مسائل ثورة أكتوبر – هل كانت الثورة الروسية انقلاباً مداناً وسابقاً لأوانه؟
بقلم؛ دانيال بنسعيد
ونحن في الذكرى 107 لثورة اكتوبر، نعيد نشر نص كتبه دانيال بن سعيد، تدخل به في لوزان بمناسبة الذكرى الثمانين للثورة الروسية.
حتى قبل النفاذ إلى كتلة الوثائق الجديدة التي باتت متاحة بفعل فتح الأرشيف السوفييتي (والتي لا شك ستلقي أضواء جديدة على الموضوع وتجدد الجدالات)، يتعثر النقاش بنمط التفكير الجاهز للأيديولوجية المهيمنة، والذي يوضح جيدا النعي المشيد بإجماع بفرانسوا فوريه مدى سطوته. لا غرابة، في أزمنة الإصلاح المضاد والرجعية هذه، أن يغدو اسما لينين وتروتسكي غير قابلين للنطق كما كان اسمي روبسبير وسان جوست إبان إعادة الملكية في فرنسا.
يتعين إذن، للبدء في إزاحة العوائق، العودة إلى ثلاث أفكار مسبقة ذائعة على نطاق واسع اليوم:
1. من وجهة نظر كونه ثورة، يمثل أكتوبر بالأحرى اسما رمزيا لمؤامرة أو انقلاب أقلية فرضت من وهلة أولى تصورها السلطوي للتنظيم الاجتماعي لصالح نخبة جديدة.
2. قد يكون مجمل تطور الثورة الروسية ومغامراتها الشمولية المؤسفة مكتوبين بنحو جنيني، بضرب من خطيئة أولى، في الفكرة (أو ”العاطفة“ حسب فوريه) الثورية: سيُختزل التاريخ عندئذ في تتبع تطور هذه الفكرة المنحرفة وتحققها، دون اكتراث بالتشنجات الحقيقية الكبرى، وبالأحداث الهائلة وبالنتيجة غير المؤكدة لأي صراع.
3. وأخيراً، اعتبار قدَر الثورة الروسية أن تصير مسخا لأنها ناتجة عن توليد للتاريخ ”سابق لأوانه“، عن محاولة قسر مساره وإيقاعه، فيما لم تكن ”الشروط الموضوعية“ لتجاوز الرأسمالية قد أستوفيت: كان القادة البلاشفة، عوض التزام حكمة ”وضع حدود ذاتية“ لمشروعهم، الفاعلين النشطين في هذه النكسة.
I. ثورة أم انقلاب؟
لم تكن الثورة الروسية نتيجة مؤامرة، بل انفجارَ التناقضات المتراكمة في سياق الحرب بفعل نزعة النظام القيصري المحافطة والمستبدة. روسيا مطلع القرن مجتمعٌ محبوس، وحالة نموذجية ”للتطور المتفاوت والمركب“، بلدٌ مسيطِر وتابع في الآن ذاته، يجمع السمات الإقطاعية لريف أُلغيت فيه القنانة رسميًا منذ أقل من نصف قرن إلى سمات رأسمالية صناعية حضرية من الأشد تركيزًا. كانت قوة عظمى، وتابعة تكنولوجيا وماليا (الاقتراض). تُمثل قائمة المظالم التي قدمها الأب غابون في أثناء ثورة 1905 سجلاً حقيقياً للبؤس الذي ساد بلدَ القياصرة. وسرعان ما أُجهضت محاولات الإصلاح بسبب محافظة الأوليغارشية، وعناد الطاغية، ورخاوة برجوازية باتت خلف الحركة العمالية الناشئة. بهذا النحو آلت مهام الثورة الديمقراطية إلى نوع من الكتلة الثالثة tiers étatباتت البروليتاريا الحديثة، رغم كونها أقلية، تمثل فيها، على عكس الثورة الفرنسية، الجناح الدينامي الأكثر نشاطا.
هذا كله ما يجعل ”روسيا المقدسة“ ”الحلقة الضعيفة“ في السلسلة الإمبريالية. وقد أوقدت محنة الحرب النار في برميل البارود هذا.
توضح السيرورة الثورية بين فبراير وأكتوبر 1917 بجلاء أن الأمر لم يكن مؤامرة أقلية من المحرضين المحترفين، بل استيعابًا متسارعًا لتجربة سياسية على نطاق جماهيري، وتحولًا في الوعي، وتغيرًا مستمرًا في ميزان القوى. يحلل تروتسكي بدقة، في كتابه البارع ”تاريخ الثورة الروسية“، هذا التحول الجذري لدى العمال والجنود والفلاحين، من انتخابات نقابية إلى أخرى، ومن انتخابات بلدية إلى أخرى. بينما لم يكن البلاشفة يمثلون سوى 13% فقط من مندوبي مؤتمر السوفييتات في يونيو، تغيرت الأمور بسرعة بعد أيام يوليو ومحاولة كورنيلوف الانقلابية، حيث مثلوا ما بين 45% و60% في أكتوبر. وبعيداً عن كونها هجمة سريعة ناجحة بفعل طابع الفجأة، مثلت الانتفاضة تتويجاً وخاتمة مؤقتة لمواجهة كانت تتطور طوال العام، كانت حالة الجماهير الشعبية في أثنائها دوما على يسار الأحزاب وقياداتها، ليس فقط الاشتراكيين الثوريين، بل حتى الحزب البلشفي أو جزء من قيادته (حتى بصدد قرار الانتفاضة).
وهذا يفسر أيضًا لماذا كانت انتفاضة أكتوبر أقل عنفًا وكلفة بشريةً، قياسا بما شهدنا من عنف منذئذ، شريطة الحرص على تمييز ضحايا أكتوبر نفسها (من الجانبين) عن ضحايا الحرب الأهلية منذ العام 1918 وما بعدها، المدعومة من القوى الأجنبية، بمقدمتها فرنسا وبريطانيا العظمى.
إذا كنا نقصد بالثورة زخما تغييريا نابعا من الأسفل، من تطلعات الشعب العميقة، لا تحقيقًا لخطة مذهلة من خيال نخبة مستنيرة، فلا شك أن الثورة الروسية كانت ثورة بكل معنى الكلمة. يكفي النظر إلى الإجراءات التشريعية المتخذة في أشهر النظام الجديد القليلة الأولى وسنته الأولى لإدراك أنها تمثل انقلاباً جذرياً في علاقات المِلكية والسلطة، أسرع أحياناً مما كان مخططاً له ومرغوباً فيه، بل وأحياناً أبعد مما كان مرغوباً فيه، تحت ضغط الظروف. وتشهد كتب عديدة على هذا الانقطاع في نظام العالم (راجع كتاب «عشرة أيام هزت العالم» تأليف جون ريد، ترجمة فواز طرابلسي، أعادت نشره دار المتوسط عام2019) وعلى صداه الدولي الفوري (راجع La Révolution d›Octobre et le mouvement ouvrier européen، عمل جماعي، EDI 1967).
يشير مارك فيرو (لا سيما في كتاب La Révolution de 1917، دار نشر Albin Michel، 1997؛ وNaissance et effondrement du régime communiste en Russie، Livre de poche، 1997) إلى أنه لم يكن ثمة تلك اللحظة عدد كثير من تأسفوا لزوال نظام القيصر، أو بكووا آخر طاغية فيه. بل على العكس، ألح على انقلاب العالم المميِّز أيما تمييز لثورة حقيقية، حتى في تفاصيل الحياة اليومية: في أوديسا، أملى الطلاب على المدرسين برنامج تاريخ جديداً؛ وفي بتروغراد، أجبر الشغيلة أرباب العمل على تعلم ”القانون العمالي الجديد“؛ وفي الجيش، دعا الجنود القسيس إلى اجتماعهم ”لإعطاء معنى جديد لحياته“؛ وفي بعض المدارس، طالب الأطفال بالحق في تعلم الملاكمة لكي يلقوا استماعا واحتراما من الكبار…“.
ظل هذا الزخم الثوري الأولي ملموسًا طوال سنوات العشرينات، على الرغم من أوجه الخصاص والتخلف الثقافي، متجليا في المحاولات الرائدة لتغيير أسلوب الحياة: الإصلاحات المدرسية والتربوية، والتشريع الأسري، واليوتوبيات الحضرية، والاختراعات التصويرية والسينمائية. وهذا الزخم ذاته هو ما يتيح تفسير التناقضات وأوجه اللبس في التحول الكبير الذي جرى بألم بين الحربين، حيث كان الرعب والقمع البيروقراطي لا يزالان يمتزجان بطاقة الأمل الثوري. ما من بلد في العالم من شأنه أن يشهد مثل هذا التحول العنيف بتلك الحدة، تحت سياط بيروقراطية فرعونية: فبين العامين 1926 و1939، تضخمت المدن بـ 30 مليون نسمة، وارتفعت نسبتها من إجمالي السكان من 18% إلى 33%؛ وفي أثناء الخطة الخمسية الأولى وحدها، بلغ معدل نموها 44%، أي ما يعادل تقريبًا نموها بين العامين 1897 و1926؛ وتنامت قوة العمل المأجورة بأكثر من الضِّعف (من 10 إلى 22 مليون نسمة)؛ ما يعني ”ترييف“ المدن على نطاق واسع، وبذل جهد هائل لمحو الأمية والتعليم، وفرض سريع لنظام انضباط في العمل. رافق هذا التحول الكبير انتعاشُ النزعة القومية وتصاعد نزعة الطموح المهني الشخصي وظهور امتثالية بيروقراطية. ويعلق موشيه لوين ساخرا أن المجتمع كان بمعنى ما، في ظل هذا الهرج والمرج العظيمين،”بلا طبقات“، لأن جميع الطبقات كانت بلا شكل، في حالة انصهار (موشيه لوين، Moshe Lewin, La Formation de l’Union soviétique, Gallimard 1985).
II. توق إلى القوة أو ثورة مضادة بيروقراطية
لا ريب أن مصير الثورة الاشتراكية الأولى، وانتصار الستالينية وجرائم البيروقراطية الشمولية هي أحد وقائع القرن الكبرى، ما يضفي على مفاتيح تفسيرها أهمية أعظم. يرى البعض أن مبدأ الشر كان يكمن في جوهر سيء في الطبيعة البشرية، عبارة عن توق جامح إلى القوة لا يُكبح، يمكن أن يتجلى تحت أقنعة مختلفة، بما فيه ادعاء إسعاد الناس رغمًا عنهم، وفرض ترسيمات مسبقة لمدينة مثالية عليهم. على العكس من ذلك، يجب علينا أن نمسك بالجذور والينابيع العميقة لما أطلق عليه أحيانًا ”الظاهرة الستالينية“ في التنظيم الاجتماعي، وفي القوى التي تتشكل فيه وتتعارض.
تحيل الستالينية، في ظروف تاريخية ملموسة، إلى ميل أعم نحو التبقرط يجري في كل المجتمعات الحديثة. ويغذيه بشكل أساسي تقدم قسمة العمل الاجتماعية (بين العمل اليدوي والعمل الفكري بوجه خاص)، و”الأخطار المهنية للسلطة“ الملازمة له. وقد كانت هذه الدينامية أقوى وأسرع في الاتحاد السوفييتي بقدر ما أن التبقرط حدث على خلفية من الدمار والندرة والتخلف الثقافي، في غياب تقاليد ديمقراطية. منذ البداية، كانت القاعدة الاجتماعية للثورة واسعة وضيقة في آن واحد. واسعة بقدر ما كانت تستند إلى تحالف العمال والفلاحين الذين شكلوا الأغلبية الاجتماعية الساحقة. وضيقة بقدر ما أن مكونها العمالي، الذي كان أقلية، سرعان ما جرى تقزيمه بفعل أضرار الحرب وخسائر الحرب الأهلية. كان معظم الجنود، الذين لعبت سوفييتاتهم دورًا أساسيًا في العام 1917، فلاحين تحركهم فكرة السلام والعودة إلى البيت.
في هذه الظروف، باتت ظاهرة الهرم المقلوب جلية في وقت مبكر جدًا. فلم تعد القاعدة من يحمل القمة ويدفعها، بل إرادة القمة هي التي حاولت جر القاعدة. ومن هنا جاءت آليات الاستبدال: يحل الحزب محل الشعب، والبيروقراطية محل الحزب، والشخص الإلهي محل الكل. لكن هذا البناء لا يفرض نفسه سوى بتشكل بيروقراطية جديدة، ثمرة تركة النظام القديم، وارتقاء القادة الجدد الاجتماعي المتسارع. ومن الناحية الرمزية، بعد التجنيد الهائل لـ”فوج لينين“، لم يعد وزن بضعة آلاف من مناضلي ثورة أكتوبر ذي شأن قياسا بمئات الآف البلاشفة الجدد، منهم وصوليون جاءوا لنجدة النصر، وعناصر الجهاز الإداري القديم المعاد تدويرها.
تشهد وصية لينين المحتضر (انظر موشيه لوين، ”معركة لينين الأخيرة“،Moshe Lewin, Le Dernier combat de Lénine, Minuit 1979) على هذا الوعي المأساوي بالمشكلة. فبينما الثورة مسألة تخص الشعوب والجموع، كان على لينين وهو يحتضر أن يوازن بين مثالب ومناقب حفنة من القادة بدا أن كل شيء تقريبًا بات متوقفا عليهم.
إن كان للعوامل الاجتماعية والظروف التاريخية دور حاسم في صعود البيروقراطية الستالينية إلى السلطة، فالأمر لا يعني أن لا مسؤولية للأفكار في اعتلائها. ولا ريب بوجه خاص أن الخلط، المحافظ عليه، منذ لحظة الاستيلاء على السلطة، بين الدولة والحزب والطبقة العاملة، باسم اضمحلال سريع للدولة وزوال التناقضات داخل الشعب، قد ساعد إلى حد كبير على دولنة المجتمع عوض إضفاء طابع اجتماعي على وظائف الدولة. إن تعلم الديمقراطية مسألة مديدة وصعبة، لا تسير بنفس وتيرة مراسيم الإصلاح الاقتصادي. فهي تستغرق وقتًا وطاقة. وآنذاك يكمن الحل السهل في إخضاع أجهزة السلطة الشعبية، مجالس وسوفييتات، لوصي مستنير: الحزب. ومن الناحية العملية، كان ذلك يعني أيضًا استعاضة عن مبدأ انتخاب القادة ومراقبتهم بتعيينهم بمبادرة من الحزب، منذ العام 1918 في بعض الحالات. وقد أفضى هذا المنطق، في نهاية المطاف، إلى إلغاء التعددية السياسية وحرية الرأي الضروريتين للحياة الديمقراطية، وكذا إلى إخضاع القانون للقوة بشكل منهجي.
وكان للآلية طابع لايقاوَم، لا سيما أن التبقرط لم يكن فقط، أو بشكل رئيسي، نتيجة تحكم من فوق. إذ أنه يستجيب أحيانًا لنوع من الطلب من أسفل، أي لحاجة إلى النظام والطمأنينة ناجمة عن انهاك من الحرب والحرب الأهلية وحرمان واهتراء، حاجةٌ كان الجدل الديمقراطي والهياج السياسي والمطالبة المستمرة بالمسؤولية إزعاجا لها. لقد أوضح مارك فيرو بنحو ملائم في كتبه هذه الجدلية الرهيبة.
ويعيد مارك فيرو إلى الأذهان أنه كانت ثمة بالفعل في بداية الثورة ”بؤرتان: ديمقراطية – سلطوية في القاعدة، ومركزوية- سلطوية في القمة“، بينما ”لم تبق سوى بؤرة واحدة في العام 1939“. ولكنه يرى أن المسألة تمت تسويتهاعمليًا بعد بضعة أشهر، منذ العام 1918 أو 1919، مع اضمحلال لجان الأحياء والمصانع أو إخضاعها (انظر Marc Ferro, Les Soviets en Russie, collection Archives). وباتباع منهج مماثل، كان الفيلسوف فيليب لاكو-لابارت Philippe Lacoue-Labarthe أكثر وضوحًا بإعلانه أن البلشفية ”معادية للثورة منذ 1920-1921“ (أي حتى قبل كرونشتادت، انظر Lignes عدد 31، مايو 1997).
هذه مسألة بالغة الأهمية. فلا مجال لإقامة تعارض مانوي، نقطة بنقطة، بين أسطورة ”اللينينية في ظل لينين“ واللينينية في ظل ستالين، بين عشرينات مضيئة وثلاثينات مظلمة، كما لو أن شيئًا لم يبدأ بعد في التعفن في أرض السوفييت. بالطبع كان التبقرط يفعل فعله على الفور تقريبًا، وبالطبع كان لنشاط التشيكا البوليسي منطقه الخاص، وبالطبع جرى افتتاح السجن السياسي في جزر سولوفكي بعد نهاية الحرب الأهلية وقبل وفاة لينين، وبالطبع جرى قمع تعددية الأحزاب في الواقع، وجرى تقييد حرية التعبير، وحرى تقييد الحقوق الديمقراطية داخل الحزب نفسه منذ المؤتمر العاشر في العام 1921. ليست سيرورة ما نسميه بالثورة المضادة البيروقراطية حدثًا بسيطًا، يمكن تحديد تاريخه بشكل متناظر مع انتفاضة أكتوبر. لم تحدث في يوم واحد. بل مرت من خيارات ومواجهات وأحداث. ولم يتوقف الفاعلون أنفسهم عن النقاش حول تحقيبها، ليس توخيا للدقة التاريخية، بل بقصد محاولة استنتاج مهام سياسية. ويمكن لشهود مثل روزمر وإيستمان وسوفارين وإستراتي وبنيامين وزامياتين وبولجاكوف (في رسائله إلى ستالين)، وشعر ماياكوفسكي، وعذابات ماندلستام أو تسفيتاييفا، ودفاتر بابل، وما إلى ذلك، أن تساعد في إلقاء الضوء على أوجه الظاهرة المتعددة وتقدمها.
ومع ذلك، يظل ثمة تباين وانقطاع لا يمكن اختزاله، في السياسة المحلية والدولية على حد سواء، بين أوائل العشرينات والثلاثينات الرهيبة. نحن لا نجادل في أن غلبة النزعات الاستبدادية قد بدأت قبل ذلك بوقت طويل، وأن القادة البلاشفة بدؤوا، بضغط من هوس ”العدو الرئيسي“ (وهو بالمناسبة عدو حقيقي جداً) المتمثل في العدوان الإمبريالي وعودة الرأسمالية، بتجاهل أو التقليل من شأن ”العدو الثانوي“، أي البيروقراطية التي كانت تنخرهم من الداخل وتلتهمهم في النهاية. وقد كان هذا السيناريو غير مسبوق آنذاك ويصعب تخيله. وقد استلزم فهمه وتفسيره واستخلاص نتائجه وقتا. وإن كان لينين بلا شك قد استوعب بنحو أفضل جرس إنذار أزمة كرونشتادت، إلى حد دفعه إلى القيام بإعادة توجيه سياسية عميقة، فإنه في وقت لاحق فقط تمكن تروتسكي، في كتاب ”الثورة المغدورة“، من تأسيس مبدئي للتعددية السياسية على عدم تجانس البروليتاريا نفسها، حتى بعد الاستيلاء على السلطة.
لا يتيح معظم كبريات الشهادات والدراسات عن الاتحاد السوفيتي أو عن الحزب البلشفي ذاته (انظر كتاب روزمر ”موسكو في عهد لينين“، وكتاب مارسيل ليبمان ”اللينينية في ظل لينين“، وكتاب بيير برويه ”تاريخ الحزب البلشفي“، وكتاب «ستالين» لسوفارين وكتاب «ستالين» لتروتسكي، وأعمال إدوارد هالي كار وتوني كليف وموشي لوين ودافيد روسيه) تجاهلا، ضمن ديالكتيك القطيعة والاستمرارية الضيق، للانعطاف الكبير في الثلاثينات.غلبت القطيعة إلى حد بعيد، وتشهد على ذلك ملايين وملايين القتلى بسبب الجوع والترحيل والمحاكمات والتطهير. إذا كان الأمر قد تطلب إطلاق عنان هكذا عنف لبلوغ ”مؤتمر المنتصرين“ عام 1934 وتوطيد السلطة البيروقراطية، فذلك لأن الإرث الثوري كان ولا بد عنيدًا ولم يكن من السهل التغلب عليه.
هذا ما نسميه ثورة مضادة، وهو أكثر ضخامة ووضوحًا، والأشد وقعًا على الفؤاد من الإجراءات الاستبدادية، مهما كانت مقلقة، المتخذة في خضم الحرب الأهلية. كما أن هذه الثورة المضادة تركت آثارها في جميع المجالات، سواء في السياسة الاقتصادية (التجميع القسري وتطور الغولاغ على نطاق واسع)، أو في السياسة الدولية (في الصين وألمانيا وإسبانيا)، أو في السياسة الثقافية ذاتها، أو في الحياة اليومية مع ما أسماه تروتسكي ”التيرميدور في البيت“.
III- ثورة «سابقة لأوانها»
منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، انتعشت أطروحة بين المدافعين عن الماركسية، وبخاصة في البلدان الأنجلوسكسونية (راجع أعمال جيري كوهين Gerry Cohen)، مؤداها أن الثورة كانت منذ البداية مغامرة محكوم عليها بالفشل لأنها سابقة لأوانها. والواقع أن أصول هذه الأطروحة تعود إلى وقت مبكر جدًا، في خطاب المناشفة الروس أنفسهم وفي تحليلات كاوتسكي منذ العام 1921: كتب كاوتسكي أنه كان ممكنا تجنب الكثير من الدماء والدموع والخراب ”لو امتلك البلاشفة الحس المنشفي الذي يمسك الذات في حدود ما يمكن بلوغه، وفيه يكمن امتلاك الناصية“ (Von der Demokratie zur Statssktaverei، 1921، أورده راديك في Les Voies de la révolution russe، EDI ص 41).
هذه الصيغة كاشفة بشكل مدهش. ها نحن إزاء شخص يساجل فكرة الحزب الطليعي، ولكنه بالمقابل يتخيل حزبًا- أستاذا، مثقفًا ومربيًا، قادرًا على ضبط مسيرة التاريخ وإيقاعه على هواه، كأن ليس للنضالات والثورات منطقها الخاص أيضًا. من يحاول الحد منها عندما تَمْـثُـل، سرعان ما ينتقل إلى صف النظام القائم. لم يعد الأمر يتعلق بـ ”الحد الذاتي“ من أهداف الحزب، بل بالحد من تطلعات الجماهير وحسب. وبهذا المعنى، فإن إيبرت ونوسكه، باغتيالهما روزا لوكسمبورغ وسحق مجالس عمال بافاريا، قد تفوقوا براعةً في ”الحد الذاتي“.
في الحقيقة، يفضي هذا الاستدلال حتمًا إلى فكرة تاريخ منظم جيدًا، مضبوط مثل ساعة جدار، حيث يحل كل شيء في ساعته، في الوقت بالضبط. إنه يقع في حتمية تاريخية قطعية غالبا ما أُوخذ عليها الماركسيون، حيث تحدد حالة البنية التحتية بنحو وثيق البنية الفوقية المطابقة. إنه يلغي ببساطة واقع أن التاريخ لا يملك قوةَ قدَرٍ، بل تتخلله أحداث تفتح جملة احتمالات، ليس كلها طبعا، بل أفقا محددا من الإمكانات. صانعو الثورة الروسية أنفسهم لم يعتبروها مغامرة منفردة، بل عنصرا أولا من ثورة أوروبية وعالمية. لم تكن إخفاقات الثورة الألمانية أو الحرب الأهلية الإسبانية، وتطورات الثورة الصينية، وانتصار الفاشية في إيطاليا وألمانيا، مكتوبة مسبقاً.
إن الحديث في هذه الحالة عن ثورة سابقة لأوانها هو بمثابة نطق بحكم محكمة تاريخية، عوض النظر من زاوية المنطق الداخلي للصراع وللسياسات المتواجهة فيه. ومن وجهة النظر هذه، ليست الهزائم دليلاً على الخطأ أو الزلل، كما أن الانتصارات ليست دليلاً على الحقيقة. إذ لا يوجد حكم نهائي. المهم هو أن طريق تاريخ آخر ممكن قد تم رسمه خطوة بخطوة، عند كل خيار رئيسي، وعند كل مفترق طرق رئيسي (النيب، والتجميع القسري، والمعاهدة الألمانية السوفييتية، والحرب الأهلية الإسبانية، وانتصار النازية). وهذا ما يحافظ على قابلية فهم الماضي ويتيح استخلاص دروس للمستقبل.
وثمة جوانب أخرى كثيرة يمكن مناقشتها بمناسبة هذه الذكرى السنوية. لقد اقتصرنا على ”ثلاث من مسائل أكتوبرٍ“ حاسمة في النقاش اليوم. لكن الفصل الخاص بـ”دروس أكتوبر“ من وجهة نظر استراتيجية (الأزمة الثورية، وازدواجية السلطة، والعلاقات بين الأحزاب والجماهير والمؤسسات، ومسائل الاقتصاد الانتقالي)، وراهنيتها، وحدودها، يكتسي أهمية حاسمة بنفس القدر. من المهم أيضًا، في مواجهة الشيطنة التي تميل إلى إلقاء جريرة كل مصائب القرن على الثورة ، أن نشير إلى أن الاتحاد السوفيتي هو بالتأكيد البلد الذي شهد على مدى ثلاثين عامًا أكبر عدد وفيات عنيفة مركزة في منطقة محدودة، ولكن لا يمكن أن تُعزى إلى الثورة – ضمن عشرات ملايين القتلى (العدد موضوع نقاش اليوم بين المؤرخين) – تلك الناتجة عن الحرب العالمية الأولى، والتدخل الأجنبي، والحرب الأهلية، والحرب العالمية الثانية. تمامًا كما كان مستحيلا، إبان الذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية، أن تُنسب إلى الثورة العذابات التي سببها تدخل الأنظمة الملكية أوالحروب النابليونية.
ربما يكون من المناسب، في أوقات الردة هذه، على سبيل الختم، التذكير بتلك الأسطر الشهيرة والرائعة التي كتبها كانط عام 1795، في خضم الردة الثيرميدورية:
”… إن ظاهرة كهذه في تاريخ البشرية لا يمكن أن تُنسى، لأنها كشفت في الطبيعة البشرية عن نزعة ومقدرة على التقدم لم تستطع أي سياسة، بشدة حذقها، أن تزيحها من مسار الأحداث السابق: وحدهما الطبيعة والحرية المتحدتان في النوع الإنساني حسب المبادئ الداخلية للحق، كانتا قادرتين على الإعلان عنها، وإن كان، بالنسبة للزمان، بطريقة غير محددة وباعتبارها حدثًا طارئًا. ولكن حتى لو لم يتحقق الهدف من هذا الحدث بعد، حتى لو فشلت الثورة أو إصلاح دستور شعب من الشعوب في النهاية، أو لو عاد كل شيء بعد مضي برهة إلى ما كان عليه في السابق (كما يتوقع بعض السياسيين الآن)، فإن هذه النبوءة الفلسفية لا تفقد شيئاً من قوتها. لأن هذا الحدث أهم وأوثق ارتباطاً بمصالح الإنسانية وأشد تأثيراً في جميع أنحاء العالم من أن لا تتذكره الشعوب في الظروف المواتية ويعاد إلى الأذهان عند عود محاولات جديدة من هذا النوع» (1).
لا شيء يمكن أن يمحو إلى الأبد ما هزّ العالم في عشرة أيام.
***************
12 تشرين الأول/أكتوبر 1997. مداخلة دانيال بن سعيد. المصدر: مجموعة وجهات نظر نقدية، جامعة لوزان
انظر: http://danielbensaid.org/
هامش:
1. E. Kant, Le Conflit des facultés en trois sections, 1798, Paris, Vrin, coll. Bibliothèque des textes philosophiques», 1988, p. 104-105 [
اقرأ أيضا