البطريركية و/أو الرأسمالية: إعادة فتح النقاش

النساء17 يوليو، 2024

بقلم، سينزيا أروزا   Cinzia Arruzza

  من المألوف جدًا أن نجد  في النصوص والمنشورات والمقالات والوثائق النسوية إشارات إلى النظام البطريركي والعلاقات الأبوية. غالبًا ما يُستخدم مصطلح النظام البطريركي للدلالة على واقع أن الاضطهاد وعدم المساواة بين الجنسين ليسا حالات عرضية أو استثنائية. لا يمكن اختزالها في ظواهر تحدث فقط ضمن العلاقات بين الأشخاص، بل على العكس، هي قضايا تتخلل كل المجتمع، ويعاد إنتاجها على أساس آليات لا يمكن تفسيرها على أساس فردي.

باختصار، غالبًا ما يُستخدم مصطلح النظام البطريركي للتأكيد على أن الاضطهاد الجندري ظاهرة ذات ثبات معين وطابع اجتماعي وليس مجرد ظاهرة بين الأشخاص. رغم ذلك، تصبح الأمور أكثر تعقيدًا بعض الشيء إذا أردنا أن نكون أكثر دقة حول ما نعنيه بالضبط بـ”البطريركية” و”النظام البطريركي”. وخطوة أخرى في التعقيد إذا ما بدأنا في التساؤل عن العلاقة بين النظام البطريركي والرأسمالية وما العلاقة بينهما.

خط سير المسألة

 خلال فترة قصيرة ما بين السبعينيات ومنتصف الثمانينيات، شكلت مسألة العلاقة البنيوية بين النظام البطريركي والرأسمالية موضوع نقاش حيوي بين المنظرين والناشطين في التيار النسوي المادي والماركسي (من النسوية الماركسية إلى النسوية المادية ذات الأصل الفرنسي، مرورا بالصيغ المختلفة لما يسمى بـ”النسوية الاشتراكية”؛ النسوية الماركسية أو النسوية المادية الأفريقية-الأميركية الأفريقية، والنسوية المادية المثلية… إلخ). كانت الأسئلة الأساسية المطروحة تدور بشكل أو بآخر حول محورين:

1) هل النظام الأبوي نظام مستقل في علاقته بالرأسمالية؟

2) هل من الصحيح استخدام مصطلح “النظام البطريركي” للإشارة إلى الاضطهاد وعدم المساواة بين الجنسين؟

تراجع هذا النقاش، الذي أثمر بعض الكتابات المثيرة للاهتمام، تدريجيًا مع تدهور نقد الرأسمالية، ومع تأكيد التيارات النسوية نفسها التي إما أنها لا تشكك في الأفق الليبرالي ; أو جعلت من العلاقات بين الذكور والإناث جوهرية وبالتالي أخرجت الجندر من سياقه التاريخي؛ أو تهربت من مسألة الطبقة والرأسمالية بينما مطورةً مفاهيم أثبتت أنها مثمرة للغاية في تفكيك الجندر (خاصة النظرية الكويرية في التسعينيات).

وبالطبع، لا يعني الاضمحلال الاختفاء، وخلال العقود المتعاقبة ، واصل العديد من المنظرين النسويين العمل على هذه القضايا، مع المخاطرة أحيانا بأن يُنظر إليهم على أنهم رجعيون ومخلفات حرب يجري التسامح مع وجودهم. وقد كانوا بالتأكيد على حق في الدأب. بينما نعيش أزمة اقتصادية واجتماعية، فإننا نشهد حاليًا عودة جزئية ولكن مهمة للاهتمام بالعلاقة الهيكلية بين القمع الجنساني والرأسمالية.

في السنوات الأخيرة، لم يكن هناك بالتأكيد نقص في التحليلات التجريبية أو الوصفية لظواهر أو قضايا محددة، مثل تأنيث العمل، أو تأثير السياسات الليبرالية على ظروف معيشة وعمل المرأة، أو تقاطع القمع بين الجنس والعرق والطبقة، أو العلاقة بين مختلف أشكال الهوية الجنسية وأنظمة التراكم الرأسمالي.رغم ذلك، فإن “وصف” ظاهرة أو مجموعة من الظواهر الاجتماعية التي تكون فيها الصلة بين الرأسمالية والقمع الجندري واضحة إلى حد ما. أما أن نقدم تفسيرًا “نظريًا” لسبب تحديد هذه الصلة بين الرأسمالية والقمع الجندري في هذه الظواهر، وكيفية عملها فهو شيء آخر تمامًا. علينا بعد ذلك أن نتساءل عما إذا كان هناك “مبدأ منظم” لهذا الرابط.

من أجل الإيجاز والوضوح، سأحاول تلخيص الفرضيات الأكثر إثارة للاهتمام التي تم اقتراحها حتى الآن. في “التفكير الجنساني” التالي، سأقوم بتحليل هذه الفرضيات المختلفة وطرح الأسئلة حولها بشكل منفصل. وتوخياً للأمانة الفكرية وتجنباً لسوء الفهم، أود أن أوضح على الفور أن إعادة بنائي لوجهات النظر المختلفة ليست محايدة. في الواقع يمكن تلخيص وجهة نظري بالفرضية 3 أدناه.

ثلاث فرضيات

الفرضية الأولى هي “نظرية النظم المزدوجة أو الثلاثية”. ويمكن تلخيص الرؤية الأصلية لهذه الفرضية على النحو التالي: تشكل العلاقات بين الجنسين والعلاقات الجنسية نظاماً مستقلاً ذاتياً يرتبط بالرأسمالية ويمتزج بها، ويعيد تشكيل العلاقات الطبقية، ولكنه هو نفسه يتعدل في علاقة تأثير وتفاعل متبادل. وتشمل أحدث نسخة من هذه النظرية أيضًا العلاقات العرقية، التي يُنظر إليها أيضًا على أنها نظام مستقل من العلاقات الاجتماعية المتداخلة مع العلاقات بين الجنسين والعلاقات الطبقية.

وضمن النسوية المادية، تقترن هذه الاعتبارات بأخرى تتعلق بالعلاقات بين الجنسين والعلاقات العرقية، والتي يُنظر إليها كنظم لعلاقات القهر وكذلك علاقات الاستغلال. وبوجه عام، تفهم هذه الفرضيات العلاقات الطبقية من منظور اقتصادي في جوهره: فالتفاعل بين النظام البطريركي ونظام الهيمنة العرقية هو الذي يعطيها طابعًا يتجاوز الاستغلال الاقتصادي الأساسي. ومن أشكال هذه الفرضية تلك التي ترى العلاقات بين الجنسين كنظام من العلاقات الثقافية والأيديولوجية المستمدة من أنماط الإنتاج والتشكيلات الاجتماعية التي تسبق الرأسمالية ومستقلة عنها، والتي تتدخل في العلاقات الرأسمالية بإعطائها بعدًا جندريًا.

الفرضية الثانية: “الرأسمالية غير المكثرتة”. يشكل الاضطهاد  واللامساواة بين الجنسين بقايا تشكيلات اجتماعية وأنماط إنتاج سابقة، حيث كان النظام البطريركي ينظم الإنتاج بشكل مباشر ويحدد تقسيمًا جندريًا صارمًا للعمل. فالرأسمالية في حد ذاتها غير مبالية بالعلاقات بين الجنسين ويمكنها الاستغناء عنها، لدرجة أن الرأسمالية نفسها هي التي حلت النظام البطريركي في البلدان الرأسمالية المتقدمة وأعادت هيكلة العلاقات الأسرية بشكل جذري. بشكل عام، للرأسمالية علاقة هيكلية أساسية مع عدم المساواة بين الجنسين: فهي تستخدمها حيثما كانت مفيدة، وتضعها في أزمة حيثما كانت عقبة.

لوجهة النظر هذه عدة تنويعات. يمكننا أن ننتقل من أولئك الذين يؤكدون أن المرأة شهدت تحررًا داخل الرأسمالية لم يسبق له مثيل بالنسبة لأنواع أخرى من المجتمعات، وهو ما من شأنه أن يثبت أن الرأسمالية لا تمثل عقبة هيكلية أمام تحرير المرأة، إلى أولئك الذين يؤكدون، على العكس من ذلك، أننا بحاجة إلى التمييز بشكل صحيح بين المستويين المنطقي والتاريخي للتحليل. من وجهة نظر منطقية، يمكن للرأسمالية أن تستغني بسهولة عن عدم المساواة بين الجنسين، ولكن إذا انتقلنا من التجارب النظرية إلى الواقع التاريخي، فإن الأمر ليس كذلك بالضبط.

الفرضية الثالثة: “النظرية الوحدوية”. وفقًا لهذه النظرية، لم يعد هناك نظام بطريركي مستقل عن الرأسمالية في البلدان الرأسمالية. لكن الحديث عن العلاقات البطريركية التي تستمر في الوجود دون أن تشكل نظاماً مستقلاً بذاته أمر آخر. ومع ذلك، فإن إنكار كون النظام البطريركي نظامًا في البلدان الرأسمالية لا يعني إنكار وجود الاضطهاد الجندري وأنه نابع من العلاقات الاجتماعية والشخصية ككل. كما أنه لا يعني اختزال أي جانب من جوانب هذا الاضطهاد إلى نتيجة ميكانيكية ومباشرة للرأسمالية، أو تفسيره بمصطلحات اقتصادية بحتة.

باختصار، وهذا ليس بأي حال من الأحوال اختزاليًا أو اقتصاديًا أو التقليل من مركزية الاضطهاد الجندري. بل  يتعلق الأمر بتطوير تعريفاته والمفاهيم التي يستخدمها هذا الاضطهاد، وعدم تبسيط ما هو بطبيعته معقد. على وجه الخصوص، رفضت المُنظّرات اللاتي حاولن تطوير النظرية الوحدوية فكرة أن النظام البطريركي اليوم هو نظام ذو قواعد عمل مستقلة وآليات إعادة إنتاج. وفي الوقت نفسه، أصررن على ضرورة النظر إلى الرأسمالية ليس كمجموعة من القوانين والآليات الاقتصادية البحتة، بل كنظام اجتماعي معقد ومفصّل، يحتوي في داخله على علاقات استغلال وهيمنة واغتراب.

من وجهة النظر هذه، تتمثل المحاولة  في فهم كيفية استمرار ديناميكيات التراكم الرأسمالي في إنتاج وإعادة إنتاج وتحويل وتجديد والحفاظ على علاقات التراتبية والاضطهاد دون ترجمة هذه الآليات إلى مصطلحات اقتصادية بحتة وتلقائية.

شارك المقالة

اقرأ أيضا