84 سنة بعد اغتياله: تذَكُّرُ إسهامات تروتسكي

بقلم، دوغ إينا غرين Doug Enaa Greene

يوم 21 أغسطس 1940، اغتال أحد القتلة ليون تروتسكي بينما كان يعيش في المنفى. كان هذا الاغتيال الجبان تتويجًا لأكثر من عقد من الاضطهاد والافتراء من قبل جوزيف ستالين، الذي شهد طرد تروتسكي من الاتحاد السوفيتي وإجباره على السفر حول العالم دون تأشيرة. وفيما استسلم معارضون آخرون كُثر للانحطاط البيروقراطي للاتحاد السوفيتي وانضموا إلى ستالين، لم يُلق تروتسكي سلاحه أبدًا وظل صامدًا غير مهزوم. كان على تروتسكي أن يموت لأنه كافح ومثل رمزا للأممية الثورية ولتجديد آمال 1917. ليس ليون تروتسكي، بنظر ثوريي اليوم مثالاً يُحتذى به فحسب، بل إن ماركسيته أداة ضرورية في الكفاح من أجل الشيوعية.
القلم والسيف
كان تروتسكي شخصية من عصر النهضة حقيقيةً، إذ برع في كل مجال، تقريبا، من المجالات التي كرس لها اهتمامه. كان صحفيًا ذا أسلوب لا تشوبه شائبة، وأحد أعظم خطباء القرن العشرين، وناقدًا أدبيًا، ومحللًا سياسيًا، ومنظرًا ومؤرخًا تضاهي أعماله أعمال ثوسيديدس وإدوارد جيبون. لكن تروتسكي لم يكن مجرد مثقف، بل كان رجل فعل. بعد انضمامه إلى الحركة الماركسية السرية في روسيا القيصرية عندما كان شابًا يافعًا، ناضل جسدا وروحا من أجل الثورة البروليتارية طوال حياته. كان زعيم سوفييت سان بطرسبرج عام 1905، وأحد منظمي انتفاضة 1917 البلشفية الرئيسيين، ومؤسس الجيش الأحمر الذي دافع عن السلطة السوفيتية ضد الثورة المضادة، والخصم الرئيس لستالين والشريحة البيروقراطية التي كان يمثلها، وشخصية كاساندرا في مواجهة مخاطر النازية ومؤسس الأممية الرابعة. لقد عاش حياة بطولية مثلت انصهار التفاني الذي لا هوادة فيه – في الأفكار والعمل – في النضال من أجل عالم خالٍ من الاستغلال والاضطهاد.
الثورة الدائمة
إحدى إسهامات تروتسكي الرئيسة في الماركسية نظريةُ الثورة الدائمة. وقد طور هذه النظرية بناءً على تجربة الثورة الروسية للعام 1905. اعتقدت أجنحة الحركة الاشتراكية الروسية الرئيسة أن روسيا كانت بالغة التخلف عن ثورة اشتراكية، ولكنها ناضجة لثورة برجوازية. اعتقد المناشفة أن البرجوازية هي التي ستقود هذه الثورة وأن الطبقة العاملة يجب أن تكتفي بدور مساند، ولا ترفع مطالب جذرية تفاديا من إخافتها. كان البلاشفةُ موافقين المناشفةَ على أن روسيا مقبلة على ثورة من طراز 1789، إلا أنهم اعتقدوا أن البرجوازية كانت خائفة جداً من ثورة من أسفل بحيث لا تستطيع قيادة المعركة ضد القيصرية. وبالتالي، كان على الشغيلة أن ينهضوا بدور قيادي. طور تروتسكي نظرية مختلفة. فقد اتفق مع فلاديمير إ. لينين أن روسيا كانت متخلفة وأن العمال كانوا في قلب الصراع القادم. ومع ذلك، فقد جادل بأن روسيا لم تكن تتبع نفس المسار الكلاسيكي للتطور مثل بريطانيا وفرنسا. في الواقع، أدى التطور المتفاوت للاقتصاد العالمي إلى استيراد روسيا أحدث التقنيات من أوروبا الغربية. فنشأت عن ذلك طبقة عاملة شديدة التركز ومكافحة وقوية وقادرة على قيادة الثورة بتحالف مع الفلاحين. إن كان النضال من أجل من أجل الثورة البرجوازية يؤول الى الطبقة العاملة، دافع تروتسكي على أن العمال لن يتوقفوا في منتصف الطريق، بل سيكافحون من أجل الاشتراكية. وبعبارة أخرى، لن تكون ثمة فجوة بين المرحلتين البرجوازية والاشتراكية للثورة، بل ستكون السيرورة متواصلة و”دائمة“. بيد أن تروتسكي أدرك أن تخلف روسيا يقلل حظوظ بقاء الثورة ضئيلة ما لم تنتشر في الخارج إلى البلدان الرأسمالية الأكثر تقدماً. كان هذا التصور قطعا مع الماركسية المراحلية التي هيمنت على الأحزاب الاشتراكية الرئيسية في الأممية الثانية ثم الأحزاب الشيوعية الستالينية في الأممية الثالثة. فوفقاً للماركسيين المراحليين، كان على البلدان المتخلفة أن تمر بفترة طويلة من التطور الرأسمالي قبل أن تصبح ناضجة للاشتراكية. وقد حكم هذا التصور فعلياً على العمال بدعم البرجوازية وبسحب الاشتراكية من جدول الأعمال التاريخي. وعلى النقيض، أكد تروتسكي إمكان حدوث ثورة اشتراكية أولاً في البلدان المتخلفة. أكدت التطورات نظرية الثورة الدائمة في أثناء الثورة الروسية عام 1917، لما انتزع العمال السلطة من البرجوازية الضعيفة. وُضعت نظرية الثورة الدائمة لتروتسكي في الأصل لشرح خصوصيات الثورة الروسية. وبعد فشل الثورة الصينية في عام 1925 -1927 عممها لتفسير إمكانات ثورة اشتراكية في العالم المستعمَر. دافع تروتسكي بأن البرجوازية في البلدان المستعمَرة كانت ضعيفة ومرتبطة بالإمبريالية لدرجة أنها لم تكن قادرة على قيادة النضال من أجل التحرر الوطني والإصلاح الزراعي والديمقراطية. على العكس من ذلك، تؤول هذه المهمة إلى البروليتاريا التي لن تحقق أهداف التحرر الوطني فحسب، بل الثورة الاجتماعية أيضًا، كما أكدت ذلك النضالات في الصين (1949) وكوبا (1959) وفيتنام (1975). لم يكن لتحليلات تروتسكي إلا نظير قليل في شأن فهم الحماقة الستالينية في اعتبار البرجوازية الوطنية قوة ثورية، وفي شأن الدفاع عن ضرورة تولي البروليتاريا مهام التحرر الوطني والاشتراكية.
الجبهة الموحدة المناهضة للفاشية
في ظل بؤس ألمانيا إبان الكساد العظيم، كان الحزب الشيوعي والحزب النازي يتقدمان في ألمانيا. وفي تحليله للوضع، كان تروتسكي يرى أن ثمة إمكان حقيقي لوصول هتلر إلى السلطة، لكنه لم يكن يعتقد هذه النتيجة محددة سلفًا. كان الحزب الشيوعي الألماني أحد أكبر الأحزاب الثورية في العالم، لديه ملايين الأنصار. إذا شكل الحزب الشيوعي الألماني جبهة موحدة مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD)، بإمكانه منع وصول النازيين إلى السلطة. بيد أن الحزب الشيوعي و”الحقبة الثالثة“ للأممية الشيوعية كان يدينان الحزب الشتراكي الديمقراطي بوصفه ”اشتراكيا فاشيًا “. وعوض توجيه هجماته الرئيسة ضد النازيين، هاجم الحزب الشيوعي الألماني الحزب الاشتراكي الديمقراطي، ما يحول عمليا دون أي عمل للجبهة الموحدة. ومع تزايد الأصوات النازية في الانتخابات، استمر تروتسكي في الدعوة إلى تشكيل جبهة موحدة بين الحزب الاشتراكي الديمقراطي والحزب الشيوعي الألماني. كما كانت استراتيجية تروتسكي المناهضة للفاشية تحليلا للديمقراطية البرجوازية. فقد كان يدرك أن البرجوازية الليبرالية كانت أكثر ميلًا لدعم الفاشيين ضد العمال من الدفاع عن الديمقراطية. لم يكن لدى تروتسكي أمل كبير في إمكانات الحزب الاشتراكي الديمقراطي المناهضة للفاشية، حيث لم يكتفِ هذا بإخماد الثورة الألمانية عام 1919، بل دعا أيضًا إلى دعم الليبراليين والإيمان بالبرلمان بدلًا من النضال الجماهيري من أسفل. وبدلًا من ذلك، دعا تروتسكي إلى قيام جبهة موحدة بين المنظمتين العماليتين تعتمد وسائل خارج البرلمان لإنزال الهزيمة بالفاشيين. وفضلا عن دور الدفاع عن الحريات الديمقراطية، ستتيح الجبهة الموحدة للشيوعيين إدانة الإصلاحية الاشتراكية الديمقراطية باعتبارها غير ملائمة وكسب هؤلاء العمال إلى السياسة الثورية. لم تكن الجبهة الموحدة لتمكن الشيوعيين من هزم الفاشية فحسب، بل من شأنها أن تكون مقفزا لهجوم ثوري في المستقبل. لم يثمر كل ذلك عن شيء، ووصل هتلر إلى السلطة في عام 1933. تم سحق أكبر حركة عمالية في أوروبا دون مقاومة جماهيرية. بعد هذه الكارثة، تبنى ستالين والأممية الشيوعية استراتيجية الجبهة الشعبية. فبدلاً من العصبوية الثورية، باتت الأحزاب الشيوعية تدعو إلى تحالفات انتهازية مع الرأسماليين الليبراليين وتحجيم النضالات العمالية باسم مناهضة الفاشية. كان للجبهة الشعبية عواقب مأساوية خلال الحرب الأهلية الإسبانية، عندما خان الشيوعيون نضال الطبقة العاملة الثوري. وفي مواجهة مآزق اليسارية المتطرفة واللجوء إلى البرجوازية، جمعت استراتيجية تروتسكي بين معاداة الفاشية والجبهة الموحدة والنضال الثوري ضد الرأسمالية.
انحطاط ودفاع وتجديد
وفقًا لنظرية الثورة الدائمة، لا يمكن للاشتراكية أن توجد في بلد واحد مثل روسيا، بل يجب أن تمتد الثورة على الصعيد الدولي إذا ما أرادت البقاء. وقد تأكد هذا الأمر بشكل مأساوي بانحطاط الثورة الروسية في مواجهة الحصار والحرب الأهلية وفشل الثورة الألمانية التي عول البلاشفة على دعم مادي منها. انتصرت الجمهورية السوفيتية على أعدائها، لكن ذلك جرى في ظروف عزلة وفقر مدقع. وفي أثناء عشرينيات القرن العشرين، نشأت فئة بيروقراطية جديدة تجسدت في شخصية جوزيف ستالين الذي اغتصب السلطة السياسية للطبقة العاملة. دفع فشل الثورة الألمانية فكرة ”الاشتراكية في بلد واحد“ قُدما، ومؤداها أنه لا يمكن لروسيا أن تنتظر المساعدة من خارج، بل يمكنها أن تتطور فقط بجهودها الذاتية. بنظر لتروتسكي والمعارضة اليسارية، كانت ”الاشتراكية في بلد واحد“رؤية وطنية ورفضًا للبرنامج البلشفي الأصلي للثورة الأممية. في عشرينيات القرن العشرين، ناضلت المعارضة اليسارية من أجل مزيد من الديمقراطية المجالسية والحزبية ومن أجل التصنيع والخط الأممي. وعلى الرغم من هزيمتها، استمرت الرؤية الثورية للمعارضة اليسارية في قض مضجع البيروقراطية السوفيتية. ليس صدفة أن تروتسكي كان الشخصية الرئيسة في المؤامرات التي ”كُشف عنها النقاب“ خلال عمليات التطهير الكبرى في الثلاثينيات. وخلاصة القول أن ستالين كان يعلم أن رؤية تروتسكي كانت ترمز إلى الثورة ضد سلطة البيروقراطية وامتيازاتها. وحتى مع حرمان الطبقة العاملة من السلطة السياسية، كان تروتسكي يعتبر الاتحاد السوفيتي دولة عمالية. كان اقتصاد الاتحاد السوفيتي مؤمماً ومخططاً ولا يدار وفقاً لمنطق رأس المال. وعلى الرغم من أن البيروقراطية كانت تعمل كعنصر طفيلي، لم تكن تملك وسائل الإنتاج. في نهاية المطاف، أكد تروتسكي أن البيروقراطية سوف تتخلى عن الواجهة الاشتراكية وتعيد الرأسمالية. ولا يمكن إيقاف ذلك إلا بثورة سياسية للطبقة العاملة السوفيتية تطيح البيروقراطية وتعيد الديمقراطية المجالسية. وللأسف، أكدت عودة الرأسمالية في الاتحاد السوفياتي، في تسعينيات القرن الماضي، نظرية تروتسكي التي مكنه تحليلها من فهم انحطاط الاتحاد السوفييتي وانتقاده. كان تروتسكي يعترف بإنجازات الثورة الروسية التقدمية، وبأنه مهما بلغ انحطاطها، تظل الإمبريالية عدو الاشتراكية الرئيس. في أي مواجهة مباشرة بين الاتحاد السوفيتي والإمبريالية، لم يتردد تروتسكي في الدعوة إلى الدفاع غير المشروط عن الأول. التصدي للبيروقراطية هي مهمة الشغيلة السوفييت لا مهمة الإمبريالية. تحليل تروتسكي أتاح له فهم انحطاط الاتحاد السوفيتي. و أدرك أيضًا أن إنجازات الثورة كانت مكاسب للطبقة العاملة يجب الدفاع عنها.
يتيح منظور تروتسكي للماركسيين تجنب الثنائية البسيطة بين إدانة الثورات باعتبارها ”ديكتاتورية“ لا أكثر، وبين التملق الحاد الذي يؤدي إلى التغاضي عن الخيانات والمشاكل. فالمنظور الأول يمكن أن يؤدي إلى دعم فعلي للإمبريالية الغربية باعتبارها ”أهون الشرور“ في مواجهة ”التوتاليتارية“، بينما يفسح المنظور الثاني في المجال لتبييض الأنظمة البيروقراطية وتوصيفها على أنها اشتراكية. بوسعنا، استنادا إلى موقف تروتسكي، الدفاع عن الاتحاد السوفييتي والدول العمالية الأخرى ضد استعادة الرأسمالية والهجمات الإمبريالية، مع الاستمرار في انتقاد قيادتها البيروقراطية دون تحفظ والنضال من أجل الثورة السياسية. قد يكون هذا الخط هشاً، لكنه موقف مبدئي يفتقر إليه الكثير من اليسار الماركسي.
رفع الراية الحمراء قُدُماً
كان ليون تروتسكي أحد الشخصيات العظيمة في القرن العشرين. ناضل من أجل الثورة الاشتراكية بالقلم وبالسيف. لم تكن معركته ضد الستالينية خصومة شخصية، بل دفاعاً عن الأممية البلشفية ضد الانحطاط البيروقراطي. إن كل ثوري مدين لتروتسكي بالامتنان لقيامه بهذا النضال. لقد فهم تروتسكي أن الرأسمالية لا تقدم أي مخرج للبشرية. فالنضال من أجل الشيوعية يتطلب رفض الطرق الإصلاحية المختصرة والخيانات البيروقراطية واللجوء إلى القطاعات ”الخيّرة“ من البرجوازية. إن القوة الوحيدة القادرة على تحرير العالم من القمع والجهل والعبودية هي الطبقة العاملة.
بالنسبة لمناضلي/ات اليوم، يلزم الدفاع عن هذا المنظور الشيوعي وتعزيزه. وبذلك نبرهن عن إخلاص حقيقي لحياة ليون تروتسكي وإرثه.
المصدر: https://links.org.au/remembering-trotskys-contributions

ترجمة المناضل-ة باستعانة Deepl

قراءات مقترحة: من مؤلفات تروتسكي
نتائج وتوقعات
الثورة الدائمة
حياتي
تاريخ الثورة الروسية
الأممية الشيوعية بعد لينين
الثورة المغدورة
دوغ إينا غرين Doug Enaa Greene مؤرخ مستقل يعيش في منطقة بوسطن. نشرت كتاباته في
Socialism and Democracy, Links International Journal of Socialist Renewal, ISR
وغيرها من الاصدارات. وهو مؤلف كتاب « Specters of Communism: Blanqui and Marx »

شارك المقالة

اقرأ أيضا