البطريركية و/أو الرأسمالية: إعادة فتح النقاش
بقلم، سينزيا أروزا Cinzia Arruzza
من المألوف جدًا أن نجد في النصوص والمنشورات والمقالات والوثائق النسوية إشارات إلى النظام البطريركي والعلاقات الأبوية. غالبًا ما يُستخدم مصطلح النظام البطريركي للدلالة على واقع أن الاضطهاد وعدم المساواة بين الجنسين ليسا حالات عرضية أو استثنائية. لا يمكن اختزالها في ظواهر تحدث فقط ضمن العلاقات بين الأشخاص، بل على العكس، هي قضايا تتخلل كل المجتمع، ويعاد إنتاجها على أساس آليات لا يمكن تفسيرها على أساس فردي.
باختصار، غالبًا ما يُستخدم مصطلح النظام البطريركي للتأكيد على أن الاضطهاد الجندري ظاهرة ذات ثبات معين وطابع اجتماعي وليس مجرد ظاهرة بين الأشخاص. رغم ذلك، تصبح الأمور أكثر تعقيدًا بعض الشيء إذا أردنا أن نكون أكثر دقة حول ما نعنيه بالضبط بـ”البطريركية” و”النظام البطريركي”. وخطوة أخرى في التعقيد إذا ما بدأنا في التساؤل عن العلاقة بين النظام البطريركي والرأسمالية وما العلاقة بينهما.
خط سير المسألة
خلال فترة قصيرة ما بين السبعينيات ومنتصف الثمانينيات، شكلت مسألة العلاقة البنيوية بين النظام البطريركي والرأسمالية موضوع نقاش حيوي بين المنظرين والناشطين في التيار النسوي المادي والماركسي (من النسوية الماركسية إلى النسوية المادية ذات الأصل الفرنسي، مرورا بالصيغ المختلفة لما يسمى بـ”النسوية الاشتراكية”؛ النسوية الماركسية أو النسوية المادية الأفريقية-الأميركية الأفريقية، والنسوية المادية المثلية… إلخ). كانت الأسئلة الأساسية المطروحة تدور بشكل أو بآخر حول محورين:
1) هل النظام الأبوي نظام مستقل في علاقته بالرأسمالية؟
2) هل من الصحيح استخدام مصطلح “النظام البطريركي” للإشارة إلى الاضطهاد وعدم المساواة بين الجنسين؟
تراجع هذا النقاش، الذي أثمر بعض الكتابات المثيرة للاهتمام، تدريجيًا مع تدهور نقد الرأسمالية، ومع تأكيد التيارات النسوية نفسها التي إما أنها لا تشكك في الأفق الليبرالي ; أو جعلت من العلاقات بين الذكور والإناث جوهرية وبالتالي أخرجت الجندر من سياقه التاريخي؛ أو تهربت من مسألة الطبقة والرأسمالية بينما مطورةً مفاهيم أثبتت أنها مثمرة للغاية في تفكيك الجندر (خاصة النظرية الكويرية في التسعينيات).
وبالطبع، لا يعني الاضمحلال الاختفاء، وخلال العقود المتعاقبة ، واصل العديد من المنظرين النسويين العمل على هذه القضايا، مع المخاطرة أحيانا بأن يُنظر إليهم على أنهم رجعيون ومخلفات حرب يجري التسامح مع وجودهم. وقد كانوا بالتأكيد على حق في الدأب. بينما نعيش أزمة اقتصادية واجتماعية، فإننا نشهد حاليًا عودة جزئية ولكن مهمة للاهتمام بالعلاقة الهيكلية بين القمع الجنساني والرأسمالية.
في السنوات الأخيرة، لم يكن هناك بالتأكيد نقص في التحليلات التجريبية أو الوصفية لظواهر أو قضايا محددة، مثل تأنيث العمل، أو تأثير السياسات الليبرالية على ظروف معيشة وعمل المرأة، أو تقاطع القمع بين الجنس والعرق والطبقة، أو العلاقة بين مختلف أشكال الهوية الجنسية وأنظمة التراكم الرأسمالي.رغم ذلك، فإن “وصف” ظاهرة أو مجموعة من الظواهر الاجتماعية التي تكون فيها الصلة بين الرأسمالية والقمع الجندري واضحة إلى حد ما. أما أن نقدم تفسيرًا “نظريًا” لسبب تحديد هذه الصلة بين الرأسمالية والقمع الجندري في هذه الظواهر، وكيفية عملها فهو شيء آخر تمامًا. علينا بعد ذلك أن نتساءل عما إذا كان هناك “مبدأ منظم” لهذا الرابط.
من أجل الإيجاز والوضوح، سأحاول تلخيص الفرضيات الأكثر إثارة للاهتمام التي تم اقتراحها حتى الآن. في “التفكير الجنساني” التالي، سأقوم بتحليل هذه الفرضيات المختلفة وطرح الأسئلة حولها بشكل منفصل. وتوخياً للأمانة الفكرية وتجنباً لسوء الفهم، أود أن أوضح على الفور أن إعادة بنائي لوجهات النظر المختلفة ليست محايدة. في الواقع يمكن تلخيص وجهة نظري بالفرضية 3 أدناه.
ثلاث فرضيات
الفرضية الأولى هي “نظرية النظم المزدوجة أو الثلاثية”. ويمكن تلخيص الرؤية الأصلية لهذه الفرضية على النحو التالي: تشكل العلاقات بين الجنسين والعلاقات الجنسية نظاماً مستقلاً ذاتياً يرتبط بالرأسمالية ويمتزج بها، ويعيد تشكيل العلاقات الطبقية، ولكنه هو نفسه يتعدل في علاقة تأثير وتفاعل متبادل. وتشمل أحدث نسخة من هذه النظرية أيضًا العلاقات العرقية، التي يُنظر إليها أيضًا على أنها نظام مستقل من العلاقات الاجتماعية المتداخلة مع العلاقات بين الجنسين والعلاقات الطبقية.
وضمن النسوية المادية، تقترن هذه الاعتبارات بأخرى تتعلق بالعلاقات بين الجنسين والعلاقات العرقية، والتي يُنظر إليها كنظم لعلاقات القهر وكذلك علاقات الاستغلال. وبوجه عام، تفهم هذه الفرضيات العلاقات الطبقية من منظور اقتصادي في جوهره: فالتفاعل بين النظام البطريركي ونظام الهيمنة العرقية هو الذي يعطيها طابعًا يتجاوز الاستغلال الاقتصادي الأساسي. ومن أشكال هذه الفرضية تلك التي ترى العلاقات بين الجنسين كنظام من العلاقات الثقافية والأيديولوجية المستمدة من أنماط الإنتاج والتشكيلات الاجتماعية التي تسبق الرأسمالية ومستقلة عنها، والتي تتدخل في العلاقات الرأسمالية بإعطائها بعدًا جندريًا.
الفرضية الثانية: “الرأسمالية غير المكثرتة”. يشكل الاضطهاد واللامساواة بين الجنسين بقايا تشكيلات اجتماعية وأنماط إنتاج سابقة، حيث كان النظام البطريركي ينظم الإنتاج بشكل مباشر ويحدد تقسيمًا جندريًا صارمًا للعمل. فالرأسمالية في حد ذاتها غير مبالية بالعلاقات بين الجنسين ويمكنها الاستغناء عنها، لدرجة أن الرأسمالية نفسها هي التي حلت النظام البطريركي في البلدان الرأسمالية المتقدمة وأعادت هيكلة العلاقات الأسرية بشكل جذري. بشكل عام، للرأسمالية علاقة هيكلية أساسية مع عدم المساواة بين الجنسين: فهي تستخدمها حيثما كانت مفيدة، وتضعها في أزمة حيثما كانت عقبة.
لوجهة النظر هذه عدة تنويعات. يمكننا أن ننتقل من أولئك الذين يؤكدون أن المرأة شهدت تحررًا داخل الرأسمالية لم يسبق له مثيل بالنسبة لأنواع أخرى من المجتمعات، وهو ما من شأنه أن يثبت أن الرأسمالية لا تمثل عقبة هيكلية أمام تحرير المرأة، إلى أولئك الذين يؤكدون، على العكس من ذلك، أننا بحاجة إلى التمييز بشكل صحيح بين المستويين المنطقي والتاريخي للتحليل. من وجهة نظر منطقية، يمكن للرأسمالية أن تستغني بسهولة عن عدم المساواة بين الجنسين، ولكن إذا انتقلنا من التجارب النظرية إلى الواقع التاريخي، فإن الأمر ليس كذلك بالضبط.
الفرضية الثالثة: “النظرية الوحدوية”. وفقًا لهذه النظرية، لم يعد هناك نظام بطريركي مستقل عن الرأسمالية في البلدان الرأسمالية. لكن الحديث عن العلاقات البطريركية التي تستمر في الوجود دون أن تشكل نظاماً مستقلاً بذاته أمر آخر. ومع ذلك، فإن إنكار كون النظام البطريركي نظامًا في البلدان الرأسمالية لا يعني إنكار وجود الاضطهاد الجندري وأنه نابع من العلاقات الاجتماعية والشخصية ككل. كما أنه لا يعني اختزال أي جانب من جوانب هذا الاضطهاد إلى نتيجة ميكانيكية ومباشرة للرأسمالية، أو تفسيره بمصطلحات اقتصادية بحتة.
باختصار، وهذا ليس بأي حال من الأحوال اختزاليًا أو اقتصاديًا أو التقليل من مركزية الاضطهاد الجندري. بل يتعلق الأمر بتطوير تعريفاته والمفاهيم التي يستخدمها هذا الاضطهاد، وعدم تبسيط ما هو بطبيعته معقد. على وجه الخصوص، رفضت المُنظّرات اللاتي حاولن تطوير النظرية الوحدوية فكرة أن النظام البطريركي اليوم هو نظام ذو قواعد عمل مستقلة وآليات إعادة إنتاج. وفي الوقت نفسه، أصررن على ضرورة النظر إلى الرأسمالية ليس كمجموعة من القوانين والآليات الاقتصادية البحتة، بل كنظام اجتماعي معقد ومفصّل، يحتوي في داخله على علاقات استغلال وهيمنة واغتراب.
من وجهة النظر هذه، تتمثل المحاولة في فهم كيفية استمرار ديناميكيات التراكم الرأسمالي في إنتاج وإعادة إنتاج وتحويل وتجديد والحفاظ على علاقات التراتبية والاضطهاد دون ترجمة هذه الآليات إلى مصطلحات اقتصادية بحتة وتلقائية.
التفكير الجنساني (2): نظام واحد أو نظامان أو ثلاثة؟
كتبت كريستين دلفي في العام 1970، مقالة قصيرة جدا بعنوان « العدو الرئيس L’ennemi principal»، نظّرت فيها لوجود نمط إنتاج أبوي وعلاقته وعدم تطابقه مع نمط الإنتاج الرأسمالي. عرّفت ربات البيوت كطبقة، بالمعنى الاقتصادي للمصطلح.
بعد تسع سنوات، نشرت هايدي هارتمان Heidi Hartmann مقالًة بعنوان «الزواج غير السعيد بين الماركسية والنسوية»، دعمت فيه أطروحة بأن النظام الأبوي والرأسمالية نظامان مستقلان ولكنهما متشابكان تاريخيًا. من وجهة نظرها، كانت قوانين التراكم الرأسمالي غير مراعية لجنس قوة العمل، وبينما كانت الرأسمالية بحاجة إلى خلق علاقات هرمية في تقسيم العمل، كانت العنصرية والأبوية هي التي تحدد من يجب أن يشغل المناصب الهرمية وبأي طريقة.
عُرفت هذه الفرضية باسم «نظرية النظم المزدوجة». اقترحت سيلفيا والبي Sylvia Walby في العام 1990، في كتابها « Theorizing Patriarchy « إعادة صياغة نظرية النظامين هذه بإضافة نظام ثالث، وهو النظام العنصري واقترحت اعتبار النظام الأبوي نظامًا متغيرًا للعلاقات الاجتماعية مكونًا من ست هياكل: نمط الإنتاج الأبوي والعلاقات الأبوية بين العمل المأجور والأجر والعلاقات الأبوية في الدولة والعنف الذكوري والعلاقات الأبوية في الجنسانية والعلاقات الأبوية في المؤسسات الثقافية. هذه الهياكل الستة تكَّمل بعضها بعضًا بينما تبقى مستقلة بذاتها؛ بالإضافة إلى ذلك، قد تكون عامة أو خاصة. ومؤخرًا، اقترحت دانييل كيرغوا Danièle Kergoat نظرية عن جوهر العلاقات الأبوية والطبقية والعرقية: إنها ثلاثة أنظمة من العلاقات القائمة على الاستغلال والهيمنة تتقاطع وتتشارك في الجوهر نفسه (الاستغلال والهيمنة)، ولكنها في الوقت نفسه متمايزة مثل الأجزاء الثلاثة للثالوث المسيحي.
لا يوجد تعريف قاطع
هذا المسح الموجز للمؤلفين والمقالات ما هو إلا مثال واحد فقط على الطرق المختلفة التي جرى من خلالها التنظير للتقاطع بين النظام الأبوي والنظام الرأسمالي، وما يميز أحدهما عن الآخر. هناك أمثلة أخرى، ولكنني مضطرة إلى الاقتصار على حصر هذه الأمثلة، وهي أيضًا الأوضح وأكثرها منهجية وتعقيدًا. كما سبق أن أتيحت لي الفرصة للإشارة إلى أن الصعوبة في هذا النقاش تتعلق بتعريف النظام الأبوي. لا يوجد تعريف قاطع، بل هناك مجموعة من المقترحات، بعضها متوافق مع بعضها البعض وبعضها الآخر متناقض. بما أنني لا أستطيع تحليلها جميعًا، أقترح في الوقت الحالي العمل على مفهوم النظام الأبوي الذي يُفهم على أنه نظام علاقات، مادية وثقافية على حد سواء، من الهيمنة والاستغلال للمرأة من قبل الرجل. إنه نظام له منطقه الخاص، لكنه نظام قابل للتغيير التاريخي، مرتبط باستمرار بالرأسمالية.
قبل تحليل المشاكل التي تثيرها هذه المقاربة النظرية، علينا أن نعرّف الاستغلال ونضع بعض الفروق. من وجهة نظر العلاقات الطبقية، يُعرّف الاستغلال بأنه عملية أو آلية مصادرة الفائض الذي تنتجه طبقة عاملة لصالح طبقة عاملة أخرى. وهذا يمكن أن يحدث إما من خلال آليات تلقائية مثل الأجور، أو من خلال المصادرة العنيفة لمنتوج عمل الآخرين – كما كان الحال مع السخرة التي أجبر عليها الأقنان من قبل أسيادهم الإقطاعيين الذين فرضوها بالسلطة ووسائل الإكراه العنيفة. إن الاستغلال الرأسمالي، بالمعنى الماركسي للمصطلح، هو شكل محدد من أشكال الاستغلال الذي يتمثل في ابتزاز فائض القيمة التي ينتجها العامل لصالح الرأسمالي. بصفة عامة، لكي نتمكن من الحديث عن الاستغلال الرأسمالي يجب أن نكون في مجال إنتاج السلع، والعمل المجرد، ووقت العمل الضروري اجتماعياً، والقيمة وشكل الأجر.
من الواضح أنني أترك جانبًا هنا فرضيات أخرى، مثل الفرضية القائمة على الدمج (الدمج يعني علاقة تراتبية بين المفاهيم، في منطق الوصف. هذا المفهوم قريب من العلاقة «المتضمنة بـ» في المنطق الكلاسيكي. ملاحظة المترجم) للمجتمع ككل، والتي دافع عنها التقليد العمالي وما بعد العمالي. يتطلب الأمر مقالاً آخر من أجل معالجة هذا الموضوع وعواقب مراعاة العلاقات بين الجنسين. باختصار: بالنسبة لماركس، فإن ابتزاز فائض القيمة هو سر رأس المال، بمعنى أنه أصل الثروة الاجتماعية المنتجة وآليات توزيعها.
إن الاستغلال بمعنى ابتزاز فائض القيمة ليس الشكل الوحيد للاستغلال الموجود داخل المجتمع الرأسمالي: ببساطة، يمكننا القول أن الموظف في قطاع غير منتج (من حيث القيمة) هو أيضا مستغَل ضمن معنى ابتزاز فائض القيمة. وقد يكون أجر ومعيشة وظروف عمل بائع/ة المتجر أسوأ من ظروف عمل عامل المصنع. علاوة على ذلك، وبعيداً عن مراوغات ونقاشات الماضي الاقتصادية، من المهم أن نحدد أنه من وجهة نظر عمليات التخصيص السياسي، فإن التمييز بين العمال المنتجين وغير المنتجين (بمعنى إنتاج القيمة أو فائض القيمة) غير ذي فائدة. وإذا كان هناك أي شيء، فإن آليات وأشكال تنظيم وتقسيم عملية العمل أكثر أهمية.
لنعد الآن إلى نظرية النظامين ومشكلة النظام الأبوي.
المشكلة الأولى
إذا عرّفنا النظام الأبوي على أنه نظام استغلال، يترتب على ذلك أن هناك طبقة مستغِلة وطبقة مستغَلة، أو بعبارة أدق طبقة مُصَادِرة وطبقة مُصَادَرة. من إذن يشكل هاتين الطبقتين؟ قد تكون الإجابات: كل النساء وكل الرجال، أو بعض النساء وبعض الرجال فقط (مثلا، في الحالة التي ذكرتها كريستين دلفي، ربات البيوت والأفراد الذكور البالغين من عائلاتهن). إذا كنا نتحدث عن النظام الأبوي كنظام للاستغلال في المجال «العام»، فيمكننا أن نطرح فرضية أن المستغِل أو المُصَادِر هو الدولة. لقد طبقت «النسويات العمالية» مفهوم الاستغلال الرأسمالي للعمل المنزلي، لكن لا يمكن أخذ موقفهن في سياق هذا المقال لأنه، وفقًا لهن، المصادرة الحقيقية للعمل المنزلي هي رأس المال، ما يعني في الواقع أن النظام الأبوي ليس نظامًا مستقلًا للاستغلال.
لكن في حالة أعمال كريسين دلفي، فإن الفرضية القائلة بأن ربات البيوت يشكلن طبقة وأقربائهن الذكور (خاصة الأزواج) هم الطبقة المستغِلة لا يتم التعبير عنها بشكل كامل فحسب، بل يجري أخذها إلى أقصى نتائجها. فمن الناحية المنطقية، يعني ذلك أن ربة منزل العامل المهاجر تنتمي إلى نفس الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها زوجة برلسكوني Berlusconi السابقة، فيرونيكا لاريو Veronica Lario : فكلاهما أنتجت قيم الاستعمال (في حالة واحدة، عمل الرعاية الخالص والبسيط، وفي الحالة الأخرى عمل «لتمثيل» وضع اجتماعي معين، من خلال تنظيم حفلات الاستقبال مثلا) وفعلت ذلك في علاقة استغلال خادم، أي من خلال تقديم عملها مقابل إعالة الزوج لها ماليًا.
التفكير الجنساني؛ البطريركية و/أو الرأسمالية: لنُعِدْ فتح النقاش
الجزء 3
تُصرّ دلفي في رواية «L’ennemi principal» على أن الانتماء إلى الطبقة الأبوية يجب أن يكون أكثر أهمية من الانتماء إلى الطبقة الرأسمالية. لذا، فإن التضامن بين فيرونيكا لاريو Veronica Larioوزوجة العامل المهاجر يجب أن يكون له الأسبقية على التضامن الطبقي بين زوجة العامل المهاجر وزوجها أو أعضاء آخرين من طبقة زوجها (أو، وهذا أكثر تفاؤلاً من أي شيء آخر، يجب أن يكون له الأسبقية على التضامن الطبقي بين Veronica Lario وأصدقائها في نادي الغولف). في النهاية، كانت الممارسة السياسية لدلفي في تناقض واضح مع النتائج المنطقية لنظريتها، وهو ما يسلط الضوء على حدودها التحليلية.
بالإضافة إلى ذلك، إذا ما عرّفنا الرجل والمرأة (في نسخة أو أخرى) على أنهما طبقتان من المستغلَين والمستغلِين، فلا بد أن نصل إلى استنتاج مفاده أننا أمام تضاد بين الطبقات لا يمكن التوفيق بينهما والتي تتناقض مصالحها بشكل متبادل. ولكن هل علينا بالتالي أن ننكر أن الرجال يستفيدون من عمل المرأة غير المأجور؟ كلا، لأن ذلك سيكون خطأ متماثلًا يرتكبه للأسف العديد من الماركسيين الذين أخذوا المنطق إلى نقيضه. من الواضح أن وجود شخص يطبخ لكِ وجبة ساخنة في المساء هو ميزة وأكثر عملية من الاضطرار إلى إخراج الطنجرات والمقالي بعد يوم عمل. لذلك من «الطبيعي» أن يميل الرجال إلى التمسك بهذا الامتياز. باختصار، لا يمكن إنكار أن هناك علاقات هيمنة وتراتبية اجتماعية قائمة على أساس الجنس، وأن الرجال، بما في ذلك المنتمين إلى الطبقات الدنيا، يستفيدون منها.
رغم ذلك، هذا لا يعني تلقائيًا أن هناك عداء طبقي. يمكننا أن نعمل على فرضية أخرى: في المجتمع الرأسمالي، تحدد «الخوصصة» الكاملة أو الجزئية لأعمال الرعاية، أي تركزها داخل الأسرة (مهما كانت طبيعة الأسرة، بما في ذلك الأسر ذات العائل الواحد)، وغياب التنشئة الاجتماعية الواسعة النطاق لأعمال الرعاية هذه، من خلال الدولة الاجتماعية أو بأشكال أخرى، كل ذلك يحدد عبء العمل الذي يجب أن يقدم داخل المجال الخاص، خارج السوق وخارج المؤسسات. تحدد علاقات الهيمنة والاضطهاد بين الجنسين الطريقة والنسب التي سيجري بها توزيع عبء العمل هذا، مما يؤدي إلى توزيع غير متساو: تعمل النساء أكثر ويعمل الرجال أقل. لكن هذا لا يعني وجود «فائض».
هل هناك أي دليل معاكس؟ كل ما علينا فعله هو إجراء تجربة فكرية صغيرة. لن يخسر الرجل الذكوري المناوب في نهاية المطاف شيئًا من حيث توزيع عبء العمل إذا كانت أعمال الرعاية اجتماعية بالكامل بدلًا من أن تقوم بها زوجته. لذلك، من الناحية الهيكلية، لا توجد مصالح متضادة أو متعارضة على المدى الطويل. بالطبع، هذا لا يعني أنه مدرك لذلك؛ فربما يكون قد اندمج في الثقافة المتحيزة ضد المرأة إلى حد أنه قد طور نوعًا من النرجسية الحادة القائمة على فكرة تفوقه الذكوري المفترض، ما يدفعه بطبيعة الحال إلى معارضة أي محاولة لإضفاء الطابع الاجتماعي على أعمال الرعاية أو تحرير زوجته. أما الرأسمالي، بالمقابل، لديه ما يخسره إذا ما تم إضفاء الطابع الاجتماعي على وسائل الإنتاج، والأمر لا يتعلق فقط بقناعاته حول الطريقة التي يعمل بها العالم ومكانته فيه، بل يتعلق أيضًا بالنهب الذي استولى عليه بسعادة من البروليتاريين.
المشكلة الثانية
تتمثل الإشكالية الثانية في أن العلاقات الأبوية تشكل اليوم نظاماً مستقلاً داخل المجتمع الرأسمالي المتقدم، وهو ما يطرح السؤال الشائك في تبرير القوة الدافعة لها: لماذا يعيد هذا النظام إنتاج نفسه باستمرار؟ لماذا يستمر؟ إذا كان نظامًا مستقلًا، فلا بد أن يكون السبب داخليًا وليس خارجيًا. فالرأسمالية، مثلا، هي نمط إنتاج ونظام علاقات اجتماعية، يمكن تحديد منطقها والاعتراف به: وفقًا لماركس، هي عملية تثمين للقيمة. وبالطبع، فإن تحديد القوة الدافعة وراء عملية تثمين القيمة لا يعني أننا قلنا كل ما يمكن قوله عن الرأسمالية. سيكون ذلك مثل الادعاء بأن شرح تشريح القلب وكيفية عمله يكفي لشرح تشريح جسم الإنسان. إن الرأسمالية مجموعة معقدة من الأشياء. رغم ذلك، يبدو لي أن فهم القلب وكيفية عمله ضرورة تحليلية أساسية.
حيثما تلعب العلاقات الأبوية دورًا مباشرًا في تنظيم علاقات الإنتاج (من ينتج، وكيف، ومن يستحوذ على ماذا، وكيف يتم تنظيم إعادة إنتاج شروط الإنتاج، إلخ) من السهل إلى حد ما تحديد القوة الدافعة وراء النظام الأبوي. هذا هو الحال، مثلا، في المجتمعات الزراعية، حيث تشكل الأسرة الأبوية بشكل مباشر الوحدة الأساسية للإنتاج. لكن الأمر أكثر تعقيدًا في المجتمع الرأسمالي، حيث لا تقوم العلاقات الأبوية بتنظيم الإنتاج بشكل مباشر، على الرغم من أنها تلعب دورًا في تقسيم العمل، وحيث جرى إقصاء الأسرة إلى المجال الخاص وإعادة الإنتاج.
عند هذه النقطة، إما أن نفعل ما تفعله دلفي والعديد من الماديات النسويات: نحدد في النظام الأبوي المعاصر نمطًا محددًا للإنتاج أو على الأقل مجموعة من علاقات الاستغلال، ولكننا نعود إلى المشكلة الأولى التي سبق أن ذكرناها. فيما عدا ذلك، هناك خيارات قليلة متاحة.
إحدى الفرضيات التي جرى طرحها في الماضي هي أن النظام الأبوي هو نظام أيديولوجي مستقل، تكمن قوته الدافعة في عملية إنتاج الدلالات والتفسيرات للعالم. ولكننا هنا نواجه مشاكل أخرى: إذا كانت الأيديولوجيا هي الطريقة التي نفسر بها ظروف وجودنا وعلاقتنا بها، فلا بد أن يكون هناك رابط بين الأيديولوجيا وظروف الوجود الاجتماعية. رابط ليس بالتأكيد ميكانيكيًا أو آليًا أو أحادي الاتجاه. لكن يجب أن يكون نوعًا معينًا من الارتباط، وإلا فإننا نخاطر بأن يكون لدينا مفهومًا صنمياً وتاريخياً للثقافة والأيديولوجيا. الآن، يبدو لي أن حقيقة فهم النظام الأبوي كنظام أيديولوجي وإعادة إنتاجه الذاتي باستمرار، رغم التغييرات المذهلة التي أدخلتها الرأسمالية على الحياة والعلاقات الاجتماعية خلال القرنين الأخيرين على الأقل، تبدو لي غير مقنعة. الفرضية الأخرى هي أن القوة الدافعة يمكن أن تكون سيكولوجية، لكنها في هذه الحالة أيضًا قد تؤدي إلى تصور صنمي، وتاريخي للنفس البشرية.
[يتبع]
اقرأ أيضا