ضد نظرية «جنين الحزب»
6 أيار/مايو عام 2024 بقلم هنريك كناريه
تتبنى بعض المنظمات اليسارية الراديكالية نظرية تسمى نظرية «جنين الحزب». لم تتم صياغتها في أي مكان بعبارات محددة، لكنها موجودة ومنتشرة. تظهر في كراسات ومبادئ توجيهية تنظيمية ونقاشات. ماذا تقول هذه النظرية؟ تؤكد اجمالا، أن تيارًا صغيرًا من مناضلين، يبلغ عددهم عمومًا بضع مئات من المناضلين (وأحيانًا بضع عشرات)، هو–لا أكثر ولا أقل–«جنين» حتى الحزب الثوري مستقبلاً والذي سيقود الجماهير ويستولي على السلطة ويمارس ديكتاتورية البروليتاريا ويبني الاشتراكية ويحقق الشيوعية..
من نواحٍ، تبدو هذه النظرية بسيطة. فهم لا يقولون «نحن الحزب». بل يعلنون وحسب «نحن جنين هذا الحزب مستقبلاً». وبعبارات أخرى، لا يزال علينا أن نتطور، ونصبح أقوى، ونستوعب الكثير، وعندها نؤدي دورنا التاريخي. لكن هذا مجرد مظهر من مظاهر البساطة. إنها في الأساس نظرية متغطرسة إلى حد ما. لماذا؟ لأسباب عديدة.
لأنها بدايةً، تفترض أن الثورة المرتقبة ستقودها منظمة اشتراكية واحدة ضد جميع المنظمات الأخرى. «سنبني صفوفنا ضد كل شيء وضد الجميع، دفاعاً عن البرنامج الحقيقي والاستراتيجية الاشتراكية والثورية بالفعل». وبعبارة أخرى، هذا تصور ديني تبشيري، مفاده أن منظمة اشتراكية تتطور خطيًا انطلاقاً من مجموعة دعائية صغيرة إلى أن تصل «النضج» (إمكانية تحدي السلطة)، تمامًا كما ينمو جنين ببساطة ليصبح فردا بالغا.
من أين يأتي هذا التصور؟ ربما من فهم أحادي الجانب لتاريخ الحزب البلشفي. ظهر الفصيل البلشفي في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي في عام 1903 وظل على مر السنين نواة مستقرة نسبيًا من قادة متجانسين سياسيًا وأيديولوجيًا إلى هذا الحد أو ذاك. استولى هذا الفصيل على السلطة في تشرين الأول/أكتوبر عام 1917 «ضد كل شيء وضد الجميع»، ومارس السلطة واحتكر قيادة تحويل المجتمع إلى الاشتراكية. هكذا حدثت الأمور. يكمن السؤال الرئيس المطروح في ما يلي: هل كانت هذه هي الخطة؟ نؤكد أنها لم تكن كذلك. مارس البلاشفة الاحتكار السياسي في الاتحاد السوفيتي، لكن لم يكن ذلك مشروعهم بأي وجه. وصل لينين إلى بتروغراد في نيسان/أبريل 1917 ودعا بداية إلى تسليم سلطة الدولة إلى السوفييتات، التي كان معظم أعضائها من الاشتراكيين الثوريين والمناشفة، وهذا الخط الذي يدعو قيادة الأغلبية في الحركة إلى الاستيلاء على السلطة ظل قائماً طوال عام 1917. قد يجادل البعض بأن ذلك كان مجرد تكتيك أو مناورة من لينين لتحدي قيادة الحركة والاستيلاء على السلطة الكاملة لصالح الحزب البلشفي. لكن الأمر لم يكن كذلك. فطوال عام 1917، أكد لينين مرارًا وتكرارًا أن استراتيجيته قائمة على السلطة السوفيتية، وليس على سلطة هذا الحزب أو ذاك أو هذا الفصيل أو ذاك. وفي دعوته للاشتراكيين الثوريين والمناشفة للقطع مع البرجوازية والاستيلاء على السلطة (أي الانتقال السلمي للسلطة من الحكومة المؤقتة إلى اللجنة التنفيذية للسوفييتات)، تعهد لينين–إذا ما حدث هذا الانتقال السلمي للسلطة–باحترام شرعية الحركة، أي العمل داخل السوفييتات كأقلية وفية للنظام. تَمثَّل ما فعله لينين في ترك الباب مفتوحًا أمام إمكانية الاستيلاء على السلطة كحزب، وكتنظيم منفصل. لكنه كان مخرجًا حتى لا يضيع فرصة اندلاع الانتفاضة. لم تكن تلك خطته الأصلية.
وفي وقت لاحق، بعد أن استولت السوفييتات على السلطة على أساس أغلبية بلشفية واشتراكية ثورية يسارية، باشر البلاشفة مفاوضات مع المناشفة والاشتراكيين الثوريين اليمينيين لتشكيل حكومة اشتراكية موحدة وموسعة. هذه المفاوضات موثقة جيدًا في التاريخ. كانت المشكلة قائمة في مطالبة المناشفة والاشتراكيين الثوريين اليمينيين باستقالة لينين وتروتسكي من الحكومة، وهو ما لم يكن بوسع البلاشفة قبوله، طبعاً. كان هذا السبب الوحيد الذي حال دون تشكيل حكومة اشتراكية واسعة تضم كل التيارات السوفيتية في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1917. لكن من المهم استحضار أن البلاشفة كانوا طرحوا هذه الفرضية واختبروا تطبيقها بصدق لبعض الوقت.
وبعبارات أخرى، لم يكن احتكار السلطة بأي وجه استراتيجية أو فكرة في البرنامج البلشفي. كان فرضًا للواقع، ونتيجة غير متوقعة إلى حد ما وحتى غير مقصودة.
عندما رفض المناشفة والاشتراكيون الثوريون اليمينيون تشكيل حكومة وقطعوا نهائياً مع البلاشفة، اتخذت هذه القطيعة طابعًا شاملاً ومأساويًا. انقسمت الحركة العمالية في جميع أنحاء العالم بين مؤيدي الحكومة البلشفية الجديدة والمعتدلين الذين يعتقدون أن الفشل مصير هذه المغامرة. أدى حدوث ذلك إلى عواقب وخيمة على تاريخ الحركة الشيوعية العالمية: أصبح احتكار السلطة كما يُنظر إليه استراتيجيةً مرغوبة فيها ومشروعة للاشتراكيين، في تناقض مع كل التاريخ السابق.
لكن دعونا نعود إلى موضوع هذا المقال: ماذا تقدم نظرية «جنين الحزب»؟ إنها ترى تاريخ البلشفية الحافل كمَثل أعلى يجب استنساخه بالتفاصيل الدقيقة. «إذا كان البلاشفة استولوا على السلطة ومارسوها بمفردهم، فإننا سنفعل ذلك أيضًا». لأننا! لأننا! لم نفكر في ذلك ملياً.
على هذا النحو، تشكل نظرية «جنين الحزب» أساس تصور ذي طابع عصبوي وتبشيري وتخطيطي ويساروي حول الحزب. وبهدف إثبات صحة بعض المواقف العابرة تماماً، تعمل هذه النظرية ضد الحركة الاشتراكية برمتها، لضرورة الانتصار على «الانتهازيين» و«المنتسبين المزيفين». أصبح الهدف التاريخي ليس انتصار القضية، بل الانتصار على التيارات «المعادية» داخل الحركة الاشتراكية نفسها.
تكتسي نظرية «جنين الحزب» سمة أخرى: الجانب التنظيمي. في علم الأجنة، يمتلك الجنين بالفعل جميع الخصائص الأساسية للكائن البالغ، لكن بدرجة أقل وبصورة أقل تطورًا. لكن كل شيء موجود: الكبد والطحال والدماغ. ينطبق الأمر نفسه على «الحزب-الجنين». يتسم نظامه الداخلي بتوتر دائم، كما لو كان في تنافس دوماً للاستيلاء على السلطة؛ وتتمتع قيادته المركزية بسلطة داخلية مستمدة ليس من التجربة الملموسة، بل من المستقبل. تشكل نوعاً من السلطة التي تستشرف ما يلزم تقديمه من خدمات للثورة العالمية. كانت وتيرة نشاطها كما كانت عليه في أيلول/سبتمبر-تشرين الأول/أكتوبر عام 1917. لأن كل شيء الآن أو لا شيء أبدًا. كل شيء حاسم. عانى «جنين الحزب» من هاجس دائم حول مستقبل عظيم.
لكن التاريخ غير متوافق مع نظرية «جنين الحزب». دعونا نفكر لحظة في تنظيماتنا الحالية: هل من الممكن حقاً أن يكون حزب الثورة مستقبلاً هو التطور الخطي لأي من المنظيمات الاشتراكية الحالية؟ أليس من الأرجح كثيراً أن تكون المنظمة الثورية مستقبلاً (أو جبهة منظمات ثورية) هي التطور الفوضوي المرتبك والمليء بانشقاقات واندماجات جملة منظمات ومجموعات وحركات وتيارات لا وجود حتى للكثير منها اليوم؟ في أي مثال تاريخي حققت منظمة ثورية تقدماً مطرداً نحو غايتها النهائية؟ ولا حتى الحزب البلشفي لم يحقق ذلك.
في كتاب «اليسارية، المرض الطفولي في الشيوعية»، لفت لينين الانتباه إلى جملة حوادث في تاريخ الفصيل البلشفي، وإلى تطوره غير المتوقع وغير الخطي، ودعا الحركة الشيوعية العالمية إلى عدم محاولة تكرار التاريخ الروسي بشكل ميكانيكي، بل اتباع مسارها الخاص، وصنع تاريخها الخاص.
لا حرج في بناء منظمة اشتراكية صغيرة بكل ما أوتيت من قوة. وفي الواقع، يشكل العمل النضالي المتقد حماساً أول واجبات المناضل. وهذا في حد ذاته ليس شكلا من أشكال العمل التبشيري، لأننا جميعًا أفراد متواضعون وكل ما نبنيه اليوم سيكون هشًا. والأكثر من ذلك، ما زلنا في طور تحديد استراتيجيتنا وبرنامجنا. مما يعني أننا بحاجة إلى البناء حول برنامج ومبادئ ثابتة. وهذا هو سبب وجود صراع مشروع بين المنظمات الاشتراكية. كما كتب لينين في «تصريح هيئة تحرير إيسكرا» (العدد 1، 23 آب/أغسطس عام 1900)، «قبل أن نتحد وفي سبيل الاتحاد، يجب تحديد التمايزات القائمة بينا بشكل حاسم ونهائي. وإلا فإن وحدتنا لن تكون أكثر من مجرد خيال يخفي التشتت الحالي ويمنع تجاوزه بشكل جذري». كل هذا أمر رائع وجيد.
لكن يجب استحضار أن «تجاوز التشتت الحالي بشكل جذري» يظل هدفنا الاستراتيجي. كانت غاية إصدار جريدة ”إسكرا“ تحويل تكتل مجموعات تفتقر إلى الجرأة والتجانس والوضوح إلى حزب سياسي وطني. يجب العمل على تحقيق ذلك. وبعبارات أخرى، لن تفي بالغرض كل جبهة مهما كانت وكل توحيد مهما كان. لكن الجبهات وأشكال التوحيد حاسمة لنجاح الحركة. كانت كذلك بالنسبة للينين قبل 124 عامًا عندما أسس إيسكرا. وهي كذلك بالنسبة لنا اليوم.
بدلاً من تصور «جنين الحزب» الذي ينمو بشكل مستقيم وخطي نحو شكله النهائي، يجب النظر إلى تطور الحركة الاشتراكية (وبالتالي تطور منظماتنا) كواد وعر وصخري وغير مستوٍ، تتلاقى فيه تيارات مختلفة وتفترق، وكل منها يسعى إلى اتباع مساره الخاص. في الأماكن الأكثر ملاءمة، عندما تسير الأمور على ما يرام، تتجمع هذه التيارات في حركة مستقرة وقوية وتحمل الكثير؛ وفي الأماكن الأكثر قسوة، حيث تكون الظروف قاسية، تتبدد التيارات لتشكل مستنقعًا تقريبًا، ثم تبدأ في التحرك إلى أمام مرة أخرى.
لذا فإن الأمر لا يتعلق والحالة هذه بتعزيز النمو اللامتناهي لمجرى مائي واحد، بل بمساعدة جميع المجاري المائية على التدفق، وايجاد قنواتها، وخاصة تلاقيها. مما يعني عمليًا تعزيز الروابط الوثيقة والخبرات المشتركة والاندماجات والتعاون، لكن أيضًا تفكيك الروابط القديمة ونهج مسارات جديدة عند الضرورة.
رابط باللغة الفرنسية
https://inprecor.fr/taxonomy/term/893
30 نيسان/أبريل 2024، نُشر على موقع Jacobinجاكوبان.
اقرأ أيضا