أين تسير بنا القيادات في معركة حرية الإضراب ؟
قبل 21 سنة، وقعت الدولة وممثلي أرباب العمل مع ممثلي نقابات الاتحاد المغربي للشغل، والكنفدرالية الديمقراطية للشغل، والاتحاد العام للشغالين بالمغرب، اتفاق 30 ابريل 2003، كان محوره تمرير مدونة الشغل، بما حملت من أشكال إضفاء الهشاشة على علاقة الشغل، ومن ثمة ما نتج طيلة العقدين من شبه انتفاء التنظيم النقابي في القطاع الخاص. وكان ضمن المقابل الذي حصل عليه ممثلو النقابات العمالية ما يلي:
- إلغاء مقتضيات الظهير الصادر في 13 سبتمبر 1938 المتعلقة بالتسخير؛
- إلغاء المادة 5 من مرسوم 5 فبراير 1958 والمتعلق بممارسة الحق النقابي من طرف الموظفين؛
- مراجعة الفصل 288 من القانون الجنائي، وذلك تفاديا لكل التأويلات التي يثيرها تطبيق هذا الفصل.
إنها أمور أساسية من شأن تطبيقها تخفيف الأغلال المقيدة للحرية النقابية. لكن بعد عقدين لم يجرِ تنفيذ أي منها، ولا حتى واحدة.
يدل هذا عن “فضائل” ما يسمى بـ”الحوار الاجتماعي”، أي ذلك “التفاوض” البارد في سياقات خالية من تعبئة لقوى الطبقة العاملة وتحركها في نضالات موحدة. كما يدل على عزم دولة الرأسماليين على استمرار تقييد الشغيلة، ومنعهم من الدفاع عن أنفسهم بوجه ما يتعرضون له من فرط استغلال ومن هجوم على مكاسبهم.
تقوى هذا العزم طيلة العقدين بإعداد مشاريع قوانين متتالية تروم كلها مزيدا من الإجهاز على حق الإضراب، أي تجريد الشغيلة من ما تبقى من أدوات الدفاع عن النفس بوجه جبروت أرباب العمل ودولتهم. وقد شهد المغرب طيلة العقدين سياقات نضالية عمالية وشعبية لم تكن ملائمة للدفع بمشروع قانون الإضراب قُدما بتمريره من المؤسسات “المنتخبة” ليكتسب قوة القانون.
أحيل على مجلس النواب في مطلع أكتوبر 2016، وظل عالقا إلى أن عُرض يوم 16 يوليو الجاري على لجنة القطاعات الاجتماعية بـ”مجلس النواب”، وذلك تنفيذا لما جاء في اتفاق ممثلي النقابات مع الدولة و أرباب العمل في أبريل 2024، تنفيذا لاتفاق 30أبريل 2022.
إن مباشرةَ عمليةِ تمرير هذا القانون مؤشر على التدهور المريع في ميزان القوى لغير صالح طبقتنا. تدهور كان فيه لسياسات القيادات النقابية دور كبير، حيث تعاظم تعاونها مع الدولة المصعدة هجومها، تعاونا كان ما جرى في قطاع التعليم مثالا صارخا وفاضحا عنه. وتدهور ميزان القوى هذا الذي شجع الدولة على تسريع عملية الإجهاز على حرية الإضراب، لا يقتصر على الساحة العمالية بل هو عام، تجلت معالمه، وتنامت، منذ قمع حراك الريف وما تلاه من تصعيد القمع ضد الأصوات غير المطبلة للسياسة الرسمية.
ليس تعاون القيادات النقابية مع الدولة البرجوازية مقتصرا على ما ينتج عن مجريات ما يسمى “الحوار الاجتماعي”، بل هو أساسا في انعدام أي سعي إلى تنظيم دفاع فعال عن مكاسب الطبقة العاملة. وموضوع حرية الإضراب بالذات نموذج عن هذا السلوك المدمر لقوانا. فقد تتالت بانتظام مشاريع قوانين الإضراب منذ ربع قرن، بموازاة تكالب الإعلام البرجوازي على المضربين/ات، دون أن تنظم أي نقابة حملة إعلامية وميدانية للتعريف بمخاطر تلك المشاريع، والتعبئة ضدها؛ وما كان من جهود تنوير بهذا الصدد إنما نتج عن مبادرات مناضلين، خارج الهياكل النقابية.
لا بل درجت القيادات على المشاركة في لقاءات حول موضوع قانون الإضراب دون حتى إخبار القاعدة العمالية بفحواها. كشف الوزير المعني بملف قانون الإضراب عن استمرار التداول في الموضوع مع من يسميهم “الشركاء الاجتماعيين”، إذ أعلن أمام لجنة القطاعات الاجتماعية بـ”مجلس النواب” عن عقد 30 لقاء. لقاءات ما تزال مستمرة “من أجل السعي الى التوافق بعد أن بلغنا مراحل مقدمة ساهمت بشكل إيجابي في تقريب وجهات النظر بشأن مشروع هذا القانون” على حق قول الوزير.
فبدل سياسة إعلام وشفافية إزاء القواعد العمالية، سرت قاعدة التفاهمات خلف ظهر الشغيلة، كان مثالها الأبرز إخراج النظام الأساسي في التعليم الذي فجر حراك الأشهر الثلاثة. لقاءات تحدث عنها، دون إصدار بيان بشأنها في حينه، الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل في مؤتمر نقابة التكوين المهني بقول: “جاءنا الوزير بمبادئ عامة رفضناها لأنها ملغومة، وجاءنا بنص فيه مادة بعد مادة، رميناه عليه، ونسخة ثالثة ورابعة، أربع مسودات رفضناها لأنها ملغومة”.
ومن جهته كشف فيراشين، عضو المكتب التنفيذي للكنفدرالية الديمقراطية للشغل، في عرضه بالمقر النقابي في المحمدية، بشأن موضوع قانون الإضراب، عن لقاءات المركزية مع الوزارة، حيث قدمت النقابة ملاحظاتها على مشروع القانون مادة بعد مادة. هذا علما بأنه لم يسبق قط أن صدر بشأنها بيان، أو وردت في بيانات الأجهزة الاعتيادية. تلك الملاحظات كان أجدر أن تكون موضوع مذكرة إلى القواعد للشرح والتعبئة وتنظيم ندوات، تحضيرا للمواجهة المحتمة.
هل نسير بعد هذا التكتم المديد نحو تكرار سيناريو النظام الأساسي للتعليم؟ إن كان الأمر كذلك فواجبنا العمل من أجل استنهاض حراك عام ضد مشروع قانون إلغاء حرية الاضراب.
إن نحن صدقنا ما يقول قادة النقابات، لدب الاطمئنان في أنفسنا، وانصرفنا عن موضوع قانون الإضراب نحو مشاغل نضالية أخرى. فالأمين العام للاتحاد المغربي للشغل يعد ويتوعد: “مشروع قانون 2016 يجب دفنه… إنه غير ذي موضوع، لا يمكن أخذه كأرضية للنقاش. مشروع القانون هو قانون جنائي قاومناه… لن نفرط في هذا الحق، بدونه لا يبقى عمل نقابي. لا مناقشة ولامساومة على حق الإضراب”.
ومن جانبه يؤكد عضو المكتب التنفيذي للكنفدرالية قائلا: “آخر اتفاق مع الحكومة ينص على التوافق… التوافق إذا لم يحصل ستناضل الكنفدرالية، والتوافق صعب في هذه القضية… إذا لم تدخل تعديلاتنا سيكون لنا موقف نضالي”.
نريد تصديق القادة، لكن كلاما شبيها سمعناه لما بدأ تفعيل اقتطاع أجور المضربين/ات، ولم يتبعه أي فعل ميداني، فيما استطاع شغيلة التعليم في جهة سوس- ماسة- درعة استرجاع ما اقتُطع آنذاك ببرنامج نضالي فعال. ونظير هذه التطمينات سمعناه لما كانت القيادات مشاركة في اللجنتين الوطنية و التقنية لما سمي إصلاح أنظمة التقاعد، وفي الأخير كانت المصيبة الثلاثية المعروفة: انقاص المعاش ورفع سن التقاعد و نسبة الاقتطاعات.
الهوة بين القول والفعل مصدرها أن القيادات تتعاون مع الدولة ضد مصلحة الشغيلة، ولا يمكنها أن تعلن ذلك، فتتظاهر بالمعارضة الشرسة، و لا تترجمها إلى أفعال، بل تخشى تعبئة عمالية فعلية قد تطلق دينامية كفاحية مفلتة تهدد التوافقات الفوقية مع الدولة.
أرباب العمل مرتاحون، ينتظرون إتمام الحبكة، ووضع الأغلال الجديدة في أيدي الطبقة العاملة بكل فرح، فقد جاءتهم دولتهم بمشروع فاق كل أحلامهم، فسحبوا ما اقترحوا من مشروع قانون للإضراب. وتواصل صحافتهم حملتها التضليلية لمواكبة ما يجري في مجلس النواب، بالتحامل على المضربين وذرف دموع التماسيح على مصلحة المواطن الفقير “المتضرر” من الإضرابات في قطاعي الصحة و التعليم.
فما علينا غير أخذ العبرة من تجاربنا السابقة مع القيادات، ونشمر على سواعد النضال. أول واجباتنا تعزيزُ الجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد، ومد الجسور نحو القاعدة النقابية بمختلف انتماءاتها، ونحو الشغيلة غير المنظمين، بتنظيم حملة وطنية للتشهير بجريمة نزع سلاح الطبقة العاملة، وحفز كل أشكال العمل الوحدوي. طبقتنا قادرة على صد العدوان، لا ينقص غير استنهاض قواها.
المناضل-ة
اقرأ أيضا