الاتحاد الاشتراكي: من أصول شعبوية راديكالية إلى حزب برجوازي سافر، ومنحط
نشر هذا النص ضمن مواد العدد 59 من جريدة المناضل-ة لشهري مارس- أبريل.
بقلم: محمود جديد
في يناير 2015، احتفل حزب الاتحاد الاشتراكي بعيد ميلاده الأربعين وهو في حال من التفسخ متقدمة. مضى زمن كان بهذا الحزب جناح رافض للنزوع الانتخابوي، برؤية إصلاح جذري مضببة بالحنين إلى مجد ثوري. زمن ختمه عبد الرحيم بوعبيد بطرد معارضيه، وحتى باستدعاء الشرطة لاعتقالهم، كان ذلك قبل ثلاثين سنة. ومضى زمن كان بهذا الحزب جناح رافض للانبطاح التام للملكية باسم «الوفاء للديمقراطية»، لم تعد تربة الحزب المتغيرة قابلة له فلفظته، حدث ذلك في العام 2002. كان هذا الجناح آخر اختلاجات جسم يغوص في أوحال «التوافق مع الملكية». مذاك غدا الحزب مجرد مستنبت لمقتنصي فرص الترقي الاجتماعي عبر مؤسسات الديمقراطية الزائفة، الديمقراطية الحسنية، المحلية منها والوطنية.
من يجرؤ على ادعاء أن وازعا إصلاحيا يحرك اليوم قسما، أي قسم، مما يحمل اسم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية؟ فلا أنصار الكاتب الأول، ولا أتباع ما يدعى تيار «الانفتاح والديمقراطية»، ولا سواهما، يذود عن برنامج إصلاحات حقيقي، ولا حتى أي برنامج.
كل الأطراف، مهما تنافرت ظاهريا، متحدة في خدمة النظام. لا يفرق بين التكتلات المتصارعة قضايا برنامجية، ولا تباين تكتيك، ولا خلاف بصصد صيغ تنظيمية. فهذا كله انتفى من الحزب بعد تحولات سياسية واجتماعية عميقة.
وليست الجلبة التي يشهد الحزب حاليا، وتضعه على شفا انقسام تنظيمي جديد، سوى تنافس على «أصل تجاري» بلغة «النضال الديمقراطي» المألوفة . فما خلا الأصول التاريخية، وبعض رواسب ماض «نضالي»، ليس دور الاتحاد الاشتراكي اليوم مغايرا لسواه من أحزاب «المسلسل الديمقراطي»، دور دعامة لنظام الاستبداد والاستغلال والتبعية، سواء بلعب «معارضة»، أو قفاز للحاكمين الفعليين، في حكومة الواجهة.
اشتراكية-ديمقراطية مغربية؟
عند تأسيس الحزب في منتصف سبعينات القرن العشرين، اظهر نزوعا لتطبيق استراتيجية «اشتراكية-ديمقراطية» بخصوصية محلية.
جوهر الخصوصية متمثل في أمرين:
– أولهما، أن الاتحاد الاشتراكي لم يكن بأي وجه حزبا عماليا على النحو الذي كانته أحزاب الأممية الثانية بالبلدان الرأسمالية المتقدمة، بل حزبا مستندا على قاعدة شعبية مختلطة موروثة عن الاتحاد الوطني للوقات الشعبية، الذي كان حزبا شعبويا على نمط ما شهدت بلدان أخرى من العالم الثالث.
– والثاني، أن النظام المغربي لم يكن ديمقراطية من الطراز البرجوازي الذي يغذي وهم تغيير المجتمع باستعمال مؤسسات الدولة البرجوازية، وهي قاعدة الاستراتيجية الاشتراكية الديمقراطية التقليدية، و التي تبناها لاحقا قسم آخر من الحركة العمالية بالبلدان الامبريالية، وهو المعروف باسم الأوروشيوعية.
على هذا النحو، كان الاتحاد الاشتراكي تكييفا محليا للاشتراكية الديمقراطية، وقد أصبح فرعا للأممية الاشتراكية، بعد أن انفتحت هذه بدءا من منتصف السبعينات انفتاحا على أحزاب معارضة متنوعة بالعالم الثالث، ضمن الدور الذي بات للأممية الاشتراكية بالعالم الثالث بعد تولي فيلي برانت رئاستها عام 1976 .
التقى هذا النزوع «الاشتراكي الديمقراطي» الزائف مع حاجة الملكية، بعد هزات مطلع سنوات 1970 (محاولتي انقلاب عسكري، حركة 3 مارس، تجذر الشبيبة وظهور اليسار الجديد…)، إلى شريك لتدبير الوضع السياسي. فانطلق ما سمي «مسلسلا ديمقراطيا» بانتخابات 1976 المحلية و 1977 البرلمانية. وموازاةً، تعاون الاتحاد الاشتراكي مع الملكية في مسألة الصحراء الغربية. وفي كلا المجالين ترسم الملكية حدود الحيز المتاح لحليفها، فيما يسعى هذا الأخير إلى دفع تلك الحدود طبقا لمنظوره الخاص، ما أسفر عن توترات تحسمها الملكية بالقمع (من قبيل سجن بوعبيد وقادة آخرين سنة 1981 بعد تحفظ الحزب من قبول الحسن الثاني مبدأ استفتاء تقرير المصير في الصحراء، …).
أرادت الملكية الاتحاد الاشتراكي أداةً لخدمة استبدادها، فيما كان هو يروم استعمال ما تسمح به الملكية لدفعها إلى التحول بما يتيح تطبيق مشروعه الاصلاحي البرجوازي.
هذا المشروع قوامه اعادة تجربة حكومة عبد الله ابراهيم، تلك الصيغة التي فرضها السياق التاريخي على الملكية في انتظار حسمها النهائي لتنافسها مع الحركة الوطنية البرجوازية، واعتبرها انصار بنبركة امكانية لبناء نموذج مغربي، نموذج نظام ملكي يرعى تجربة بناء اقتصاد وطني وديمقراطية.
فيما كان النظام يبيد ثوريي الحركة الاتحادية وبالإعدامات والسجن، ومناضلي الحركة الماركسية اللينينية بقرون من السجن، استفاد الاتحاد الاشتراكي من متسع للتعبير، على صعيد الصحافة والمقرات الحزبية، والعمل السياسي بوجه عام، ما أتاح تجديد وتوسيع قاعدته، بوجه خاص صوب اساتذة الجامعة والمحامين والشغيلة الذهنيين، المدرسين منهم بالمقام الأول. واستفاد الاتحاد الاشتراكي من أزمة الحركة النقابية (استشراء البيروقراطية ودورها في نسف النضالات…) ومن ضعف اليسار العمالي الثوري، ليمد هيمنته على قسم من الطبقة العاملة عبر تأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل التي خرجت ناجزة من جبته لدرجة أن حتى الاسم اختاره عبد الرحيم بوعبيد.
هذا الامتداد داخل طبقة الأجراء مكن الاتحاد الاشتراكي من مناوشة الملكية، لكن على نحو مسؤول إزاء توابث النظام السياسي، والاقتصادي الاجتماعي. إذ ظلت الإضرابات العمالية محتواة ومتحكم بها بحرص شديد، رغم ما انطوى عليه ذلك من مجازفة. تجلى الأمر في تحريك مضبوط لقطاعات أجراء على قاعدة مطالب مهنية، أفضى بعضها إلى تفجر الغضب الشعبي في عصيانات زادت شعبية الاتحاد الاشتراكي توهجا (إضرابي 1981 و1990 العامين).
جمع الحزب هذا الفعل بالساحة الجماهيرية، إلى عمل بمؤسسات الديمقراطية الحسنية، من مجالس بدلية وقروية وبرلمان، وساعد الملكية بمشاركته بعدد من مؤسساتها التمويهية وحتى بتقلد مناصب وزارية و الاضطلاع بأدوار ديبلوماسية موازية في مسألة الصحراء.
وإن اعتبر الحزب العمل في مؤسسات الديمقراطية الحسنية «نضالا ديمقراطيا» وسبيلا إلى التغيير، فإن تلك المؤسسات هي التي غيرت الحزب بلفظ بقايا الشعبوية الراديكالية (ما سيفضي الى حزب الطليعة)، وجذب ممتهني السياسة في المؤسسات، اي الوصوليين والانتفاعيين، بل حتى تحويل قسم من المناضلين إلى قناصي فرص اغتناء بالفساد.
نهاية حزب عموم الكادحين
كانت النواة الصلبة الموجهة للاتحاد الاشتراكي مثقفين بورجوازيين، حاملي مشروع رأسمالية أقل تبعية، جعلهم الخوف من نضال الكادحين يتوهمون إمكان إصلاح الملكية لتلائم أحلامهم. لم تكمن قوة الحزب في الاستناد على البرجوازية أو على المالكين الصغار، بالمدن والقرى، بل كانت قوة تأثير مثقفين برجوازيين على طبقات أخرى بقدر ما لم تتوصل هذه الأخيرة بعد إلى إيديولوجية سياسية خاصة بها.
وتعود الجذور التاريخية لهذا إلى الحركة الوطنية البرجوازية التي هيمنت سياسيا على العمال و كادحي القرى، بفعل قصور الحزب الشيوعي المغربي.
وهو ما تبلور لاحقا في ما سمي «حزب القوات الشعبية»، وعبر عنه بنبركة بقول:» نحن بامتياز حزب الجماهير الكادحة الحضرية والقروية المجسد لتحالف العمال و الفلاحين والمثقفين الثوريين الدائم، حزب الشعب ما عدا الطبقات المستغلة من إقطاعيين والبرجوازية الكبيرة الطفيلية، حلفاء الاستعمار الجديد وركائزه.»[ المهدي، كتابات سياسية 1957-1965 ص 262 دار نشر Sylepse – 1999 ].
وعلى شاكلة حزب الاستقلال ذاته، زمن الاستعمار، لما كان بقاعدة شعبية عريضة، وككل حزب برجوازي يضم الجماهير، كان الاتحاد الاشتراكي يعكس نفس بنية المجتمع البرجوازي: الكادحون المخدعون في أسفل والخداعون في أعلى، ما جعل القاعدة يسارية أكثر من القيادة.
حافظ الاتحاد الاشتراكي على بقايا هذه الشعبوية الراديكالية، لتضمحل تدريجا بهيمنة جناح بوعبييد، ثم تزول نهائيا باستسلام الحزب لبرامج صندوق النقد الدولي المنتهكة لسيادة البلد الاقتصادية و السياسية، لدرجة النهوض بدور المنفذ لها بما سمي «حكومة تناوب».
بينت تجربة الحركة الاتحادية (يسار الحركة الوطنية)، وما مثل الاتحاد الاشتراكي من امتداد لقسم منها، مصير أحزاب القوات الشعبية، أي استحالة قيام حزب متعدد الطبقات يعبر في الآن ذاته عن خطين تاريخيين متناقضين، الشغيلة من جهة وعموم الكادحين من جهة ثانية.
حصيلة هذا التاريخية هي استعباد العمال سياسيا لصالح البرجوازية، هذا بصرف النظر عن الذهنية الثورية والتفاني البطولي لمناضلين ُكثر، من الشعبوية الراديكالية، وهبوا حياتهم من أجل انعتاق المغرب وكادحيه، سيظلون مثالا للوفاء و التضحية.
اقرأ أيضا