المغرب: إضراب عام تحت سطوة بيروقراطية نقابية مفلسة
كان الإضراب العام ليوم 29 أكتوبر 2014 ضروريا، لكن غير كاف لرد تعديات الهجمات التقشفية لدولة الاستبداد وحكومة تدبير شؤونها. لقد دبرت القمم البيروقراطية للمركزيات النقابية فشل الإضراب عبر إفراغه من مضمونه القتالي لانتزاع الحقوق انتزاعا. كان دليل الإضراب الذي أصدرته تلك البيروقراطيات النقابية كمن يقول لدولة الاستبداد نحن حريصون جدا على السلم الاجتماعي وعلى مصالح الدولة والباطرونا، ونلتزم أن لا يضر الإضراب بتلك المصالح، بل أكثر من ذلك نلتزم بتعويض الخسائر التي يسببها.
هل كان الإضراب موجها لإحراج حكومة العدالة والتنمية؟ هل كان للنيل من شعبية هذا الحزب الذي يقود حكومة الاستبداد، ويقود أشرس تعديات النيوليبرالية الجديدة القاتلة لما بقي من مكاسب تاريخية؟ كل المؤشرات ترجح ذلك، ما دام الإضراب ليس لا ضد الدولة كمشغل ولا ضد برجوازي القطاع الخاص.
لقد ضاعت فرصة لخوض إضراب عام حقيقي لفرض التنازل على الدولة المستبدة وحكومتها. لا مجال للبحث عن مشجب لأن عمق المشكل هو الإستراتيجية النقابية التشاركية الحريصة أكثر على مصالح رأس المال وتنافسيته مما على مصالح جماهير الأجراء والأجيرات المستغلين بشكل مفرط والمفقرين.
هذه الإستراتيجية هي التي قادت الحركة النقابية المغربية للمأزق الحالي. لقد حلت نقابة التوافق الطبقي والشراكة محل نقابة مناوشة تحث هيمنة معارضة برجوازية جبانة.
سياق الإضراب العام
تدهور شديد للوضع الاجتماعي والاقتصادي للأغلبية الشعبية المسحوقة، فالصحة متردية، والتعليم تم تخريبه، والبطالة جماهيرية ودائمة، والهشاشة في تصاعد، والبؤس والفقر واسعا الانتشار، والاستغلال المفرط بأجور الذل مستمر، والفساد معمم… جاء الإضراب العام الإنداري في هذا السياق من اشتداد الخناق بفعل آثار أزمة الرأسمالية العالمية على اقتصاد مأزوم أصلا، واستعمال تلك الأزمة نفسها مبررا لتشديد تعديات دولة الاستبداد القائمة على ما تبقى من مكاسب نضال تاريخي مرير. وفي سياق ردة الثورة المضادة بالمنطقة. سياق تدمير مكاسب تاريخية بواسطة سياسة مفروضة من الامبريالية ومؤسساتها انضم إليها طيف الأحزاب الرئيسية المعارضة في السابق.
كما آتى في سياق خفوت موجة النضال الذي أطلقته حركة 20 فبراير، ونضال عمالي وشعبي أغلبه خارج قناة النقابة بمطالب أهمها الشغل والتعليم والسكن والصحة والبنية التحتية الاجتماعية.
مجريات الإضراب العام
شلل شبه تام في المرافق العمومية وشبه العمومية، واضطراب في باقي القطاعات الإنتاجية. وتتحدث تقارير النقابات عن انخراط مهم لموظفي المؤسسات العمومية، وشبه العمومية، كالتعليم والصحة والجماعات المحلية والبنوك والبريد، وقطاع إنتاج الكهرباء وتوزيع الماء الصالح للشرب والتكوين المهني، والضمان الاجتماعي، والنقل الطرقي، والجوي والبحري والموانئ والسكك الحديدية. في حين ظهر بعض الخلل في قطاعات إنتاجية أخرى مثل المحلات التجارية الصغيرة والصناعات المرتبطة بالسياحة والخدمات وغيرها.
الحكومة والإضراب العام
اعتبرت الحكومة أن الإضراب “مر في ظروف طبيعية وعادية اتسمت بالحفاظ على السلم والأمن مما يؤكد من جديد تميز بلادنا”، ونوه بنكيران بتحمل النقابات لمسؤوليتها في تأطير الإضراب، مبرزا أن المرافق العمومية اشتغلت عموما بطريقة عادية. وجدد استعداد حكومته للحوار في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة بما “يخدم مصالح المواطنين”.
وصرح وزير الداخلية أن “ما طلبته الحكومة من النقابات” هو أن “يمر الإضراب في هدوء، وبدون عنف، وبدون أي إخلال بالنظام العام”. ودعا النقابات إلى “تقديم صورة للمغرب المتحضر”، موضحا أن “الحكومة لم تتدخل لمنع أي شخص من القيام بالإضراب”.
عدا ذلك، بقي رئيس الحكومة متشبثا بسياسته وهو ماض في تنفيذها، ووعد بفتح جولة حوار جديد مع النقابات دون تغيير نظرته حول طريقة إصلاح صندوق التقاعد التي يقول أنه سيشرع في تنفيذها، وسيحتفظ بوصفته الثلاثية المعتمدة على الزيادة من الاقتطاعات الشهرية للمساهمين، وتخفيض معاشات التقاعد والرفع من سن التقاعد.
القيادات النقابية والإضراب العام
أطلق الدعوة للإضراب كل من الاتحاد المغربي للشغل، والكنفدرالية الديمقراطية للشغل والفيدرالية الديمقراطية للشغل، ثم انضم عدد من النقابات الأخرى إليه.
وفي نداء إلى الطبقة العاملة المغربية أصدرته نفس المركزيات يوم 16 أكتوبر 2016، طالبت، ضمن مطالب أخرى، بتنفيذ ما تبقى من اتفاق 26 أبريل 2006، وإلغاء الفصل 288 من القانون الجنائي الذي يجرم العمل النقابي، وسن سياسة اجتماعية لمعالجة ظاهرة التشغيل والبطالة، وخاصة في أوساط حاملي الشهادات العليا، وفي الأخير تلبية الملفات المطلبية للمتقاعدين والاعتناء بأوضاعهم الاجتماعية.
لم تلق الحكومة وهي تطلق تعدياتها تباعا مقاومة فعلية من القيادات النقابية التي رافقت سياسات الدولة التراجعية دون أن تملك بديلا مناهضا لها ومستقلا عنها، وهي لا تفعل سوى ترديد دعواتها المحتشمة للتفاوض والشراكة… إنها تخشى النضال أكثر من خشية الاستبداد. لذا أصدرت توجيها أسمته دليلا للإضراب أبطل عمليا مفعوله.
ماذا بعد الإضراب العام، الحاجة لإستراتيجية نقابية بديلة
نحو ثلاث سنوات من عمر الحكومة الحالية، شهدت مواصلة نهج سياسات لصالح الرأسمال الأجنبي والبرجوازية المحلية. تراجعات اجتماعية كبيرة جدا مقابل منح قروض، وتبني سياسات خلقت مجالات جديدة للتراكم للبرجوازية بخاصة عبر الخوصصة وسمحت لها بتفكيك مكاسب مهمة للحركة العمالية المغربية.
السخط العمالي والشعبي موجود عبارة عن تحركات احتجاجية معزولة ومشتتة مكانا وزمانا، والمناضلون النقابيون محبطون بالهزائم وبالاستراتيجيات النقابية المفلسة، وبقمع النشاط النقابي فضلا عن تجريم الحراك الاجتماعي.
الإضراب هو وضع علاقات السيطرة موضع تساؤل. الإضراب هو وضع حد، على الأقل مؤقت، للاستغلال ولعلاقات السيطرة الطبقية، والإضراب العام هو مواجهة مباشرة لتلك الآلة من أجل انتزاع تنازلات، ولما لا فتح سبيل للتحرر منها نهائيا.
جرى الإضراب العام في وضع اختلت فيه موازين القوى لصالح الطبقات المالكة، وواضح جدا أن تحقيق المطالب الملحة والعاجلة لن يحصل باستجداء الحوار والشراكة مع مصاصي دماء العمال والطبقات الشعبية الكادحة، وطبعا لن يكون ذلك ممكنا إذا استمرت موازين القوى الحالية على حالها المختل لغير صالح الأغلبية الساحقة المستغلة والمضطهدة.
الحاجة ملحة أكثر لإضراب عام حقيقي أقوى وأكثر تنظيما ووعيا وقتالية، ضد مخطط تقشف الحكومة وتنازلاتها السخية للرأسمال الكبير وللامبريالية. إضراب عام مستند للفعل المباشر للعمال بالأحياء وأماكن العمل، مسير ديمقراطيا، ويدوم ما يلزم من وقت لإجبار الدولة على التنازل.
ليس لدى القيادات النقابية برنامج عمل، فقط خضوع أمام إجراءات الحكومة، والتعديات التي وضعتها على جدول أعمالها للقضاء على نزر المكاسب المتبقية. تعلن البيروقراطيات أنها تفضل وسائل أخرى غير الإضراب لأنها حريصة على خفض التوتر داخل المجتمع والحفاظ على السلم الاجتماعي.
إنه دور يسار مناضل فعلا، وقد أثر حال ضعفه وهامشيته، وتيهه، على مجريات الإضراب العام الإنداري، وعلى كيفية تحضيره والتعبئة له. أرادت القيادات النقابية الداعية للإضراب إضرابا سلبيا ومتحكما فيه، وساعدها غياب دور اليسار الجدري والعمل النقابي الكفاحي على ذلك..
ضروري وعاجل تنسيق جهود اليسار النقابي على كل المستويات من أجل الدفاع عن بديل استراتيجي: عمل نقابي كفاحي مناهض للرأسمالية لا يهاب النضال من أجل فرض التنازل أو الرحيل على أي حكومة لا تلبي مطامح جماهير العمال والعاملات وجماهير الطبقات الشعبية المسحوقة.
يجب الانطلاق من الوضع الملموس الحالي، والارتكاز على القطاعات الكفاحية التي تناضل من أجل فتح نقاش صريح وهادئ يفضي إلى عمل منهجي لفرض ميزان قوى داخل كل النقابات القائمة يسمح بعقد مؤتمرات تعيد رسم سياسة النقابة وإستراتيجية نضالها. إنه صراع بين يسار ويمين النقابة على اليساريين الثوريين أن يلفوا حوله الطلائع النقابية من خلال جموعات عامة قطاعية وبين قطاعية، وجموعات عامة بأماكن العمل…
العمل النقابي مأزوم ولن يتم تخطي هذه الأزمة سوى بانخراط واع ومنظم وحازم للنقابيين الكفاحيين.
سليم نعمان
أبريل 2015
اقرأ أيضا