لبنان: بلد هش يغدو جبهة حرب جديدة

بقلم؛ جوزيف ضاهر

يواجه لبنان، الذي طالما كان في صلب صراع إقليمي، اضطرابات جديدة مع تصعيد إسرائيل لعملياتها العسكرية التي تستهدف حزب الله، في سياق توترات أوسع نطاقاً ووضع داخلي هش لا يزال ينهض من سنوات أزمة اقتصادية واجتماعية.

يندرج التصعيد العسكري الإسرائيلي الراهن ضد لبنان ضمن آلة حرب اسرائيلية تواصل ارتكاب إبادة جماعية في غزة وقصف سوريا واليمن وإيران، مهددة بحرب إقليمية أوسع. ليست هذه أول مرة تشن اسرائيل حربا ضد لبنان، مبررة دوما بكونها ذات «هدف محدد» ضد منظمات تعتبرها تل أبيب إرهابية.كان الأمر يتعلق في الماضي بمنظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية اليسارية، واليوم بحزب الله. بالنسبة للبنان، تندرج حرب اسرائيل الحالية أيضًا ضمن سلسلة أزمات بدأت بالانتفاضة الشعبية في 2019 وما تلاها من قمع، واستمرت مع جائحة كوفيد وانفجار المرفأ وفراغ السلطة وانهيار الاقتصادي كان لبنان بدأ بالكاد يتعافي منه.
لبنان: بلد في قلب الصراع العربي الإسرائيلي
نال لبنان استقلاله عام 1943 بعد الانتداب الفرنسي المفروض عليه عام 1920. وينظم التمثيل السياسي في لبنان باعتماد معايير طائفية. ويمثل النظام الطائفي اللبناني (شأن الطائفية بوجه عام) إحدى الأدوات الرئيسية بيد الطبقات الحاكمة لتعزيز سيطرتها على الطبقات الشعبية، بإبقائها تابعة لزعمائها الطائفيين.
نظام سياسي طائفي
وُلد النظام الطائفي اللبناني موازيا لتطور الرأسمالية اللبنانية وبتفاعل مع الهيمنة الاستعمارية الفرنسية. فمنذ استقلال لبنان عام 1943، خدمت الطبيعة الطائفية للدولة اللبنانية النخب السياسية والاقتصادية للمجموعات الطائفية الحاكمة، التي اعتمدت على التوجه الاقتصادي للبلد نحو السوق الحرة لتعزيز سلطتها. وتنامت هذه السلطة بعد انتهاء الحرب الأهلية في عام 1989.
تبنّت الحكومات اللبنانية المتعاقبة سياسات نيوليبرالية أدّت إلى تعميق الخصائص التاريخية للاقتصاد اللبناني: نموذج تنموي يتمحور حول الانشطة المالية والخدمات، حيث التفاوت الاجتماعي والتباينات المناطقية واضح جداً.
تبعات النكبة في لبنان
تأثر لبنان منذ البداية بولادة دولة إسرائيل أو النكبة عام 1948. فبالإضافة إلى جرائمه ضد الفلسطينيين، ارتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي المحدث جرائم في لبنان في تلك الفترة، لا سيما في قرية الحولة في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 1948، حيث ارتكب في يومين مجزرة بحق جميع المدنيين الباقين فيها. كما استقبل لبنان أكثر من 100.000 لاجئ فلسطيني. أنشأت الأمم المتحدة 16 مخيماً رسمياً للاجئين الفلسطينيين في لبنان. وربما تجاوز عدد اللاجئين الفلسطينيين في ذروته نصف مليون لاجئ، أي أكثر من 10% من مجموع سكان لبنان، رغم أن الأونروا تقدر عددهم الآن بحوالي 250.000 لاجئ.
أصول الحرب الأهلية من 1982 إلى 2000
عانى لبنان بعد ذلك من اعتداءات عديدة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي ومن عدة اجتياحات وحروب. في العام 1978، اجتاح جيش الاحتلال الإسرائيلي جزءًا من جنوب لبنان لمحاربة المقاومة الفلسطينية. وبعد أربع سنوات من هذا الغزو، شنت دولة إسرائيل غزوًا جديدًا امتد هذه المرة إلى العاصمة بيروت.
كان الاجتياح الذي أطلق عليه اسم «السلام من أجل الجليل» عام 1982 يهدف إلى القضاء على المقاومة الفلسطينية والوجود السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية والقوى التقدمية اللبنانية، وتثبيت نظام صديق في بيروت.
وفي هذا الإطار، تعرضت العاصمة لحصار قاتل وقصف مكثف أدى في النهاية إلى طرد قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت إلى تونس في عام 1982. وفي أعقاب هذا الخروج القسري لمنظمة التحرير الفلسطينية، ارتكبت مجازر صبرا وشاتيلا الرهيبة في أيلول/ سبتمبر 1982، تحت مسؤولية الاحتلال الإسرائيلي.
دور حزب الله بعد عام 2000
ارتبط إنشاء حزب الله وتطوره تاريخيًا بعناصر مختلفة، من اجتياح جيش الاحتلال الإسرائيلي للبنان عام 1982 واحتلاله للبلاد حتى عام 2000، وكذلك بالديناميات السياسية والمشاريع الإقليمية للجمهورية إيران الإسلامية. انتهى احتلال جنوب لبنان في عام 2000 بانسحاب القوات الإسرائيلية باستثناء مزارع شبعا، وهي منطقة متنازع عليها بين لبنان وسوريا.
وفي عام 2006، شنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي حرباً جديدة على لبنان بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، أسفرت عن مقتل أكثر من 1200 شخص بينهم 270 مقاتلاً من حزب الله. وخسرت إسرائيل أكثر من 150 شخصًا، معظمهم من الجنود. وعلى الرغم من عدم التكافؤ في الخسائر والقوة العسكرية – وكلاهما في صالح إسرائيل إلى حد كبير – فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها المتمثلة في إضعاف شديدي لحزب الله، سواء على الصعيد السياسي أو العسكري، وهو ما اعتبره حزب الله نجاحًا سياسيًا.
وفي الآن ذاته، وهذا فرق كبير مع الحرب الإسرائيلية الحالية على لبنان، لم يُقتل أي قيادي بارز في حزب الله خلال 33 يوماً من الحرب، رغم محاولات جيش الاحتلال الإسرائيلي العديدة بما في ذلك إلقاء 22 طناً من القنابل على مخبأ في بيروت يفترض أن يكون فيه أعضاء كبار من حزب الله، أو فشل اختطاف قادة بارزين في الحزب.
بعد حرب عام 2006، لم تشهد الحدود الإسرائيلية اللبنانية سوى عدد قليل من الحوادث الأمنية التي وقع معظمها بين عامي 2013 و2014، بعد اندلاع الانتفاضة السورية. وقد رد حزب الله عسكرياً على العديد من التوغلات الإسرائيلية.
لبنان: بعد 7 أكتوبر 2023
بعد اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، أعلن حزب الله استراتيجية «وحدة الساحات»، التي كان الهدف منها ربط الجبهة اللبنانية بجبهة غزة. وكان هدف الحزب في البداية إظهار التضامن مع حلفائه السياسيين الفلسطينيين وإظهار المصداقية في تعبئة خطاب المقاومة، مع السعي لحماية مصالحه وتحالفاته المرتبطة بإيران في المنطقة.
عمليات حزب الله العسكرية المحسوبة
وكانت الأهداف الأولى للحركة اللبنانية هي مزارع شبعا الواقعة في الأراضي اللبنانية المحتلة وليس في الأراضي الإسرائيلية مباشرة. وفي وقت لاحق، استهدفت الهجمات مواقع عسكرية إسرائيلية. ومع ذلك، ظلت عمليات حزب الله العسكرية محسوبة ومعتدلة نسبياً مقارنة بعنف الهجمات الإسرائيلية، بهدف تجنب حرب مفتوحة مع إسرائيل.
لكن لا شك أن الحزب لم يكن يعلم أن حرب الإبادة الجماعية على غزة ستستمر كل هذه المدة، وأن إسرائيل ستكثف هجماتها على لبنان إلى هذا المستوى البالغ، بدعم كامل من الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الكبرى مثل فرنسا.
رفض الشعب اللبناني لسياسة «وحدة الساحات»
في منتصف شهر أيلول/سبتمبر 2024، تسارعت وتيرة العنف الدموي للاحتلال الإسرائيلي بتصعيد عسكري وعمليات إرهابية أسفرت عن مقتل نحو 570 شخصًا، غالبيتهم العظمى من المدنيين، بينهم 50 طفلًا، وآلاف الجرحى. وأعقب ذلك حملات قصف واسعة النطاق استهدفت اغتيال كبار قادة حزب الله العسكريين والسياسيين، فضلاً عن مقتل نحو ألفي مدني ونزوح أكثر من مليون شخص.
لذلك بات الدفاع السياسي عن وحدة الساحات صعبا أكثر فأكثر سياسياً بين اللبنانيين. فالكلفة التي يتحملها لبنان باهظة باطراد، وحزب الله لا يريد أن يستغل خصومه السياسيون هذا الصراع في الداخل، على نحو يجعله المسؤول الأول عن كل مصائب البلد.
يوجد حزب الله في أخطر وضع منذ تأسيسه، ولا تلوح في الأفق نهاية له، حيث تواصل إسرائيل حربها ضد لبنان، مستهدفة أيضاً بنية الحزب التحتية ومقدراته. أما على الساحة الوطنية، فمن المرجح أن تزداد عزلته السياسية والاجتماعية بين سكان لبنان.
بناء رؤية للمجتمع بديلة
على الرغم من الحرب الإسرائيلية والأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي يمر بها البلد، تنشأ أشكال تضامن مع المهجرين في جميع أنحاء البلد، حتى وإن استمرت التوترات السياسية. لا يوجد حاليًا بديل سياسي تقدمي منظم في البلد يتمتع بقدرة عمل كبيرة، على الرغم من المحاولات الفاشلة في السنوات الأخيرة لبناء مثل هذا المشروع، لا سيما بعد الانتفاضة الشعبية في عام 2019. وتبقى الحاجة إلى بناء مشروع هيمنة مضادة حقيقي متجذر في الطبقات الشعبية في البلد وبتحالف مع قوى اجتماعية مستقلة مثل النقابات العمالية والمنظمات النسوية والمناهضة للعنصرية، ضرورة لمستقبل الطبقات الشعبية في البلد، ولكن يجب أولاً وقف آلة الحرب الإسرائيلية.
المصدر: Point de vue international

شارك المقالة

اقرأ أيضا