 20 فبراير وحراك الريف، مثلا، قد منيا بهزيمة. وأن الهزائم متتالية على جبهات عدة. إن منطلق الفعل النضالي هو قول ما هو كائن، قوةً وضعفا، نصرا وهزيمة وما بينهما. الإقرار بالواقع وخصائصه، والبحث عن أسبابها، منطلق تحديد خط نضال مطابق يساعد على إنماء قوى النضال كما ونوعا.
وطبعا تؤثر هذه الانطباعية المتسرعة في توصيف واقع النضالات على الاستنتاجات السياسية. فبعد المقطع أعلاه، تواصل الوثيقة على النحو التالي:
«لكن هذه النضالات تبقى مشتتة وتفتقر للحاضنة السياسية والاجتماعية الضرورية لتوحيدها وضمان نجاحها في تحقيق أهدافها بسبب العجز لحد الآن عن بلورة البديل السياسي الديمقراطي الشعبي الجبهة السياسية الشعبية الواسعة القادر على تغيير موازين القوى لصالح التغيير الديمقراطي الحقيقي».
استنتاج مغلوط: «النضالات مشتتة ولا حاضنة سياسية توحدها بسبب العجز عن بناء جبهة سياسية شعبية تغير ميزان القوى لصالح التغيير الديمقراطي»!. أليس العجز عن بناء تلك الجبهة سببا سابقا للضعف وليس مجرد نتيجة؟ ضعف النضالات العمالية له جذر موضوعي في إضعاف الشغيلة بهشاشة علاقة الشغل، وبمستوى بطالة عال، وبقمع التنظيم، وآخر ذاتي في منظماتها حيث يسبب الخط البيروقراطي السائد إضعافا بدأبه على شل منظمات النضال بسياسة «الشراكة الاجتماعية»، أي التعاون مع الخصم الطبقي. وما يكرس هذا الضعف الذاتي انعدام خط مقاوم للبيروقراطية بناء على منظور لخوض النضال وبناء منظماته (اليسار النقابي).
تحليل النضالات العمالية والشعبية أمر جدي على نحو بالغ، يتطلب رصدا معتمدا إحصاء الإضرابات، وسائر أشكال النضال، عدداً وحجمَ مشاركةٍ، ونوعيةَ مطالب. ليس إحصاءات الدولة وحدها –إن وجدت- بل رصدا كميا ونوعيا دقيقا يجب أن تنهض به المنظمات النقابية، أجهزة ومناضلين/ات. وضع تقارير دورية عن المعارك الجارية وخصائصها مهمة نضالية مغيبة كليا. وجلي أن التشخيص ذاته منطبق على النضالات الشعبية.
يمثل هذا الجانب من المهام النضالية إحدى أدوار الساعين إلى بناء حركة نضال عمالي وشعبي قوية، وإحدى وظائف إعلام عمالي كفاحي.
====[*] كانت الطبيعة الستالينية ليسار المغرب الجذري تعميه عن اعتبار نضالات الطبقة العاملة ضد البيروقراطية المغتصبة سلطتها في الدول العمالية المبقرطة التي كانت تسمى زورا بالاشتراكية (انتفاضات الشغيلة في المانيا 1953، وهنغاريا 1956 وتشيكوسلوفاكيا 1968…).

شارك المقالة

اقرأ أيضا