في ذكرى وفاة اسحاق دويتشر

الشباب و الطلبة23 يونيو، 2024

وفاة اسحاق دويتشر

بقلم؛ مارسيل ليبمان

تحرم وفاة اسحاق دويتشر المفاجئة الاشتراكية من أحد مثقفيها الأرفع هيبة. لا شك انه كان بالمقام الأول مؤرخا، وفرضت عليه تقلبات حياته أن يواري الى الخلفية نشاطه النضالي. مع ذلك، ليس عالم علم التاريخ وحده من يفتقر بفقدانه؛ فالعالم الاشتراكي متضرر بقدر مساو إن لم يكن أكثر.

انسان وحيد

مجرد قراءة عناوين كتبه تعطي فكرة ناقصة عن حجم أعماله: كتاب عن النقابات السوفييتية، وسيرة لستالين، وثلاثيته عن تروتسكي، هذا كل شيء تقريبا إذا استثنيا ما لا يحصى من مقالات ودراسات نشرها بالصحافة وبمجلات عديدة. ليس هذا مدهشا جدا من الناحية الكمية. هذا لأن مساره كمؤرخ بدأ متأخرا الى حد ما حيث صدرت سيرة ستالين ودويتشر في عمره 43 سنة.  وبوجه خاص لأن كتبه كانت تحظى بإعداد مديد ودقيق، ولأنه كان يستهدف الكمال، على صعيد الشكل كما المضمون.  وهذا ما أمن لها، في الآن ذاته، كلاسيكية لغوية وعمقا فكريا قل معادلهما في الأدب المعاصر. في أثناء مراهقته، في ظل تربية يهودية، “تدرب” دويتشر على الكتابة بنظم أشعار باللغة العبرية. وإن تخلى كليا على السبل التلمودية التي كانت مشرعة أمامه، فقد حافظ طيلة مساره على مواهبه الأدبية ووسعها. هاجر في عمر الثلاثة والثلاثين الى بلد يجهل لغته، واكتسب في بضع سنوات قليلة فهما عميقا للغة الانجليزية لدرجة ان مواطنيه الجدد، حتى الاشد تطلبا منهم، اعتبروا انجازه معجزة. ولم يكن دويتشر المحاضر يقل جذبا وفتنة من دويتشر الخطيب.

وكان بوسع أعماله أن تكون أغزر لو لم تمارس إزاءه المؤسسة الانجليزية نوعا من الإبعاد. طبعا أسندت اليه جامعة كامبردج، احتفالا بخمسينية الثورة الروسية، كرسيا عرضيا كي يلخص إسهام المشروع السوفييتي في العالم المعاصر. لم تتسع قاعة دروسه لحشد الطلاب المتزاحم للاستماع اليه. فقد كانت مواهبه التعليمية مثيرة. ومع ذلك، لما تعلق الأمر بمنحه كرسي تدريس بجامعة برايتون عند افتتاحها، كان ثمة اعتراض (فيتو) حرم العالم الأكاديمي البريطاني من شرف وجود دويتشر في صفوفه.  بعد ذلك، عاد الى العمل مع زوجته تامارا كمعاونة وحيدة. لم يكن لدويتشر، في حقبة يصعب فيها تصور البحث بدون عمل جماعي – وحيث يستعصي جهد علمي جدي دون دعم مالي، أن يعول سوى على نفسه.  كيف لنا ألا ناسف لعواقب ذلك الموجعة؟ فقد خلف غير مكتملة سيرة للينين كان يشتغل عليها منذ سنوات، وحتى تاريخا للثورة الروسية كان نشره سيمثل حدثا بالغ الأهمية.

 التاريخ والالتزام

في المحصلة، سيرة ستالين وأخرى لتروتسكي. هذا قليل (بالنظر خصوصا الى ما كان ممكنا أن يسهم به). وهذا هائل، ويظل دويتشر فريدا غير قابل للتعويض بفعل تأليفه هذه الكتب في اللحظة وبالطريقة التي كتبت بها. ما يفعل، في الواقع، هذا المؤرخ الماركسي؟ أي نوع من الاشغال يقتحم؟ بالضبط تلك التي تبدو أقل قابلية للبحث التاريخي الجدي والشامل: السيرة. ففيما تتعلق السيرة، على نحو محتم تقريبا، وبالتعريف، بمسار وشخصية انسان، مركزة انتباهها على فرد وتنتهي أخيرا في نوع من “عبادة (أو تحقير) الشخصية”، لا شيء من هذا القبيل لدى دويتشر. طبعا يجعله حسه الانساني متأثرا بمأساة شخص هو بصدد ابراز كامل قيمته؛ لكنه يعيد للعوامل الاجتماعية ما هو لها. وتمثل ثلاثيته عن تروتسكي، بهذا الصدد، نموذجا في المضمار: إنها لوحة جدارية حقيقية للتاريخ السوفييتي منذ الثورات السابقة للعام 1917، تتيح، أفضل من أي مؤلف آخر، تتبع وقياس وفهم الأهمية العظيمة للثورة الروسية ومستتبعاتها.

وثمة شيء آخر وأعظم أهمية: فضمن جيل بكامله، كان دويتشر ويظل الكاتب الوحيد الذي نجح في الإلمام بهذا الموضوع المليء بالعقبات: الظاهرة الشيوعية. هذا ما جعل الصحافة البرجوازية الكبيرة، رغم تباينها وتحفظاتها، تلجأ اليه لتفسير تطور السياسة والمجتمع السوفييتيين. وفيما كانت الكتابات التاريخية عن الاتحاد السوفييتي تنحط الى تزوير مزدوج – تشهير مفعم بالحقد و عبادة ملؤها التأليه والافتراءات- كان اسحاق دويتشر ينجح في تفادي فخاخ عدم التأثر والحياد، مع  البقاء على الوفاء للعقل وللحقيقة. كان دويتشر مشبوب العاطفة لكنه يتحكم بانفعالاته. لم يكن يحب ستالين، لكن السيرة التي كتب للديكتاتور السوفييتي تقييم متوازن ومترو ومدقق للرجل ولعالمه. وكان معجبا بتروتسكي. لكن السيرة التي كتب عنه تبدأ بجملة معبرة جدا عن الروح التي تصورها بها: ” حاولت أن أعيد ضبط ميزان التاريخ، غير مهتم بأي تقديس، وغير مبال بأي وفاء لأي كان”.

كذلك فعل، مثيرا حقد الستالينيين، وأيضا نقدا غير قليل من قبل الأوساط التروتسكية، وهاجم العديد من الكليشيهات والتبسيطات.  وأخيرا، تمثل أعماله تفسيرا للستالينية أكثر مما هي تنديد أعمى ومحاولة، من امتن المحاولات، للنظر فيما يظل حيا من ثرات ثورة اكتوبر في الدولة الناشئة عن الثورة الروسية.

هذا عن دويتشر المؤرخ. لكنه كان أكثر من مؤرخ. إذ ظل التزامه الاشتراكي كاملا.  أسهم في العديد من حلقات النقاش السياسي بالجامعات الأمريكية، وكان يحارب، بوسائله الخاصة، الامبريالية الأمريكية.  وكان عضوا بمحكمة راسل (حول جرائم الولايات المتحدة الامريكية في فيتنام). ولما سألته الاذاعة والتلفزة البلجيكية، ابان محاكمة دانيال و سينيافسكي (كتاب سوفييت منشقين)، لم يتخلف عن نقد موقف السوفييت في تلك القضية، لكنه حرص أمام الميكروفونات الرسمية على إضافة أنه لا يفهم جيدا الاستياء الانساني الذي ينصب على الاتحاد السوفييتي دون أن يندد بجريمة أشد سفورا، جريمة العصر السياسية الحقيقية المتمثلة في العدوان الامريكي على فيتنام.

المعجزة دويتشر

أخيرا، كان دويتشر ضمن كل المختصين بالدراسات عن الاتحاد السوفييتي، الوحيد الذي يمكن التوجه اليه بكل ثقة. ليس لصحة توقعاته على الدوام. كان بُعيد وفاة ستالين، وفي أثناء الطور الأول من نظام خروتشوف، ينظر بتفاؤل الى مستقبل الاتحاد السوفييتي.  كان يقع، بلا شك، في هذا التحليل أو ذاك، في إساءة تقدير عوامل تقييمية. لكن إجمالا كان لرؤيته للأحداث عمق وسعة نظر ومنظور مثيرة للإعجاب. وفضلا عن ذلك، لم ينس قط إدخال المقاييس التي يستلهمها التقييم الاشتراكي والمتصلة بتحرر الانسان.  وكان يفهم، أفضل من غيره، ومن كافة “زملائه”، الاتحاد السوفييتي لأنه متحرر من موقف مسبق ومحافظ في الآن ذاته على تعاطف حار، وعلى الحماس المشروع، أي الادراك العميق للظاهرة الثورية.  إن ظل عمله كمؤرخ غير مكتمل، فسيشعر الكثيرون بجسامة الخسارة التي يمثلها غيابه كملاحظ للعالم السوفييتي.

كانت ثمة «معجزة دويتشر” تعطي عنها الترجمات الفرنسية الناقصة لأعماله صورة غير مكتملة.  كيف يمكن الجمع بين ذلك القدر من الصرامة في التحليل وذلك القدر من الحس المرهف، مع ذلك القدر من الغنائية المنبجسة في اللحظات الحاسمة من سرده؟  يدرك من سعدوا بلقائه ان تلك “المعجزة” تعود الى ما حافظ عليه من طراوة دهن خارقة للمألوف. كان يعطي الانطباع أنه ينتمي إلى “المدرسة القديمة”، ربما بسبب اللطف البالغ المتجلي في كامل سلوكه، وبسبب رزانة تمالك النفس لديه. لكن الى جانب هذا أي شباب ذهن، أي نار، أي شعلة!  هل هذا مجرد ثمرة شخصية ثرية على نحو خارق للمألوف؟ او أيضا ثمرة حفاظه حتى النهاية، رغم الخيبات والتقلبات وخيبات الامل والمآسي، على الإيمان بانتصار الاشتراكية ومن ثمة بقدر الانسان؟

إنها ريشة لا تعوض حطمها الموت. انه صوت كبير يخبو. لقد فقدنا مرشدا وصديقا.

جريدة La Gauche عدد 33 -9سبتمبر 1967

ترجمة جريدة المناضل-ة

*************************************************** 

يجب إعادة اكتشاف إسحاق دويتشر

بقلم: أرييل بتروتشيلي  Ariel Petruccelli

لا يعني اسم إسحاق دويتشر شيئا أو يكاد للجيل الشاب، سواء أكان مناضلا أو جامعيا. ومع ذلك، فهو بالتأكيد أحد أكثر المفكرين الماركسيين نفاذ بصيرة في القرن العشرين وأحد أفضل المؤرخين بمختلف مدارس علم التاريخ. لذلك يجدر تفادي أن يطويه النسيان. أقترح هنا نبذة موجزة عن دويتشر، على سبيل دعوة متواضعة لقراءة كتبه. ولا يراودني شك في أن من يفعل ذلك لن يندم عليه.

توفي إسحاق دويتشر في المنفى في لندن في أغسطس 1967. وكان لحظة وفاته كما كان طوال حياته، مفكرًا ضد التيار. وعلى نفس القدر من عدم التأثر بالكره المعادي للشيوعية- السائد آنذاك في الغرب- وبأساطير أساطير الشيوعية “الرسمية”- الصادرة عن موسكو أو بكين-  ولا يمكن حتى للمجموعات التروتسكية الصغيرة، رفاقه السابقين، أن تعتبر  دويتشر “واحدًا منها”: فقد اعتبر تأسيس الأممية الرابعة غير مناسب، واختلف مع تروتسكي حول إمكانات ثورة سياسية في الاتحاد السوفييتي .ورغم كل ذلك، لم يكن كاتبًا هامشيًا. فقد كانت أفكاره وتحليلاته ثاقبة للغاية وسردياته من الجمال لدرجة استحالة عدم الانتباه إليها. وعلى الرغم من أن كتبه كانت محظورة بشكل صارم في الاتحاد السوفيتي وفي بلده بولندا، وعلى الرغم من أن أعماله كانت ويلا على طرفي الحرب الباردة، إلا أن قراء مجلتي “نيو ليفت ريفيو” new Left Reviewو”لي تون مودرن” les temps Modernesاستحسنتا تحليلاته للسياسة الدولية الصادرة بشكل منتظم. وكان تأثيره على بعض المثقفين الماركسيين كبيرًا. وكما اعترف بيري أندرسون بذلك بقول، “كان تأثير إسحاق دويتشر على تكويننا ذا أهمية قصوى بالنسبة لنا”. [1]

سنوات التكوين

وُلد إسحاق دويتشر في كراكوفيا عام 1907 لعائلة يهودية من الطبقة الوسطى. وفي سن السابعة عشرة، كان قد بات شاعرًا محليًا معروفًا. ولكن بعد ذلك بعامين، وعلى عكس آمال والده في أن يصبح حاخامًا، انضم إسحاق الشاب إلى الحزب الشيوعي البولندي السري. ومنذ ذلك الحين، وطوال بقية حياته، كان ماركسيًا مقتنعًا.

وقد خلف تكوينه الأولي في سياق بولندا في أواخر عشرينيات القرن العشرين بصمة واضحة ودائمة. إن أممية دويتشر التي لا تتزعزع وعالميته الواسعة متجذرة في هذه التجربة المحلية الأولية. [2]

يشكّل الإنتاج الفكري لهذه الفترة الجزء الأقل شهرة من أعماله: يتعلق الأمر بنصوص نشرتها منظمات سرية أو شبه سرية. ولحظة انضمامه إلى الحزب الشيوعي كان الحزب منقسمًا منذ سنوات بين تيار الأغلبية وتيار الأقلية. لكن دويتشر لم ينحز إلى أي منهما، وهو موقف معلن للاستقلال الفكري والسياسي الذي سيميز الكاتب البالغ: “[لم أكن أنتمي إلى أي من [التيارين]، ربما لأنني عندما انضممت إلى الحزب (…) كان الخط الفاصل قد رُسم بالفعل ولم أكن أفهم حقًا بما يتعلق الأمر. ولكنني أتذكر بوضوح أنه في عامي 1926-1927 كان لدي شعور حاد جدًا بعدم جدوى الجدال. بدا لي أن الأغلبية كانت تتميز بانتهازية معينة وأن الأقلية كانت تتميز بدينامية ثورية أكثر. وما كان يزعجني لدى هذه الأخيرة هو فجاجة فكرها وميلها إلى العصبوية”.

في مستهل ثلاثينيات القرن العشرين، صاغ جملة انتقادات للأممية الشيوعية مشابهة لتلك التي وجهها تروتسكي. وقد طعن في الخط اليساروي الذي ركز هجماته على “الاشتراكيين الفاشيين”، داعيا إلى عمل مشترك بين الاشتراكيين والشيوعيين لمواجهة النازية. وقد أدى ذلك إلى طرده من الحزب الشيوعي البولندي: “لقد طُردت من الحزب الشيوعي البولندي (…) لنشر مقال (…) قلت فيه أن النازية، إذا ما انتصرت، ستسحق الحزبين (…) وتثير شبح حرب عالمية ثانية (…). كان السبب الرسمي لطردي (…) هو أنني بالغت في خطر النازية وخلقت الذعر في الحركة العمالية. كان هذا صحيحًا إلى حد ما: ففي السنوات 1931-1932، كانت النازية قد وضعتني في حالة من الهياج والقلق المحموم. وبطبيعة الحال، كان أي شخص لم يشعر بهذا “الذعر” في ذلك الوقت أعمى”.

بعد طرده، قاد دويتشر مجموعة معارضة ظلت على اتصال مع تروتسكي وشهدت نمواً كمياً معيناً وانغراسا جيداً في الطبقة العاملة. ولكن في العام 1938، عام انعقاد مؤتمر تأسيس الأممية الرابعة، كان البولنديون المجموعة الوحيدة المشاركة التي اعترضت على هذا القرار. وقد جاء في الوثيقة التي قدمها مندوبوها- والتي صاغها دويتشر- أنه: “… من غير المجدي محاولة إنشاء أممية جديدة في الوقت الذي كانت فيه الحركة العمالية بشكل عام في حقبة من “الانتكاس الكثيف والجمود السياسي”، وأن جميع الأممية السابقة كانت تدين بنجاحها، إلى حد ما، إلى حقيقة أنها تشكلت في أوقات صعود ثوري. وكان تشكيل كل من الأمميات السابقة تهديدًا واضحًا للنظام البرجوازي (…) وهذا ما لن يحدث مع الأممية الرابعة. لن يستجيب جزء ذي وزن من الطبقة العاملة لبياننا. يجب أن ننتظر”.  [انظر/ي بهذا الملف توضيحا لموقف دويتشر من تأسيس الأممية الرابعة، أورده كميل داغر في مقدمته للجزء الثالث من الثلاثية: النبي المنبوذ]

بعد احتلال بولندا من قبل قوات هتلر وستالين (1939)، هاجر دويتشر إلى المنفى في لندن. وفي إنجلترا، بعيدًا عن النضال السياسي المباشر وبلغة- الإنجليزية- لم تكن لغته، كان عليه أن يكرس نفسه للدراسات التاريخية البيوغرافية، وهو النوع الذي سيكرس فيه نفسه كأستاذ بلا منازع.

المؤرخ

نُشر أول أعماله، “ستالين، سيرة ذاتية سياسية”، في عام 1949، بينما كان بطل السيرة على قيد الحياة وفي أوج قوته في الاتحاد السوفييتي الذي كان في خضم الحرب الباردة. كان ستالين موضوع جدل مدوٍ. فبينما رأت صحيفة الديلي وركر- جريدة الحزب الشيوعي الأمريكي- أن الكتاب هو عمل ناطق باسم الشركات الكبرى وبورصة لندن، اعتبر كتاب من قبيل ب. وولف ود. بوركينو أن دويتشر يخفي حقيقة ستالين، ويقدم أمهر امتداح للسياسة الخارجية السوفيتية [6].

إن نفور دويتشر من ستالين واضح على امتداد الكتاب. فقد كان “الرجل الفولاذي” فظًا فكريًا وعديم الضمير أخلاقيًا ومحليا بشكل غريب (على الرغم من كونه زعيم حركة عالمية) بحيث يتعذر أن يحظى بتعاطف ذهن مثقف ومتطورة وشخصية عالمية ومستقيمة أخلاقيًا مثل دويتشر. ولكن هذا النفور الذاتي لا يتداخل كثيرًا مع البنية التفسيرية والتحليلية للنص. على الرغم من أن السمات المميزة لشخصية ستالين تكتسب ملامحا دقيقة عبر السرد- وتلعب بصورة عرضية دورًا تفسيريًا مهمًا- تتعارض مقاربة دويتشر مع فكرة اعتبار أفعال الشخصيات سببا أساسيا للتطور التاريخي. فبنظر دويتشر لا يمكن اختزال تشكل بيروقراطية ديكتاتورية ذات توجهات شمولية في الاتحاد السوفيتي في شخص ستالين، ولا تفسيره به.

على الرغم من ميزاتها الخاصة بها، تبدو هذه السيرة الأولى أشبه بـ”بروفة” لسيرة دويتشر الكبرى: المجلدات الثلاثة المخصصة لحياة تروتسكي. ومع ذلك، وقياسا بالعديد من السِّيَرِ الهزيلة المناهضة للستالينية والمؤيدة لها، يبرز كتاب دويتشر عن ستالين كعمل متبحر ومتوازن الأحكام ودقيق التفسيرات. إلا أنه يبدو، مقارنةً بثلاثيته عن تروتسكي، قليل الشأن بشكل غريب، حيث يصل دويتشر في المجلدات الثلاثة المخصصة لتروتسكي إلى أعلى قمم إنتاج السيرة.

بيد أن هذا النجاح لا يُعزى إلى نضج فكري. فدويتشر الذي كتب ستالين كان بالفعل كاتبًا ناضجًا وباحثًا يعرف مصادره جيدًا. ما يصنع الفارق هو موضوع الدراسة نفسه. وكما أشار إدوارد كار يمثل “تروتسكي الشخصية المثالية لكتابة السيرة”[7]. لكن الأمر ليس فقط كما يشير كار، لأن تروتسكي “كان يتمتع بشخصية أكثر تميزًا وتناقضًا وتعقيدًا (…) من رفاقه المنافسين في مشروع الثورة الروسية العظيم”[8] هذا صحيح، لكن ما يمنح حياة تروتسكي ميزة إضافية هو الطبيعة المأساوية لتطوره ونهايته المأساوية.

تضفي حياة تروتسكي الفريدة من نوعها على هذه الثلاثية كل خصائص التراجيديا الكلاسيكية. كان دويتشر مدركًا لهذا الأمر: “والسؤال الذي يطرحه كاتب السيرة على نفسه بشغف هو التالي: إلى أي حد كان تروتسكي صانع هزيمته؟ وإلى أي حد دفعته ظروف حرجة وشخصيته هو بالذات إلى شق الطريق أمام ستالين؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة تعري المأساة الحقيقية التي عاشها تروتسكي، وهي مأساة كان يمكن أن تكون كلاسيكية لو لم تكن حوافزها الشروط الدنيوية جداً للسياسة الحديثة …”[9].

وخلافاً لمعظم كتّاب السير الذين عندما يتألقون كأدباء يفشلون كمؤرخين، والذين عندما ينغمسون في الحياة الفردية لصاحب السيرة ينتهي بهم الأمر إلى نسيان التحديدات الاجتماعية، فإن دويتشر يمتلك، بالإضافة إلى العبقرية الأدبية، الدقة العلمية في تحليل الوثائق، والمنظور التاريخي في تقييم الوقائع، والنفاذ السيكولوجي في فهم الأشخاص.

يبدو تعاطف دويتشر مع تروتسكي واضحًا على غرار نفوره من ستالين. لكن هذه الشحنة الذاتية تعوض عنها الدقة التوثيقية والسعي الدؤوب للموضوعية في عرض الحقائق. وسيجد منتقدو تروتسكي والمدافعون عنه كل المواد التي يحتاجون في هذه الصفحات. ويعزز التعاطف الذاتي الشحنة الدرامية والجمال الأدبي للنص، دون أن يقوض الدقة التاريخية لإعادة البناء. في فقرة معبرة يلخص دويتشر مقاربته لتروتسكي على النحو التالي: “أعتبر أن تروتسكي هو أحد القادة الثوريين، الأكثر روعة وفرادة، في أي زمن من الأزمان (…) لكن ليس في نيتي أن اكتب بصدده سيرة قديس لا عيب فيه ولا مأخذ عليه. كل ما هنالك أني أردت رسمه كما كان في الواقع، بكل عظمته وكل مقدرته، لكن كذلك بكل ما لديه من نقاط ضعف. حاولت أن أُظهر القوة والخصب والفرادة الخارقة في ذكائه، لكن دون إخفاء ما في ذلك الذكاء من جوانب سلبية (…) لكني وصفت كذلك الرجل في لحظات تردده وحيرته، حين يترنح الجبار ويسيخ في الطين ثم يقف على قدميه من جديد ويمضي المواجهة قدره”[10].

لا يمكن إنكار أن حياة تروتسكي وموته كانا مأساويين بلا شك. ولكن يحسب لدويتشر أنه كشف عن الخيوط الدقيقة التي تربط النهاية المأساوية بالمراحل الأولى من مساره. فالكلمات التي ينهي بها كتاب “النبي المسلح” هي توضيح بليغ: “حين حث تروتسكي الحزب البلشفي آنذاك على” الحلول بديلا» عن الطبقات الكادحة ، لم يفكر وسط نار العمل والجدال بالمراحل اللاحقة من تلك السيرورة التي تنبأ بها مع ذلك منذ زمن طويل بنفاذ بصر غريب (سيحل جهاز الحزب محل مجموع الحزب؛ ثم تحل اللجنة المركزية محل الجهاز؛ وفي الاخير، يحل ديكتاتور واحد محل اللجنة المركزية. كان الديكتاتور ينتظر الآن في مؤخرة المسرح)”[11] لكن مأساة تروتسكي لم تكن شخصية وحسب: بل كانت مأساة اجتماعية. وقد بدأنا نلمحها بعد فترة وجيزة من انتفاضة أكتوبر: “صنع البلاشفة ثورة أكتوبر 1917 مقتنعين بأن البشرية تبتدىء معها القفزة الكبرى من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية. رأوا النظام البورجوازي يتفكك ومجتمع الطبقات ينهار في أي مكان من العالم، لا في روسيا وحدها. اعتقدوا أن الشعوب تتمرد أخيراً في كل مكان ضد الشروط التي تجعل منها لُعباً في يد قوى الإنتاج غير المنظمة اجتماعياً، وضد فوضى وجودها الخاص بها (…) حين انتصروا أخيراً، لاحظوا أن روسيا الثورية، ضحية جهودها الخاصة بها، كانت في قاع هاوية. ما من أمة أخرى اقتفت مثالها الثوري. فروسيا المحاطة بعالم معاد، أو على الأقل لا مبال، كانت باقية وحدها، منهكة، ميتة من الجوع، مرتعشة برداً، رازحة تحت الأمراض، غائصة في الظلام”. [12].

وعلى الرغم من ذلك، تمكّن البلاشفة في عام 1921 من الاستقرار في السلطة. ولكن كان ذلك في اللحظة بالتحديد حيث بدا واضحا أنهم لن يتمكنوا من الوفاء بوعودهم الثورية. فقد أدت أربع سنوات من حرب وسنتين من حرب أهلية إلى تفكيك المقدرات الصناعية الروسية الضعيفة.

كانت الطبقة العاملة، الأساسُ الطبيعي للديمقراطية البروليتارية وللسلطة البلشفية، قد اختفت تقريبًا. وكان توزيع الأراضي على الفلاحين قد منح السوفييتات دعم فقراء الريف، ولكنه أدى الآن إلى تراجع الإنتاج الزراعي، بينما بدأ الفلاحون- ما أن ضُمِن استبعادُ خطر عودة مُلاَّك الأراضي- ينظرون إلى السلطة السوفيتية الصادرة من المدن بلا مبالاة أو بعداء.

عند مفترق الطرق التاريخي الرهيب هذا بدأت مأساة الرجل تتشكل: “في قمة السلطة، تعثر تروتسكي، مثل بطل مأساة كلاسيكية. لقد تصرف ضد مبادئه الخاصة وبتغاضٍ عن التزام أخلاقي من الأكثر جدية. لقد أفقدته الظروف ومتطلبات الثورة وكبرياءه السيطرة على نفسه. وفي الموقف الذي وجد نفسه فيه، كان من الصعب أن يكون الأمر غير ذلك. لقد كانت هذه الأفعال نتيجة حتمية تقريباً لكل ما قام به حتى تلك اللحظة، وكان هناك فعل واحد يفصل الآن بين السمو والشؤم. كان تخليه عن المبدأ إملاء من المبدأ نفسه. ومع ذلك فإنه بتصرفه هذا قد قوض الأرض من تحت قدميه”[13].

تحتد هذه الشحنة المأساوية في المجلد الثالث المخصص لسنوات تروتسكي الأخيرة. ليس فقط بسبب تعاقب المآسي العائلية والشخصية التي بلغت ذروتها باغتياله الجبان، ولكن بشكل أساسي بسبب الوضع السياسي المأساوي حقًا الذي وجد نفسه فيه خلال سنوات منفاه الأخيرة. تنبع هذه المأساة من الصراع بين الضرورة واستحالة الفعل. الضرورة، لأن لا شخصيته ولا ظروفه كانت تسمح لتروتسكي بالانسحاب من النضال السياسي. الاستحالة، لأن عزلته الجسدية والسياق الدولي جعلا محاولاته للتدخل في السياسة العالمية والمحلية غير مجدية.

كان هذا السياق نفسه- سياق الثلاثينيات- هو الذي دفع دويتشر إلى التخلي عن العمل السياسي الملموس وتركيز جهوده على البحث التاريخي. وهذا يعطي معنىً خاصًا جدًا لتعاطف دويتشر وتفهمه لقرار تروتسكي بإنشاء الأممية الرابعة.

إذا كان الفصل الأخير من المجلد الأول بعنوان “الهزيمة في النصر” ويستعرض مأساة الثوريين المنتصرين الذين يكتشفون بمرارة عجزهم عن تحقيق وعودهم وأحلامهم، فإن الفصل الأخير من المجلد الأخير كان بعنوان “النصر في الهزيمة” ويبين الانتصارات الهامة التي أحرزها تروتسكي المعزول والمهزوم. ويعرض فيه دويتشر أفكاره حول إرثي كل من تروتسكي وستالين فيقول: “[تروتسكي] بالنسبة لي هو الشخصية الممثلة لشيوعية ما قبل ستالين ومقدمة لشيوعية ما بعد ستالين. ومع ذلك، لا أتصور أن مستقبل الشيوعية يكمن في التروتسكية. أنا أميل إلى الاعتقاد بأن التطور التاريخي سيفضي إلى تجاوز كل من الستالينية والتروتسكية ويميل إلى شيء أوسع من كليهما. ولكن من المحتمل أن يتم “تجاوزهما” بطريقة مختلفة. إن ما يحتفظ به الاتحاد السوفيتي والشيوعية من ستالين هو بالأساس إنجازاته العملية. أما فيما يتعلق بأساليب الحكم (…) والايديولوجيا و”المناخ الأخلاقي”، فإن إرث حقبة ستالين أسوأ من كل شيء؛ وكلما تم التخلص منه سريعًا، كان ذلك أفضل. وفي هذه النقاط بالتحديد، لا يزال لدى تروتسكي الكثير ليقدمه…”[14].

 الماركسية والأدب

كانت الاهتمامات الأدبية ثابتة في صلب أعمال دويتشر. ويشهد ذلك أسلوبه الرائع في السرد، وأيضًا إحالاته الغزيرة للأعمال والمصادر الأدبية. إذ يقارن إقامة تروتسكي في النرويج برواية إبسن “عدو الشعب”، ويستخدم قصة “سال” القصيرة لإسحاق بابل لتوضيح الوضع المعقد لليهود في روسيا الثورية، ويوضح علاقة الصراع بين الشرق والغرب من خلال قصيدة بلوك “Les Scythes“.

يمكن إيراد مزيد من الأمثلة. تلعب الجوانب الأدبية دورًا مهمًا في هندسة مُنجز دويتشر. فهي ليست مجرد تكملة أو زينة “للقصة الحقيقية”. كان لينظر بتكشيرة ساخرة إلى أولئك الذين يرون في “الانعطاف اللغوي” و”إحياء” “التاريخ السردي” تهديدًا للماركسية. تحقق كتبه توليفة مذهلة من السرد التاريخي والالتزام السياسي والدقة التفسيرية. ويُعد هذا التوليف في اتساعه نادرًا حقًا. وإن مقارنة سريعة مع اثنين من كبار المؤرخين – إي. ب. طومسون Edward P. Thompson و إ. كار- E. Carr  ملائمة بنحو كل خاص.

حظي كتاب طومسون “تشكل الطبقة العاملة الانجليزية” بالاشادة لما فيه ميزة من إعادة صياغة حية لحياة الطبقة العاملة الإنجليزية الناشئة وكفاحها وأفكارها ومشاعرها. ومن الصعب تجاوز القوة الأدبية لهذا النص. لكن الثمن دفعه طومسون مقابل هذا النجاح باهظ. فقد كان مقابل البلاغة التي وُصفت بها تجارب العمال هو غياب المعطيات الموضوعية المتيحةِ توضيحَ تلك التجارب الذاتية.

فبعد تسعمائة صفحة، لا يحصل القارئ على معلومات أساسية مثل الحجم التقريبي للطبقة العاملة أو نسبتها إلى بقية السكان. هذا ثمن لم يكن على دويتشر أن يدفعه. فبدون أن يضجرنا بالإفراط في الأرقام والإحصائيات، يقدم لنا بيانات مفيدة وفي الوقت المناسب عن عدد أعضاء الحزب البلشفي وعن انخفاض الإنتاج الروسي أثناء الحرب وعن حجم التجميع وما إلى ذلك.

 كما أن المقارنة مع كار توضيحية بنفس القدر. تُعد قراءة المجلدات الأربعة عشر من تاريخ روسيا السوفيتية مهمة متعبة. سيُأسر القراء بضخامة تبحر كار، ولكن من غير المرجح أن ينجذبوا إلى سرد كثيف غير قادر على إعادة خلق التجارب الذاتية للأحداث التي يسردها… وهو ما يفعله دويتشر ببراعة.

من المؤكد أن الشعور بالامتعاض والسخط الذي أثاره منظور هايدن وايت Hayden White السردي لدى العديد من المؤرخين الماركسيين والحوليين (نسبة الى مدرسة الحوليات) لم يكن ليشاركه دويتشر الذي كان دائمًا واعيا إلى أقصى درجة للبعد الأدبي في كتابة التاريخ، والذي لجأ حتى قبل الحديث عن الانعطاف اللساني، إلى طرائق “طليعية” من قبيل تخيل حوار بين شبح القيصر نيقولا وستالين، أو سرد الحياة الخيالية لفنسنتي ادريانو  Vicente Adriano”الوزير البولروغاري”.[15]

ومن رصيد دويتشر الايجابي أنه لا يرجح أن يكون شهد تذبذبات وايت وغموضه وحتى تناقضاته حول المكانة العلمية لكتابة التأريخ: كان واعيا دوما أن لكتابة التأريخ عدة أرواح، وأن على المؤرخ الجيد أن ينميها جميعًا.

إرث إسحاق دويتشر

ظل دويتشر حتى يوم وفاته مخلصًا للاشتراكية، مع انتقاده، دون أدنى تنازل، الدكتاتوريات التي كانت تتحدث باسمها. في نهاية حياته، كان مشككًا في إمكان حدوث ثورة سياسية من الأسفل في الاتحاد السوفييتي. وكان بالأحرى يعتقد أن منطق التطور سيجبر النخبة الحاكمة عاجلاً أم آجلاً على الشروع في إصلاحات من الأعلى. واختلف في هذا الأمر مع تروتسكي وأتباعه الذين كانوا يراهنون على انتفاضة الطبقة العاملة.

ليس المقصود هنا عرض تصور دويتشر حول الثورة والاشتراكية. ويكفي القول إنه جمع بين تفاؤل تاريخي طويل الأمد وصفاء كبير في مواجهة الانتكاسات الفورية. حتى أنه في إحدى كتاباته الأخيرة، استكشف دون تردد إمكانية عودة الرأسمالية.

بعد مرور أكثر من نصف قرن على وفاته، وفي سياق دولي من الارتباك العام في اليسار، تبدو قراءة دويتشر أكثر من مستحسنة، بل هي ببساطة إلزامية. فكما قال أندرسون، كان فيه قدر من الصفاء الأولمبي، وقدر من البصيرة المتحررة من التقديس، وقدر من النباهة السياسية… والثقافة اليسارية بحاجة إلى كل واحد من هذه الأبعاد.

نُشر النص في العدد 5 من مجلة “نويفو توبو” Nuevo Topo تحت عنوان “إسحاق دويتشر (1907-1967)” عام 2008، وأعيد نشره رقميًا من قبل مجلة “كاليوش” Kalewche . ثم مجلة Jacobin América Latina

المصدر:

ترجمة جريدة المناضل-ة

 هوامش

[1] P. Anderson, Teoría, política e historia, México, Siglo XXI, 1985, p. 171.

[2] P. Anderson, »El legado de Isaac Deutscher », in Campos de batalla, Barcelona, Anagrama, 1998.

[3] I. Deutscher, El marxismo de nuestro tiempo, México, Era, 1975, p. 168.

[4] Ibid., pp. 185-186.

[5] I. Deutscher, Trotsky, el profeta desterrado, México, Era, 1988 (1963), p. 380. Les passages entre guillemets sont des citations du document en polonais.

[6] I. Deutscher, Stalin, México, Era, 1988 (1949), p. 11.

[7] E. Carr,  »La tragedia de Trotsky », 1917: Antes y después, Barcelona, Anagrama, 1969, p. 160.

[8] Ibid., p. 159.

[9] I. Deutscher, Trotsky, el profeta armado, México, Era, 1987 (1953), p. 11.

[10] I. Deutscher, Trotsky, el profeta desarmado, México, Era, 1989 (1955), p. 12.

[11] I. Deutscher, Trotsky, el profeta armado, op. cit., p. 477.

[12] I. Deutscher, Trotsky, el profeta desarmado, op. cit., p. 16.

[13] I. Deutscher, Trotsky, el profeta desarmado, op. cit., p. 445.

[14] I. Deutscher, Trotsky, el profeta desterrado, op. cit., pp. 11-12.

[15] Voir Stalin, op. cit., pp. 347-48, ainsi que  »La trágica muerte de un ministro polrúgaro », in I. Deutscher, Ironías de la historia, Madrid, Península, 1969.

. “بولوغاريا” (وهو اختصار للأسماء الجغرافية “بولندا” و”رومانيا” و”بلغاريا”) هو الاسم الذي أطلقه دويتشر على دولة خيالية تابعة للاتحاد السوفييتي.

************************************************************ 

موقف اسحاق دويتشر من تأسيس الأممية الرابعة

مقتطف من مقدمته الرفيق كميل قيصر داغر للجزء الثالث من ثلاثية دويتشر، النبي المنبوذ

إن الموقف الذي يتخذه دويتشر في ( النبي المنبوذ ، المنشور عام 1964، من تأسيس الأممية الرابعة ، ليس موقفاً لاحقاً ، بعد وقوع الحدث ، ولا سيما بزمن طويل، بل كان متبلوراً ومحدداً بالضبط ، كما يذكر هو ذاته ، منذ فترة مؤتمر التأسيس، عام 1938، حيث عبر آنذاك مندوبا الفرع البولندي ، الذي كان دويتشر من أبرز قادته، عن المعارضة الاجتماعية لذلك الفرع بصدد إعلان الأممية الجديدة، على أساس انه “من قبيل الانخراط في طريق مسدود محاولة خلق أممية جديدة في حين كانت حركة الشغيلة ، بمجملها ، في حالة انحسار ، وتمر بفترة انتكاس كثيف وجمود سياسي»، وناشدا رفاقهما أن يمتنعوا عن القيام بحركة لامعنى لها وعن “اقتراف عمل جنوني”.

هذا الموقف لم يتبدل بالتأكيد مع الوقت، وظل دويتشر على هذا الرأي بعد عشرات السنين، حيث يتكرر في الجزء الأخير من ثلاثيته إعدامه للتجربة بكلام سريع ومقتضب. فهو حين يشير إلى قرار ستالين، في نهاية المطاف، تصفية تروتسكي جسدياً، يقول: ” قبل سنوات كان يمكن أن يخشى ستالين رؤية تروتسكي يقود حركة شيوعية جديدة في الخارج، لكن ألم يكن يدرك الآن أن الأممية الرابعة قد انهارت كلياً؟”

إن نظرة متفحصة ودقيقة لا بد أن تبين كم أن دويتشر، في أحكامه التي أصدرها أوائل الستينات، كان لا يزال يحاول البقاء ضمن موقف “تاريخي” يتناسب كلياً مع الموقف السياسي القديم الذي اتخذه، هو والمجموعة البولندية التي انتمى إليها في الثلاثينات. وحتى إذا أخذنا بالاعتبار أن الأممية الرابعة لم تنجح، بعد تأسيسها بعشرات السنين في أن تصبح منظمة عالمية جماهيرية، إلا أن هذا ليس كافياً لإطلاق أحكام بالقدر من الجزم الذي نجده لدى دويتشر، مؤرخاً، لا سيما إذا أدخلنا في الحسبان الظروف القاسية ، موضوعياً وذاتياً، التي حالت دون ذلك، سواء من حيث الإبادة الواسعة التي تعرض لها كادراتها ومؤسسوها وقواعدها ، على أيدي الستالينية والنازية في الثلاثينات والأربعينات ، أو بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية والاستقرار الاقتصادي الذي تلا تلك الحرب وبقي قائماً أكثر من عشرين عاماً في البلدان الغربية بوجه خاص ، وعلى امتداد فترة طويلة ، لا ريب ، أطلقت عليها الأممية تسمية “مرحلة اجتياز الصحراء”. وقد تلت هذه المرحلة بعد انتعاش الصراع الطبقي في الغرب، منذ أواخر الستينات، ولا سيما بعد أحداث 1968 الفرنسية، مرحلة نمو جدي واأيد لمنظمات الأممية المشار إليها، ربما كانت كافية لتعدل من نظرة دويتشر لو قيض له أن يبقى على قيد الحياة سنوات معدودات [*].

في كل حال، سيكون مفيداً أن نورد مقطعاً من المناقشة القيمة التي كتبها بيير فرانك، أحد مؤسسي الأممية، في ايلول/سبتمبر [**]1964، بعد قليل من صدور “النبي المنبوذ”، حيث يقول رداً على كلام المؤلف:

“… وفقاً لدويتشر، انتهت محاولة تروتسكي لخلق الأممية الرابعة بإخفاق كلي (ص 513). وهذا التقويم يرتكز فقط على واقع أنه حين كتب دويتشر سيرة تروتسكي، لم تكن الأممية الرابعة غدت حركة جماهيرية، لأنه على صعيد الدفاع عن الماركسية الثورية منذ موت تروتسكي، واغنائها، ما من تيار سياسي ساهم بنسبة يمكن مقارنتها، من قريب أو من بعيد، بما كان عليه نشاط الأممية الرابعة ونتاجها النظري والسياسي. وليس ثمة أدنى تبجح في قول ذلك، فلو لم تفعل الأممية الرابعة إلا هذا ، لكان تأسيسها مبرراً. هذا الاسهام النظري والسياسي كان مستحيلاً تماماً لولا وجود المنظمة، ولولا مشاركة أعضائها في كل المعارك الثورية عبر العالم. الكل يعرف أن أحد المعطيات الأساسية للماركسية يتمثل في استحالة الفصل بين النظرية والممارسة من دون مخاطر وقوع في الخطأ، سواء بالنسبة لهذه أو بالنسبة لتلك. وما كان صحيحاً عموماً، غدا اليوم أكثر الحاحاً بكثير (…) فالسياسة العالمية تصنع حالياً في أكثر من مئة بلد مختلف جداً بعضها عن البعض الآخر، سواء اجتماعياً، أو من ناحية التطور الاقتصادي (…) إن النضال لأجل الاشتراكية يتطلب سياسة عالمية، إذا لم يكن إلا بمواجهة الدور القيادي الذي تلعبه الامبريالية الاميركية في المعسكر الرأسمالي. إن سياسة عالمية كهذه تتخطى كل استيعاب كتبي للوضع، ولا يمكن أن تصدر عن تجمعات قومية من حيث الجوهر حتى إن كان على قادتها أن يقوموا الوضع العالمي. فلا يمكن التوصل الى الحد جدياً من الأخطاء المحتومة الا بمجابهة مستمرة بين خط أممي من جهة ونشاط عملي داخل الحركة العمالية العالمية، من جهة اخرى.

“كان أفضل، بالتأكيد، أن تتم هذه المواجهة على يد أممية رابعة اكبر عدداً، لمصلحة قضية الاشتراكية بالذات، لكن (…) ما يهم قبل كل شيء أن يكون هنالك حقاً وحدة أممية فعلية للفكر والعمل. وفي وسعنا القول إن الأممية تقدمت، في هذا الصدد، بخطوات جدية نسبة الى ما قبل الحرب (…) وثمة مقاييس أكثر صحة من مقياس القوة العددية للحكم على شرعية حركة ما وحيويتها.

“لقد تعلمنا في مدرسة تروتسكي أن ثمة فائدة، دائماً، في المسائل الكبرى، بأن يضع المرء نفسه على المستوى التاريخي. فمنذ نصف قرن، بدأت زمة الرأسمالية مع حرب 1914 (كتب فرانك نصه عام 1964). في تلك السنوات الخمسين، المزدحمة بانقلابات جبارة، مرت الحركة العمالية بمحن هائلة، وتمت حاولات تنظيمية كثيرة، فأية موازنة يمكن أن نقيمها الآن؟ احتفظت الاشتراكية – ديمقراطية بمواقع قوية في أوروبا، وفي متناول الحركة الشيوعية الرسمية – عدا البلدان التي تحكمها – عدد من الاحزاب الجماهيرية، بينما لم تتطور في العديد من البلدان ومن التجمعات التي تكونت كرد فعل على سياسة الاشتراكية الديمقراطية او الستالينية، وغالباً ما كانت تحوز قوى اكبر عدداً من قوى فروع الأممية الرابعة، لم يبق أي شيء عملياً (…) لم تصبح الأممية الرابعة منظمة جماهيرية، لكنها امتدت الى الكثير من بلدان العالم المستعمر. بعبارات اخرى، تبين موازنة الحركة العمالية خلال نصف قرن أن ثلاثة تجمعات أثبتت حيويتها، وهو ما لا يمكن تفسيره بأسباب ذاتية، كصفات أعضائها وقادتها، بل بأسباب موضوعية، بأسباب تاريخية: منظمات الأممية الثانية التي تمد جذورها في الطبقة العاملة وفي الرأسمالية في الوقت ذاته، والمنظمات الستالينية لأن لها صلات بالطبقة العاملة وبالقيادة البيروقراطية للدولة العمالية الأولى في العالم؛ وأخيراً منظمات الأممية الرابعة، الضعيفة عدداً والتي عانت من قمع لا مثيل له في التاريخ – من جانب البورجوازية والبيروقراطية، لأنها تمثل الطبقة العاملة العالمية في مصالحها التاريخية الاساسية، ولأنها السليل المباشر للحزب البلشفي لعام 1917 وللأممية الشيوعية (1)”

======

[*] توفي عام 1967 (م).

[**] علماً أن هذه المناقشة تمت في فترة لم تكن شهدت بعد النمو الجديد للأممية الرابعة، بعد استعار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في الغرب في النصف الثاني من الستينات، وما بعد ذلك. (م)

(1) Quatrième Internationale العدد 3 ، تشرين الثاني 1964 ، ص 60-61-62 .

شارك المقالة

اقرأ أيضا