هل يضمن القانون التنظيمي رقم 130.13 لقانون المالية مكاسب الوظيفة العمومية؟
بقلم، شادي الجبالي
بعد ثلاث سنوات على تعديل الفصل الرابع من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية (1958)، بما يجعل مهنيي- ات الصحة من الفئات التي لا يطبَّق عليها ذلك القانون، وعلى إثر النقاش الذي أثاره حراك شغيلة التعليم، أبدى مهنيو- ات الصحة تخوفا من أن الترسانة التشريعية الجديدة التي تنظم علاقات الشغل داخل القطاع تهدد المكاسب التي كان يكفلها نظام 1958، وهي فعلا كذلك.
لإسكات تلك المخاوف وطمأنة الشغيلة، ضمَّنت قيادات نقابات القطاع ملفاتها المطلبية نقطة غريبة:
* “جعل القانون التنظيمي رقم 130.13 من البناءات الأساسية للنصوص التطبيقية”. [بلاغ تفصيلي للتنسيق النقابي الوطني بقطاع الصحة، 14 يوليو 2024].
* تساءل بيان المكتب الوطني للنقابة المستقلة لأطباء القطاع العام بتاريخ 26 يوليو 2024: “لماذا رفضت الحكومة حتى فتح النقاش حول جعل القانون 13-130 من البناءات الأساسية للنصوص التطبيقية”.
تعتقد قيادات نقابات القطاع أن الإحالة على القانون التنظيمي 130.13 لقانون المالية، سيضمن مركزية الأجور من الميزانية العمومية كونها “كفيلة بحماية مكتسبات الوظيفة الصحية في إطارها الجديد” وأن “المواد 14 و15 تشير لنفقات الدولة ومركزية الأجور للموظفين. من هذا المنطلق يُعتقد بأن الإحالة إلى هذه المواد في قانون الوظيفة الصحية سيطمئن الشغيلة الصحية”.
فهل يضمن فعلا القانون التنظيمي لقانون المالية مكاسب الوظيفة العمومية كما كان يؤطرها النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية لسنة 1958؟
ما ينص عليه فعلا القانون التنظيمي 130.13
تشير االمادة 14 إلى أن نفقات التسيير تشمل نفقات الموظفين والأعوان والمعدات المرتبطة بتسيير المرافق العمومية. أما المادة 15 فتنص على أن نفقات الموظفين تشمل المرتبات والأجور والتعويضات.
لكن ما لا تنتبه إليه قيادات نقابات القطاع هو أن المجموعات الصحية الترابية غير معنية بهذا القانون. تعرِّف المادة 21 من القانون 130.13 “مرافق الدولة المسيَّرة بصورة مستقلة” على أنها “مصالح الدولة غير المتمتعة بالشخصية الاعتبارية”، في حين تشير المادة 1 من قانون رقم 08.22 بإحداث المجموعات الصحية الترابية، إلى هذه الأخيرة على أنها “مؤسسة عمومية تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي”.
وهذا مستجد من الناحية التشريعية، فحسب وثيقة بعنوان “ميزانية المواطن لقانون التصفية المتعلق بتنفيذ قانون المالية لسنة 2020” صادرة عن وزارة المالية والاقتصاد، ضُمِّنت المستشفيات الإقليمية والجهوية ضمن “مرافق الدولة المسيَّرة بصورة مستقلة والتي تتمتع بالاستقلالية المالية باعتبارها تقدم للمرتفقين خدمات أو منتجات مؤدى عنها”، لكن منذ يونيو 2023 تاريخ إصدار القانون رقم 08.22 بإحداث المجموعات الصحية الترابية، أصبح الأمر عكس ذلك. وهي طريقة التدرج المعهودة عندما يتعلق الأمر بمخططات ضخمة قد تثير مقاومة ورفضا، وهو ما أكدته بالحرف مجلة المالية بقول: “مشروع مهيكِل للمالية العامة بهذا الحجم والاتساع مر من مراحل تشريعية متعددة… من الطبيعي أن يحتاج إلى تنزيل متدرج”[i].
من الناحية التشريعية إذن لا سند قانوني لمطلب قيادات نقابات قطاع الصحة جعلَ القانون 130.13 من البناءات الأساسية للنصوص التبطيقية. لكن حتى إن كان القانون 130.13 يشمل المجموعات الصحية الترابية، أو إن تمكنت نقابات القطاع من تعديل ذلك القانون بما يجعل المجموعات الصحية الترابية مشمولة به، فهذا ليس مبررا للمطالبة بجعله أساسا لبناء قوانين التوظيف بالقطاع، بل هناك من المبررات أَلْفٌ لرفض ذلك القانون والنضال ضده، وعلى رأسها كون القانون 130.13 يصف المرافق العمومية التي يشملها “باعتبارها تقدم خدمات أو منتجات مؤدى عنها”، وهو ما يتناقض مع ضرورة أن يكون العلاج والصحة مجانيين.
لا يسلم الجزء إذا كان الكل فاسدا
ليس القانون 130.13 محض وثيقة تقنية لتنظيم قوانين المالية. حتى الدولة لا تعتبره كذلك، أو بالأحرى تعتبره أكبر من ذلك. هذا ما ورد في العدد 35 من مجلة المالية الصادرة عن وزارة المالية والاقتصاد: “يُعَدُّ القانون التنظيمي الجديد لقانون المالية جزءا من برنامج إصلاحات كبرى همت المالية العمومية. ويُعتبر تحسين توازن ميزانية الدولة من أهم الأهداف الاستراتيجية لهذا الإصلاح الجديد، خاصة في ما يتعلق بنفقات الموظفين التي سجلت في السنوات الأخيرة ارتفاعا مهما، حيث أصبحت تمثل ما يقارب %38 من مجموع تكاليف الميزانية العامة”[ii].
لذلك فمهما أوحت مادتان من مواد ذلك القانون (14 و15) بالإطمئنان لشغيلة قطاع الصحة، فإن روح القانون وتفاصيله تسير تماما في الاتجاه المعاكس لمصالح هؤلاء الشغيلة، وتُعتبَر آلية رئيسية لتنفيذ السياسة النيوليبرالية التي أضفيَ عليها الطابع الدستوري سنة 2011: التحكم في عجز الميزانية، الانضباط الميزانياتي، التقشف… إلخ.
أشارت مجلة المالية إلى أن مقتضيات القانون 130.13 تتيح “التحكم بشكل أكبر في كتلة الأجور وتفادي التجاوز المحتمل للاعتمادات المفتوحة، وبذلك وضعُ حد للممارسات التي كثيرا ما أدت إلى الزيادة في نفقات الموظفين خلال السنة”[iii].
أدرجت وثيقة مُلحَقة بمشروع قانون مالية سنة 2024 نفقات الموظفين ضمن “المخاطر الميزانياتية”: “ترتبط المخاطر الميزانياتية لنفقات الموظفين بشكل أساسي بإجراءات التوظيف أو زيادة الرواتب أو الترقيات غير المتوقعة، لصالح فئة معينة أو جميع الفئات من موظفي الدولة والتي يتم اتخاذها في إطار الحوار الاجتماعي مع التمثيليات النقابية. مما قد يشكل تحملات إضافية لم يتم التخطيط لها في البرمجة الميزانياتية للثلاث سنوات”. لذلك فما تعتبره قيادات القطاع “مقاربة تشاركية” و”شراكة اجتماعية”، تعتبر الدولة نتائجَه “مخاطرا ميزانياتية”، واقترحت كتدابير لتخفيفه: “ضبط نفقات الموظفين من خلال حصر التوظيف في الاحتياجات الضرورية لضمان تنفيذ أوراش الإصلاحات التي تم الشروع فيها وتقديم الخدمات للمواطنين في أفضل الظروف، لا سيما من خلال الاستخدام الأمثل للموارد البشرية المتاحة”، وفي نفس الوقت “تدبير المخاطر المرتبطة بالحوار الاجتماعي بشكل استباقي” عبر “إشراك التمثيليات النقابية في عملية إعداد قوانين المالية”. فكيف إذن تضمِّن القيادات النقابية ملفها المطلبي الإحالة إلى قانون ينص على التقشف والتحكم في الأجور… إلخ؟
لكن ما يؤكده تركيز قيادات نقابات القطاع على مادتين فقط من القانون 130.13، هو ما جرت الإشارة إليه مرارا؛ أي أن تلك القيادات متفقة تماما مع الاستراتيجية العامة للدولة وكل ما تطالب به هو ما يضمن حقوق مهنيي- ات القطاع ويقيهم- هن من شرور تلك الاستراتيجية، بغض النظر عما تُحدثه من تخريب بالقطاع (تسليع وإشراك للقطاع الخاص، ومراجعة لأنماط التوظيف…). ويظهر هذا في تثمين هذه الاستراتيجية من طرف التصريح الصحفي للتنسيق النقابي الوطني بقطاع الصحة (21 ماي 2024) بقول:
“… أصبح الإصلاح بالقطاع مطلبا ملحا وضرورة حتمية… وهو ما دفع إلى اتخاذ العديد من الإجراءات والإصلاحات وعلى رأسها التغيير الجذري للمنظومة غبر مباشرة تعديل الترسانة القانونية والتي كان في مقدمتها إخراج القانون الإطار 22.06 المتعلق بالمنظومة الصحية الوطنية، والذي كان أحد أعمدته محور تحفيز الموارد البشرية باعتباره المدخل الرئيسي لإنجاح أي ورش للإصلاح. ثم تلاه إصدار القانون رقم 22.09 المتعلق بالوظيفة الصحية في إطار الاعتراف بخصوصية القطاع الصحي، وكذلك إصدار قوانين أخرى متعلقة بالمجموعات الصحية الترابية… وننتظر كتنسيق نقابي المناقشة والتوافق حول النصوص التطبيقية لهذه القوانين الجديدة قبل إصدارها بمقاربة تشاركية حقيقية، والتي لا بد أن تكون بهدف تحصين المكتسبات بصيغتها القانونية المضبوطة، والدقيقة التي لا تحتمل التأويل، وذلك بالحفاظ على وضعية موظف عمومي، ومنح امتيازات أخرى لتحفيز الأطر الصحية”.
المنطق السليم، أي منطق النضال الطبقي وليس منطق “الشراكة الاجتماعية والمقاربة التشاركية”، يقتضي رفضا لروح وتفاصيل القانون 130.13 وليس المطالبة بجعله من الأساسات لبناء النصوص التطبيقية لقوانين “المنظومة الصحية”.
القانون 130.13: تقشف للشغيلة وسخاء للرأسماليين
يعتمد القانون 130.13 على الفقرة 1 من المادة 77 من دستور 2011 والقائلة: “للحكومة أن ترفض، بعد بيان الأسباب، المواد الإضافية أو التعديلات الرامية إما إلى تخفيض الموارد العمومية وإما إلى إحداث تكليف عمومي أو الزيادة في تكليف موجود”. وهو بند دستوري يمنح للحكومة حق الفيتو في وجه أي مبادرة تشريعية لزيادة الأجور أو أي نفقات عمومية أخرى.
ويُعتبر التحكم في أجور الموظفين- ات أحد المبادئ الأساسية للقانون 130.13، وأيضا أحد منجزاته. أعلنت الوزارة “الحصيلة المرحلية لتنزيل القانون التنظيمي رقم 130.13 لقانون المالية”، وضمن تلك الحصيلة ورد: “التحكم في التوازن الميزانياتي: تفعيل محدودية اعتمادات الموظفين”[iv].
تبنى القانون 130.13 قاعدة “محدودية اعتمادات الموظفين”، وهو ما أتاح حسب وزارة الاقتصاد والمالية “التحكم في هذه النفقات في المستويات المتوقعة في قانون المالية، على عكس الطابع التقديري الذي كان يميزها في السنوات السابقة”[v].
وهناك فرق جوهري بين قاعدة “محدودية نفقات الموظفين” وقاعدة “الطابع التقديري” لتلك النفقات:
الاعتمادات ذات الطابع المحدد: لا يمكن التعهد بها أو الأمر بصرفها إلا في حدود الاعتمادات المرخص فيها بقانون المالية، يعني أن ترخيص السلطة التشريعية هو سقف لا يمكن تجاوزه.
الاعتمادات ذات الطابع التقديري: تلك التي يمكن تغييرها بالزيادة أو النقصان خلال السنة حسب الموارد المحققة فعليا. وبالتالي يمكن تجاوز الاعتماد المرخص فيها، بقانون المالية في حدود الموارد التي تم تحقيقها فعليا خلال السنة دون الرجوع إلى السلطة لتشريعية بصفة مسبقة وإنما بصفة بعدية عند عرض قانون التصفية على المصادقة.
بالنسبة للقانون 130.13 فهو يكيل بمكيالين؛ إذ تبنى قاعدة “محدودية نفقات الموظفين”، إذ تنص المادة 58 على ما يلي: “وبالنسبة لنفقات الموظفين والأعوان، لا يجوز الالتزام بهذه النفقات والأمر بصرفها وأدائها إلا في حدود الاعتمادات المفتوحة برسم الفصل”، في حين خصت نفقات الدَّين العمومي (ونفقات أخرى) بما يلي: “غير أن الاعتمادات المتعلقة بالنفقات المرتبطة بالدين العمومي والدين العمري وبالتسديدات والتخفيضات والإرجاعات الضريبية لها طابع تقديري. يمكن أن تتجاوز هذه النفقات المخصصات المقيدة في البنود المتعلقة بها”.
فضلا عن هذا يُلزم القانون 130.13 قوانين المالية باحترام “أحكام معاهدات التجارة والاتفاقيات أو الاتفاقات التي تترتب عليها تكاليف تُلزم مالية الدولة وتلك المتعلقة بالضمانات التي تمنحها الدولة وبتدبير شؤون الدين العمومي…”.
هكذا فإن الانضباط الميزانياتي موجَّه حصرا لنفقات الموظفين، بينما يخصص السخاء الميزانياتي لكل ما يخدم مصالح ومطالب الرأسماليين (محليين وأجانب) ومنظماتهم: معاهدات التجارة والاتفاقيات والدين العمومي… إلخ.
تدبير ميزانياتي قائم على النتائج؟
من المبادئ التي يجري الترويج على أن القانون 130.13 أحدثها في مالية الدولة: “التدبير الميزانياتي القائم على النتائج” الذي حل محل “التدبير القائم على الوسائل”. وللإقناع بذلك استعملت الدولة لغة معهودة تغلف بها المصلحةَ الخاصة بالمصلحةِ العامة: “إن المنهجية القائمة على النتائج ستحل محل التدبير القائم على الوسائل، وبالتالي الانتقال من مقاربة قانونية وتقنية للتدبير الإداري إلى مقاربة قائمة على ثقافة تدبيرية في خدمة المواطن”.
والمقصود بـ”التدبير القائم على الوسائل” ذلك الذي يهتم بتوفير الوسائل (بنية تحتية وتجهيزات وأطر بشرية)، في حين يُقصد بـ”التدبير القائم على النتائج” ذاك الذي يركز على استخراج أقصى النتائج الممكنة من المتاح من الموارد، وهو ما تحيل عليه صراحة عبارتي “الاستخدام الأمثل للموارد البشرية المتاحة” و “حصر التوظيف في الاحتياجات الضرورية”، الواردتين في وثيقة “البرمجة الميزانياتية الإجمالية لثلاث سنوات 2024- 2026”.
يخدم “التدبير القائم على النتائج”، فضلا عن هدف التقشف بما يتيح الاستغلال الأمثل للموظفين- ات، هدف تفعيل مرسوم اللاتمركز الإداري. فهذا التدبير مبني على ثقافة التعاقد بين الدولة (كإدارة لا ممركزة) وبين المستويات اللاممركزة من الإدارة:
“أما التدبير المالي المرتكز على النتائج فإنه عبارة عن تعاقد قائم على “الميزانيات- البرامج” والذي يسمح بتحديد مجموعة من الأهداف والالتزامات المشتركة بين الإدارة المركزية والمرافق غير الممركزة. إن هذا التعاقد يدخل في إطار عدم مركزة الميزانية والهادفة إلى جعل الإدارات المركزية تهتم أكثر بمهامها الاستراتيجية الخاصة بالتوجيه والتنسيق والتقييم مع العمل على تمكين المرافق غير الممركزة وشركائها من التنفيذ (الجماعات الترابية، والجمعيات) [والقطاع الخاص- الإضافة من وضعنا]…. والمصالح اللامركزية والتي تستفيد من تفويض للسلطة بهدف تحقيق مجموعة من الأهداف المحددة مسبقا بتوافق بين الطرفية وذلك خلال كل سنة في إطار برنامج يمتد على ثلاث سنوات”[vi].
هكذا بدل أن يحقق القانون 130.13 مطلب “أداء أجور مهنيي الصحة من الميزانية العامة للدولة- فصل نفقات الموظفين”، فإنه بالعكس قد استلزم “تحولُ الإطار الميزانياتي تعديلَ التبويب الميزانياتي قصد الانتقال من تقديم حسب طبيعة النفقة إلى تبويب ميزانياتي مهيكل حول البرامج يبرز وِجهة النفقة مع التركيز على البعد الجهوي”[vii]. وأكدت مجلة “المالية” الصادرة عن وزارة الاقتصاد والمالية على ضرورة “إبراز الطابع الترابي للنفقة” عند الحديث عن “الميزانية المهيكَلة حول البرامج القائمة على نجاعة الأداء”.
القانون 130.31: مسار غير ديمقراطي
تصر قيادات نقابات القطاع على المقاربة التشاركية، في حين أن القانون 130.13 بمجملة مبني على احتكار الجهاز التنفيذي (حكومة الواجهة) صلاحية إعداد قوانين المالية.
ينظم الباب الثالث من القانون 130.13 “دراسة قوانين المالية والتصويت عليها”، وبمنطوق المادة 46 وحدَه وزيرُ المالية تحت سلطة رئيس الحكومة هو من يتولى “إعداد مشاريع قوانين المالية طبقا للتوجهات العامة المتداوَل بشأنها في المجلس الوزاري وفقا للفصل 49 من الدستور”. أما ما يُفترض فيه أن يضم ممثلي الأمة، أي البرلمان، فصلاحيته تقتصر فقط على التعديل والتصويت.
جرى تبرير هذا الاحتكار بكون إعداد قوانين المالية محكوم باعتبارات تقنية أصبحت الحكومة معها تستأثر بتحضير مشروع قانون المالية[viii]. لكن السبب الحقيقي هو جعل صلب سياسة الدولة، أي المالية العمومية، خارج اختصاص المؤسسات التشريعية. فالذي يتحكم في تلك القوانين ليس هي “اعتبارات تقنية”، بل “اعتبارات جوهرية”، وهي ما أشار إليها القانون 130.13 في مادته الأولى: “التوازن الميزانياتي والمالي” و”الظرفية الاقتصادية والاجتماعية”، إضافة إلى ما ورد في مادته السابعة من ضرورة احترام “أحكام معاهدات التجارة والاتفاقيات أو الاتفاقات التي تترتب عليها تكاليف تُلزم مالية الدولة وتلك المتعلقة بالضمانات التي تمنحها الدولة وبتدبير شؤون الدين العمومي…”.
إملاءات خارجية
شأنه شأن مجمل استراتيجية الدولة وسياستها العامة، فإن القانون التنظيمي لقانون المالية تطبيق لإملاء خارجي. ويندرج هذا القانون ضمن “برنامج الإنفاق العام والمساءلة المالية” الذي بدأ العمل به منذ سنة 2001 “من خلال سبعة شركاء دوليين من المعنيين بالتنمية، ألا وهم المفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وحكومات فرنسا والنرويج وسويسرا والمملكة المتحدة “[ix].
يقوم هذا البرنامج على ثلاث مبادئ:
* انضباط مجمل المالية العامة رقابة فعالة على إجمالي الموازنة وإدارة المخاطر المالية؛
* التخصيص الاستراتيجي للموارد تخطيط الموازنة وتنفيذها بما يتوافق مع أولويات الحكومة التي تستهدف تحقيق أهداف السياسة؛
* تتطلب كفاءة تقديم الخدمة استخدام الإيرادات المُدرجة في الموازنة لتحقيق أفضل مستوى من الخدمات العامة في حدود الموارد المتاحة[x].
ويعني “التخصيص الاستراتيجي… بما يتوافق مع أولويات الحكومة” توجيه النفقات لما تراه المؤسسات المالية الدولية خالقا للثروة؛ أي الاستثمار الخاص/ الرأسماليين، أما الشغيلة والكادحون- ات فقد ربط البرنامج “كفاءة الخدمة” المقدَّمة لهم- هن بـ”حدود الموارد المتاحة”، أي التقشف وما يرتبط به من فرط استغلال للشغيلة.
وفي سنة 2007 صدر عن صندوق النقد الدولي “دليل شفافية المالية العامة”، والذي تضمن المبادئ العامة التي صيغ على هداها القانون 130.13. وضمن هذه المبادئ تخفيف الطابع المركزي لتنفيذ المالية العمومية، حيث ورد في الدليل:
“تتسم شفافية المالية العامة في مستويات الحكومة دون المركزية… بالأهمية الخاصة حيثما تكون البلدان عاكفة على تطوير مسؤوليات المالية العامة. وقد أصبح إلغاء المركزية استراتيجية متعارف عليها تستند إلى الافتراض الأساسي بأن مستويات الحكومة الأدنى أكثر قدرة على الاستجابة للطلبات والاحتياجات المحلية بتكلفة أقل”.
وهو المبرر الأقوى الذي اعتمدته الدولة عند فرضها التوظيف بموجب عقود، كونه الأقدر على توفير الوظائف وعلى معرفة الاحتياجات المحلية والجهوية. ولكنه في الحقيقة الوعاء الأمثل لتطبيق المنظور النيوليبرالي المفكِّك للخدمات العمومية والقاضي على مجانيتها، والوسيلة المثلى لتطبيق “آليات التدبير الحديث للموارد البشرية” التي يجري نقلها من القطاع الخاص/ المقاولات إلى القطاع العمومي.
“لا شيء غير النضال”
“لا شيء غير النضال” عبارة مدبَّجة في لافتة حملها أحد مهنيي- ات الصحة في المسيرة المقموعة بالرباط شهر يوليو الفارط. لكن للقيادات النقابية خيار آخر: “لا شيء سوى المقاربة التشاركية”، وتعني هذه الأخيرة موافقة على مجمل سياسة الدولة في قطاع الصحة (وغير من القطاعات) والمطالبة فقط بما يحسن أوضاع المهنيين- ات.
رفض المكتب الوطني للنقابة المستقلة لأطباء القطاع العام الاتفاق القطاعي مع الوزارة، بمبرر أن هذه الأخيرة “تسير بورش إصلاح المنظومة الصحية إلى الهاوية… وتقوده إلى الفشل الأكيد، وذلك بإصرارها على هدم أهم أعمدة الإصلاح: ألا وهو تثمين الموارد البشرية ومنحها إطاراً قانونياً مستقراً و مٌحفزا على البدل و العطاء”.
يعني ورش إصلاح المنظومة الصحية تدميرا لشروط الشغل كما كانت متعارفة عليها سابقا، ونقلا لعلاقات الاستغلال القائمة في القطاع الخاص إلى القطاع العام (الأجور بالاستحقاق والترقية بالمردودية) وتغييرا لنمط التوظيف القديم (من المركزي مع الوزارة إلى الجهوي مع المجموعات الصحية الترابية)، لذلك لا يمكن القبول بذلك الورش، والتباكي بعد ذلك على مصالح مهنيي- ات القطاع.
تدل مطالبة قيادات نقابات قطاع الصحة بإدراج القانون 130.13 ضمن البناءات الأساسية للنصوص التطبيقية لقوانين القطاع، على مدى التزام تلك القيادات بالسياسة العامة للدولة ومواكبة تفعيلها من جهة، ومن جهة أخرى على الحجم المهول لاستبطان المفاهيم النيوليبرالية وتجريعها للشغيلة من طرف قادتهم النقابين.
النضال وحده ولا غيره هو من يستطيع إيقاف دكاك الاستغلال الذي يفرش له الأرضيةَ “ورشُ إصلاح المنظومة الصحية” والقوانين الناتجة عنها (قانون الوظيفة الصحية، قانون المجموعات الصحية الترابية). أما الاعتقاد بأن بندا قانونيا يضمن للشغيلة مكاسب الوظيفة العمومية فهو الوهم الذي سيقودهم إلى جحيم الاستغلال.
لقد تخلت قيادات نقابات القطاع (كما هو شأن نقابات التعليم) عما يشكل أساس التوظيف العمومي القار، وهو الطابع العمومي والمجاني لخدمات الصحة والتعليم (وغيرها من خدمات عمومية واجتماعية). والاعتقاد بأن التركيز على الدفاع على المصالح المحض المهنية للشغيلة بمعزل عن الدفاع عن جودة وعمومية ومجانية الخدمات فخ خادع ووهم صارخ.
فقط إعادة دمج مطلب الحق في التوظيف القار لجميع الشغيلة مع مطلب الخدمات العمومية ومجانيتها هو ما سيسمح برد هجوم الدولة على أعقابه، وهذا لن يتيح إلا النضال.
[i] – غشت 2019، وزارة الافتصاد والمالية، “القانون التنظيمي للمالية: رافعة من أجل تحديث التدبير العمومي الحديث”، مجلة المالية، العدد 35، ص7.
[ii] – نفسه، ص 24.
[iii] – نفسه، ص 24.
[iv] – 20 يوليو 2022، “رؤية الحكومة حول تعديل بعض مقتضيات القانون التنظيمي رقم 130.13 لقانون المالية”، وزارة الاقتصاد والمالية
[v] – “البرمجة الميزانياتية الإجمالية لثلاث سنوات 2024- 2026″، مشروع قانون المالية لسنة 2024، وزارة الاقتصاد والمالية.
[vi] – “التدبير المرتكز على النتائج في مجال مالية المؤسسات العمومية”، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية- جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس.
[vii] – غشت 2019، وزارة الافتصاد والمالية، “القانون التنظيمي للمالية: رافعة من أجل تحديث التدبير العمومي الحديث”، مجلة المالية، العدد 35، ً 15. نفسه، ص 15.
[viii] – يناير 2024، عواطف مبرور، “دور المعارضة البرلمانية بمجلس النواب في التشريع المالي”، دفاتر برلمانية، المجلد 3، العدد 1.
[ix] – فبراير 2016، الأمانة العامة للإنفاق العام والمساءة المالية، “الإنفاق العام والمساءلة المالية، إطار تقييم إدارة المالية العاملة، تحسين إدارة المالية العامة وتعززي التنمية المستدامة”، واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية، ً 5.
[x] – نفسه، ص 9- 10.
اقرأ أيضا