يجب تعلم التفكير: نصيحة ودية إلى بعض اليسارويين[1]
ليون تروتسكي
يحاول بعض محترفي الجملة اليساروية أن “يصححوا” بأي ثمن أطروحات أمانة الأممية الرابعة بصدد الحرب [2]، في تطابق مع أحكامهم المسبقة المتأصلة. ويهاجمون بوجه خاص قسم الأطروحات حيث ورد أن على الحزب الثوري، إذ يبقى في كل البلدان الامبريالية معارضا صلبا لحكومته في أثناء الحرب، أن يكيف مع ذلك سياسته العملية في كل بلد مع الوضع الداخلي ومع التجمعات الدولية، مميزا بدقة دولة عمالية عن دولة برجوازية، وبلدا مستعمرا عن بلد امبريالي.
تقول الأطروحات: “يجب على بروليتاريا بلد امبريالي متحالف مع الاتحاد السوفييتي أن تحافظ حفاظا تاما وكاملا على عدائها الصلب للحكومة الامبريالية ببلدها الخاص. بهذا المعنى لن تكون سياستها مغايرة لسياسة بروليتاريا بلد يحارب الاتحاد السوفييتي. لكن قد تكون ثمة، في طبيعة التحركات العملية، فروق هامة تبعا لظروف الحرب الملموسة [3]” .
يعتبر اليسارويون أن هذا القول، الذي برهن مجمل التطور على صحته، نقطة انطلاق الاشتراكية-الوطنية (كتبت سيمون فاي Simone Weil [4]أن موقفنا هو موقف بليخانوف [5] في سنوات 1914-1918. فعلا، يحق لها ألا تفهم شيئا، لكن بلا إفراط في استعمال هذا الحق). لأن الموقف إزاء الحكومات الامبريالية يجب أن يكون “نفسه” في كل البلدان، يحظر خبراء الإستراتيجية هؤلاء أي تمييز خارج حدود بلدهم الامبريالي الخاص. ينبع خطأهم، على الصعيد النظري، في محاولة إسناد سياسة زمن الحرب وسياسة زمن السلم على أسس مغايرة جوهريا.
لنفرض أن انتفاضة اندلعت في مستعمرة فرنسية، الجزائر، تحت راية الاستقلال الوطني، وأن حكومة ايطاليا تتهيأ، بدفع من مصالحها الامبريالية، لإرسال أسلحة إلى المتمردين. ماذا يجب أن يكون، في هذه الحالة، موقف عمال ايطاليا؟ اخترت عن قصد مثال انتفاضة ضد امبريالية ديمقراطية وتدخل امبريالية فاشية لصالح المتمردين. هل يجب أن يمنع عمال ايطاليا إرسال حمولة السلاح إلى الجزائريين؟ فليتجرأ يسارويون ما على الرد بالإيجاب على هذا السؤال! سيكنس كل ثوري باستياء، ومعه عمال ايطاليا والمتمردون الجزائريون، هكذا جواب. وحتى في حال اندلاع إضراب عام بتلك اللحظة بموانئ ايطاليا الفاشية، يجب في هذه الحالة على المضربين استثناء البواخر الناقلة مساعدة لعبيد المستعمرات المنتفضين؛ وإلا أصبحوا نقابيين بائسين و ليس ثوريين بروليتاريين.
موازاة لهذا، يجب على شغيلة موانئ فرنسا، حتى إن ليس بجدول الأعمال أي إضراب، أن يبذلوا كل ما بوسعهم لمنع إرسال حمولة الذخيرة المراد استعمالها ضد المتمردين. إن سياسة من هذا القبيل من جانب عمال ايطاليا و فرنسا تمثل، دون سواها، سياسة أممية ثورية.
لكن، ألا يعني هذا وجوب قيام عمال ايطاليا، في هذه الحالة، بتلطيف نضالهم ضد النظام الفاشي؟ لا إطلاقا. لا تمد الفاشية الجزائريين بـ”مساعدة” إلا بقصد إضعاف عدوتها، فرنسا، وكي تستولي على مستعمراتها. لا ينسى العمال الثوريون الايطاليون ذلك لحظة واحدة. ويدعون الجزائريين إلى عدم الثقة في “حليفهم” الغدار، ويواصلون في الآن ذاته من جانبهم نضالهم اللدود ضد الفاشية، “العدو الرئيس داخل بلدهم الخاص”. على هذا النحو فقط يمكنهم الظفر بثقة المتمردين، ومساعدة التمرد وتعزيز موقعهم الثوري الخاص بهم.
إن كان ما قيل آنفا صائبا زمن السلم، فما الذي سيجعله خاطئا زمن الحرب؟ يعرف الجميع مبدأ المنظر العسكري الألماني الشهير، كلاوزفيتز[6] الذي مؤداه أن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى. تفضي هذه الفكرة العميقة على نحو طبيعي إلى خلاصة أن النضال ضد الحرب ليس سوى استمرار لنضال البروليتاريا العام زمن السلم. هل ترفض البروليتاريا وتنسف زمن السلم كل تحركات الحكومة البرجوازية وتدابيرها؟ حتى في أثناء إضراب يشمل مدينة برمتها، يتخذ العمال تدابير لتأمين إيصال المؤن إلى أحيائهم، وكذا مياه كافية، وتفادي أي نقص بالمستشفيات، الخ. هكذا تدابير لا تمليها عليهم انتهازية ما إزاء البرجوازية، بل الحرص على مصالح الإضراب ذاته، الحرص على ان يحظى بتعاطف جماهير المدينة المرهقة على هذا النحو، الخ. إن قواعد الإستراتيجية الثورية الأولية زمن السلم هذه تحافظ على كامل قوتها زمن الحرب أيضا.
إن موقفا لا يلين إزاء العسكرية البرجوازية لا يعني بتاتا أن البروليتاريا تباشر النضال في جميع الحالات ضد جيشها “الوطني”. العمال لا يمنعون أبدا جنودا من إخماد حريق او إنقاذ ضحايا فيضان، على العكس، يتعاونون جنبا إلى جنب مع الجنود ويتآخون معهم. لكن المسألة غير مقتصرة على كوارث طبيعية طارئة فقط. إذا حاول الفاشيون الفرنسيون اليوم القيام بانقلاب، و اضطرت حكومة دلادييه [7] إلى تحريك قواتها ضد الفاشيين، سيناضل العمال الثوريون إلى جانب تلك القوات ضد الفاشيين، محافظين على استقلالهم السياسي التام. هكذا، يجد العمال أنفسهم، مضطرين ليس فقط لقبول تدابير عملية لحكومة برجوازية وتحملها بل حتى دعمها بهمة.
في تسعين حالة من مائة، يضع العمال في الواقع علامة سالبة حيث تضع البرجوازية علامة موجبة. لكنهم مضطرون، في عشر حالات، لوضع نفس العلامة التي تضع البرجوازية، لكنهم يفعلون ذلك بطابعهم الخاص، معبرين بذلك النحو عن عدم ثقتهم في البرجوازية. لا تُستنبط سياسة البروليتاريا على نحو آلي من سياسة البرجوازية بوضع العلامة النقيض – في هذه الحالة سيكون كل عصبوي خبير استراتيجية بارعا؛ لا ، يجب على الحزب الثوري أن يحدد وجهته كل مرة باستقلال في الوضع الداخلي والخارجي على السواء، متخذا القرارات المستجيبة على أفضل نحو لمصالح البروليتاريا. هذه القاعدة قائمة في حقبة الحرب وحقبة السلم على حد سواء.
لنتخيل أن بروليتاريا بلجيكا استولت، في أثناء الحرب الأوربية القادمة، على السلطة قبل بروليتاريا فرنسا. سيسعى هتلر بلا شك إلى سحق بلجيكا البروليتارية. ولحماية خاصرتها، قد تضطر الحكومة البرجوازية الفرنسية إلى مساعدة الحكومة العمالية البلجيكية بمدها بالسلاح. طبعا، ستمسك السوفييتات البلجيكية تلك الأسلحة بملء اليدين. لكن ربما كان عمال فرنسا ملزمين، اهتداء بمبدأ الانهزامية، بمنع برجوازيتهم من إرسال أسلحة إلى بلجيكا البروليتارية؟ لن يستدل على هذا النحو غير خونة مؤكدين أو بلهاء ناجزين.
قد ترسل البرجوازية الفرنسية أسلحة إلى بلجيكا البروليتارية فقط خوفا من الخطر العسكري الأكبر، وفقط تطلعا إلى سحق الثورة البروليتارية بأسلحتها الخاصة. اما بالنسبة للعمال الفرنسيين، تمثل بلجيكا البروليتارية سندا كبيرا لنضالهم ضد برجوازيتهم الخاصة. ستُحسم نتيجة الصراع، في نهاية المطاف، بميزان القوى، هذا الذي تمثل سياسة صائبة عاملا بالغ الأهمية فيه. إن أول مهام الحزب الثوري هي استعمال التناقض بين بلدين امبرياليين، فرنسا و ألمانيا، لإنقاذ بلجيكا البروليتارية.
لا يفكر اليسارويون متجمدو الأذهان على نحو ملموس بل بتجريدات جوفاء. وهكذا حولوا فكرة الانهزامية إلى ضرب من صَدفة فارغة. لا يتمثلون بطريقة حية مسيرة الحرب و لا مسيرة الثورة. يبحثون عن صيغة محكمة السد تستبعد الهواء الندي. لكن هكذا صيغة غير قادرة على مد الطليعة البروليتارية بأي توجيه.
الرقي بصراع الطبقات إلى شكله الأرفع-أي الحرب الأهلية- تلك مهمة سياسة الانهزامية. لكن هذه المهمة غير ممكنة سوى بتعبئة الجماهير الثورية، أي بتوسيع وتعميق وشحذ هذه الأساليب الثورية التي تشكل مضمون صراع الطبقات “زمن السلم”. لا يلجأ حزب البروليتاريا إلى أساليب مصطنعة، مثل إحراق المستودعات، والتفجيرات، وتخريب القطارات، الخ، للتسبب في هزيمة حكومته. وحتى إذا نجح بهذه السبل، لن تؤدي الهزيمة العسكرية قطعا في هذه الحالة إلى نجاح ثوري، هذا الذي لا يمكن تأمينه إلا بحركة البروليتاريا المستقلة. تعني الانهزامية الثورية فقط أن حزب البروليتاريا لا يقف في صراع الطبقات أمام أي اعتبار “وطني”، لان هزيمة حكومته الامبريالية الخاصة به، الناتجة عن حركة الجماهير الثورية او المسرعة بها، شر أهون بما لا يقاس من انتصار تلك الحكومة الحاصل بثمن الوحدة الوطنية، أي انبطاح البروليتاريا السياسي. هنا يكمن كامل معنى الانهزامية،وهذا المعنى كاف تماما.
حقا، تتغير وسائل النضال عندما يدخل طورا ثوريا مفتوحا. الحرب الأهلية حرب، ولها بصفتها تلك قوانينها الخاصة. لا مفر في حرب أهلية من تفجير مستودعات، ومن تخريب قطارات، وكل أشكال “التخريب”العسكري. ومدى ملاءمتها أمر تحسمه اعتبارات محض عسكرية: الحرب الأهلية مواصلة للسياسة الثورية، لكن بوسائل أخرى، هي بوجه الدقة وسائل عسكرية.
لكن، قد تكون ثمة في أ ثناء حرب امبريالية حالات تُلزم الحزبَ الثوري باللجوء إلى تدابير عسكرية تقنية، رغم إنها لا تنجم بعد مباشرة عن حركة ثورية في بلده الخاص. هكذا، إن تعلق الأمر بإرسال سلاح أو جنود ضد دولة عمالية أو مستعمرة متمردة، قد تغدو أساليب المقاطعة والإضراب، وحتى التخريب العسكري المباشر، ملائمة وملزمة تماما. وسيكون اللجوء إلى هكذا تدابير، إو الإحجام عنها، مسألة إمكانات عملية. إن كان للعمال البلجيكيين، الظافرين بالسلطة خلال الحرب، عملاء عسكريون على ارض ألمانيا، سيكون واجب هؤلاء ألا يترددوا في استعمال أي وسيلة لوقف تقدم قوات هتلر. وجلي على نحو مطلق أن على عمال ألمانيا الثوريين هم أيضا (إن استطاعوا) النهوض بهذه المهمة لمصلحة الثورة البلجيكية، باستقلال عن المجرى العام للحركة الثورية بألمانيا ذاتها.
النتيجة أن السياسة الانهزامية، أي سياسة النضال الطبقي الحازم خلال الحرب، لا يمكن أن تكون “نفسها” في كل البلدان، كما لا يمكن أن تكون ثمة سياسة بروليتارية وحيدة زمن السلم. وحده كومنترن الخلفاء وضع نظاما يجعل أحزاب كل البلدان تنطلق في الآن ذاته بالرجل اليسرى. لقد أبرزنا أكثر من مرة في النضال ضد هذه الغباوة البيروقراطية أن المبادئ العامة والمهام تتطلب تحقيقها في كل بلد في تطابق مع شروطه الداخلية والخارجية. تظل قيمة هذا المبدأ قائمة كليا زمن الحرب.
هؤلاء اليسارويون الذين لا يريدون التفكير بطريقة ماركسية، أي على نحو ملموس، ستُباغتهم الحرب. وستكون سياستهم في أثناء الحرب تتويجا محتوما لسياستهم زمن السلم. وستلقي أولى طلقات المدفعية اليسارويين في العدم السياسي أو تدفعهم إلى معسكر الاشتراكية-الوطنية، لنفس الأسباب التي جعلت الفوضويين الإسبان، “منكري” الدولة مطلقا، يصبحون خلال الحرب وزراء برجوازيين. إن انتهاج سياسة صائبة خلال الحرب، يستلزم تعلم التفكير الصائب زمن السلم.
ليون تروتسكي
20 مايو 1938
———-
المصدر: أعمال تروتسكي الصادرة بإشراف بيار برويه، رئيس معهد ليون تروتسكي، الجزء 17، صفحات 245-250
تعريب: جريدة المناضل-ة
———
هوامش:
1- مقال (T4349)، مترجم من اللغة الروسية بموافقة Houghton Library .
2- ” الحرب و الأممية الرابعة” الأعمال، جزء 4، صفحات 48-85. هذه الأطروحات كتبها تروتسكي، وعدلتها أمانة الأممية الرابعة تعديلا طفيفا.
3- نفس المرجع، ص 68.
4- سيمون فاي Simone Weil، مبرزة في الدراسات الفلسفية، كانت قريبة من المعارضة اليسارية، وابتعدت عنها بسرعة. كانت ناقدة “يسارية” لها.
5- جورج بليخانوف(1857-1918)، شعبوي سابقا، ادخل الماركسية إلى الحركة الثورية الروسية، و أسس فرقة “تحرر العمل” . وقف في 1903 ضد البلاشفة ومع المناشفة. لكنه في 1912 اصطف مع “مناشفة الحزب” إلى جانب لينين. في 1914 ناصر الدفاع عن الوطن.
6- كارل فون كلاوزفيتز (1780-1831)، عمل في الجيش الروسي، و أصبح رئيس الأكاديمية العسكرية البروسية في 1820 ، وكتب مؤلفه الشهير (حول الحرب) في ثلاث أجزاء، صدر عام 1833.
7- إدوارد دلادييه (1884-1970)، أستاذ تاريخ، من قادة الحزب الراديكالي، وزير حرب طيلة سنوات، كان قد أصبح رئيس حكومة فرنسا.
اقرأ أيضا