حرية الإضراب: إحكام حبل المشنقة
يَشرع برلمان الاستبداد يوم الأربعاء 23 أكتوبر 2024 في مناقشة تفصيلية لمشروع قانون المنع العملي للإضراب، دخولا في آخر حلقات عملية تمرير هذا النص المعزز للاستبداد السياسي. شملت تلك الحلقات الاستعانة بالقيادات النقابية التي قبلت في اتفاقها مع أرباب العمل ودولتهم في 30 ابريل 2022 «إخراج قانون الإضراب إلى حيز الوجود». هذا بعد توالي مشاريع لهذا القانون طيلة ربع قرن، تجلى منها أن «تقنين» حرية الإضراب تعني عمليا الغاءها شبه الكلي بترسانة من القيود وضروب المنع والشروط المُحكَمة. ويجدر التذكير بأن منظمة أرباب العمل كانت تقدمت بمقترح مشروع قانون للإضراب ضمّنته كل ما تراه كفيلا بإبطال مفعول الإضراب العمالي، لكن الدولة أنعمت على البرجوازيين بمشروع أشدُّ فتكا لدرجةِ سحبِ كنفدرالية أرباب العمل مقترحها. بلغ الفتك بحرية الإضراب في مشروع الدولة مستوى يجعل مجرد الإبقاء على نسبة ضئيلة من مقتضياته ينزع من الشغيلة أداة إجبار رب العمل على تلبية المطالب، هذه التي بات جلها يتعلق بتطبيق تشريعات الشغل والحفاظ على استقرار العمل والدفاع عن الحق النقابي.
وقد أحاطت الدولة مشروع منع الإضراب بجهود إضفاء مصداقية حثيثة بتوالي استصدار آراء مؤسسات ذات طابع «اجتماعي وحقوقي»، آخرها في شهر سبتمبر 2024 مذكرة ما يدعى المجلس الوطني لحقوق الإنسان.
ليس لمؤسسات الدولة سوى أن تُمكن رأس المال من أفضل شروط اعتصار القيمة من الشغيلة ومراكمتها أرباحا، فتلك وظيفتها، ومن أعظم هذه الشروط إبطال المقاومة العمالية بنزع سلاح التنظيم والإضراب. لكن الطامة العظمى تواطؤُ قيادات المنظمات العمالية في عملية مصادرة حرية الشغيلة في الإضراب، بالامتناع عن تنظيم حملة ضد مشاريع قوانين إعدام تلك الحرية طيلة ربع قرن، لا بل انخراطها في التفاهم مع الدولة في سرية، وتضليل للشغيلة، على صيغة جديدة من قانون الإضراب غير المعروضة على البرلمان، مع التعهد بعدم نشر نسختها، وهو ما التزم به القادة «النقابيون» من كل الألوان، منها أحمر زائف. وجود هذه النسخة السرية، موضوع التفاهم، فضحه المجلس الاقتصادي والاجتماعي ذاته، مشاركا في المهزلة بقبوله إبداء رأي في صيغة متخلى عنها.
موقف الحركة النقابية اليوم في هذا الطور النهائي من السعي إلى نزع سلاح الإضراب دال على حضيض التردي الذي بلغته، ليس بتوغل القيادات في نهج التعاون مع العدو الطبقي وحسب، بل أيضا في انعدام معارضة منظمة لذلك التوغل، ما يجعل صدا لهجوم قانون الإضراب في الأمد الآني متوقفا على انتفاضة شبيهة بما شهده قطاع التعليم ضد النظام الأساسي المعد بنفس منهجية السرية والتضليل، وكذا على إمكانات تنامي مقدرة الجبهة المغربية ضد قانون الإضراب والتقاعد. حظوظ هذا التنامي واعدة، لا سيما أن القيادات المتورطة في التفاهمات السرية تشتكي من «عدم التزام الحكومة بمنهجية التوافق»، وقد أوضحت قيادة الكنفدرالية الديمقراطية للشغل أن مشروع قانون الإضراب الذي سيُشرع في مناقشته بالبرلمان يوم 23 من الشهر الجاري «لم يكن موضوع توافق مع الك.د.ش».
إن تبرؤِ القيادات النقابية بهذه الطريقة من عملية تمرير قانون منع الإضراب، والعديد من التصريحات الموحية بمعارضته، ليست بأي وجه باعثة على الثقة. أولا بفعل سوابق عديدة لدى تلك القيادات في ادعاء الاعتراض فيما هي تشارك خلف الستار في تحضير الضربات الموجهة لحقوق الشغيلة ومكاسبهم، وثانيا لأن العبرة أصلا بالأفعال وليس بالأقوال.
هذا التبرؤ إنما ييسر على الهياكل النقابية المحلية الضغط على القيادات لإجبارها على الانتقال إلى الفعل قبل فوات الأوان. والقواعد النقابية أمام تحد لا سابق له إن بقيت بحوزتها مقدرة على الفعل، فقيادة كدش ذاتها دعت إلى ما سمته «التعبئة الاستثنائية» دون وضع أي برنامج نضال، وعوض الانضمام إلى جبهة قائمة ضد قانوني الإضراب والتقاعد، دعت تلك القيادة (بلاغ 16 اكتوبر2024 ) القوى السياسية والنقابية والمدنية إلى «تشكيل جبهة واسعة لمواجهة القانون المكبل للحق في الإضراب».
إن كانت القيادات البيروقراطية تتظاهر بالاعتراض وبالدعوة إلى التعبئة، وإلى توحيد الفعل النضالي في جبهة، فالأرجح أن كل ما في الأمر سعي إلى تبرئة الذمة من الخسارة العظمى التي سيمثلها تمرير بات وشيكا لقانون المنع العملي للإضراب.
يواجه اليسار العمالي امتحانا عسيرا متمثلا في الاختيار بين تحمل المسؤولية التاريخية في فضح تواطؤ القيادات البيروقراطية والانكباب على التعبئة الوحدوية، المخترقة لكل الهياكل النقابية، ومن ثمة تعزيز بناء الجبهة ضد قانون الإضراب والتقاعد، أو تغليب منطق مسايرة تلك القيادات مسايرة انهزامية تعتبر قانون الإضراب مُمرَّرا بجميع الأحوال، وانتهازية تراعي البيروقراطية لصون «مكاسب تنظيمية» مزعومة.
مهما يكن من أمر، ثمة أمل في نهوض الشغيلة ضد تجرديهم من سلاح الإضراب الآن في هَبة استثنائية، أو حتى بعد تمرير القانون بالبرلمان، ما يعني أن المعركة مؤجلة.
فليس هناك ما يمكن في نهاية المطاف منع الشغيلة من رفض الاستغلال ومن ثمة مقاومته، فبعد أن انجرت القيادات إلى افراغ المنظمات النقابية من مضمونها النضالي، أبدع الشغيلة التنسيقيات. وعلى المنوال ذاته سيجري القفز على قانون منع الإضراب بضغط من الاستغلال المفرط وتردي ظروف الحياة المستمر وقمع الحريات. لا بل قد تتفجر طاقة النضال العمالي والشعبي في أشكال كفاح لا تخطر على بال، وعندها يبقى للرأسمال ودولته إخراج قانون لتنظيم الحق في الثورة.
اقرأ أيضا