ما أهون بايدن أمام محمود عبّاس!
جلبير الأشقر
وأخيراً، قبِل جو بايدن بالتخلّي عن إصراره السابق على خوض المعركة الانتخابية من أجل ولاية رئاسية ثانية. جاء ذلك بعد تعرّضه لضغط كثيف في هذا السبيل إثر تأكد عجزه عن مواصلة مهامه على أفضل وجه من خلال تلكّؤه في جلسة السجال التي واجه فيها خصمه اللدود دونالد ترامب. وقد تعاظم الضغط بعد أن تحوّل هذا الأخير قبل أيام إلى بطل وقدّيس في أعين مناصريه بسبب نجاته من محاولة اغتيال (ليس ادّعاء «العناية الإلهية» غريباً عن أطوارنا، بالطبع). وقد كثرت التعليقات التي أكّدت أنه لا بدّ من التوقّف عن تولّي مسؤوليات حسّاسة بعد بلوغ سنّ متقدمة، وذلك لأسباب بديهية يلخّصها تحوّل تعبير «عجوز» (المشتق من «عجز») إلى الدلالة على الشيخوخة في اللغة العربية.
وقد رأى بعض المحلّلين أن «حكم الشيوخ» (gerontocracy) بات علامة انحطاط الأنظمة السياسية في العصر الحديث، مثلما بيّنت حالة الاتحاد السوفييتي في مطلع الثمانينات من القرن المنصرم، عندما أصبح العمر المتوسّط لأعضاء «المكتب السياسي» الحاكم يفوق السبعين. كذلك شكّل اقتصار المواجهة في قمة الهرم السياسي الأمريكي على رجلين متقدّمين في السنّ، في نظر المراقبين، دليلاً على انحطاط النظام السياسي الأمريكي. بيد أن هذا الأخير، وعلى الرغم من العيوب الكثيرة التي تشوب «الديمقراطية» فيه (أوّلها دور المال العظيم)، تمكّن من الخروج من الطريق المسدود الذي بلغه مع العجوزين (صحيح أن حالة ترامب الجسدية أفضل بكثير من حالة بايدن، لكن حالته الذهنية ليست بالبعيدة عن حالة منافسه). وقد ارتدّ تحجّج حملة أنصار ترامب بحالة بايدن على مرشّحهم نفسه، إذ بات يواجه امرأة أصغر منه سنّاً بعقدين من الزمن.
أما منطقتنا العربية، فتقدّم دليلاً ساطعاً على أن حكم الشيوخ سمة من سمات الانحطاط. طبعاً، ينطبق هذا الأمر جزئياً على أنظمة المُلك السلالي، حيث نجد على سبيل المثال أن المملكة السعودية لا زال يحكمها أحد أبناء عبد العزيز الذي توفي قبل أكثر من سبعين عاماً عن عمر ناهز الثمانين، وقد بلغ ابنه سلمان، الملك الحالي، سنّ الثامنة والثمانين. بيد أن النظام السلالي غالباً ما يؤدّي إلى تولّي «وليّ العهد» معظم مهام الحكم، وهو بالضرورة أصغر سنّا من الملك، بل يؤدّي النظام السلالي أحياناً إلى عكس مشكلة حكم الشيوخ بتولية الحكم لمن لم يبلغ من السنّ والخبرة ما تلزمه هذه المسؤوليات.
فإن تجلّي الانحطاط من خلال شيخوخة الحاكمين التي تستحيل حكماً للعجزة بكل معاني التعبير، إنما يبلغ أوجّه في منطقتنا في حالة الأنظمة «الجمهورية»، وكلها فاسدة أو دكتاتورية أو الاثنان معاً. مثالٌ حديث هو ما شهدته الجزائر عندما حاول أولياء الحكم فيها منح عبد العزيز بوتفليقة ولاية رئاسية خامسة وقد فاق عمره الثانية والثمانين، وهو عاجز تماماً عن الحكم منذ سنوات لأسباب صحية. أمّا الحالة الراهنة الأكثر تعبيراً عن الانحطاط الإقليمي، فنجدها في «السلطة الفلسطينية» القائمة في رام الله، حيث لا زال محمود عبّاس متشبّثاً بمقاليد الحكم (وهو بالطبع حكم محدود بخضوعه للاحتلال الصهيوني) على الرغم من أنه يفوق جو بايدن سنّاً بسبع سنوات!
وفي حين انتُخِب بايدن قبل أقل من أربع سنوات، وقد تنحّى عن الترشّح لولاية ثانية وأخيرة لأربع سنوات إضافية، انتُخِب عبّاس قبل ما يناهز عشرين عاماً واستمرّ في الرئاسة بلا أي شرعية ديمقراطية بعد أن انتهت ولايته (أربع سنوات قابلة للتجديد انتخابياً مرة واحدة فقط، على الطراز الأمريكي). وقد تذرّع عبّاس بشتى الحجج لرفض إجراء انتخابات جديدة في الأراضي المحتلة في عام 1967، أو على الأقل في الضفة الغربية وحدها حيث تمارس «السلطة» مسؤولياتها. فبعدما كانت «السلطة الفلسطينية»، عند إنشائها قبل ثلاثين عاماً في إطار العملية السياسية الناجمة عن اتفاقيات أوسلو، تعتزّ بكونها أكثر الأنظمة العربية ديمقراطية، باتت «مهزلة مأساوية» يسود فيها رجلٌ متمسكّ بحكمه إلى حدّ أنه لا يبذل جهداً حقيقياً لإخراج زميله في عضوية حركة «فتح»، مروان البرغوثي، من السجن، وذلك لعلمه أن شعبية هذا الأخير تفوق شعبيته بكثير، سواء في المجتمع الفلسطيني أو داخل «فتح». وقد باتت استطلاعات الرأي تبيّن أن 94 في المئة من الفلسطينيين في أراضي 1967 يتمنّون استقالة عبّاس!
بيد أن الحقيقة أعمق بكثير من نزوات الشيخوخة لدى محمود عبّاس، إذ إن المصير اللاديمقراطي محتومٌ على «سلطة فلسطينية» خاضعة بطبيعتها لوصاية دولة محتلّة قائمة على مشروع تملّك فلسطين بأكملها بواسطة الاستعمار الاستيطاني. فمهما كان الطرف الذي يتولّى الحكم في أي من الأراضي الخاضعة للوصاية الصهيونية، والأمر ينطبق على «سلطة» رام الله مثلما كان ينطبق على حكم «حماس» في غزة، لا يمكن حكمه أن يكون ديمقراطياً إذ إنه بمثابة من يتولّى إدارة شؤون المساجين برضى إدارة السجن التي لا يستطيع لولاها أن يحصل على تمويل إدارته.
لذا، والشعب الفلسطيني في أراضي 1967 يواجه أعظم محنة في تاريخ فلسطين بينما تسعى الولايات المتحدة لتصفية قضيته من خلال إقامة «دولة» أكثر ارتهاناً بالاحتلال بعد مما هما السلطتان اللتان سادتا في الضفة والقطاع حتى الآن، فقد غدا في أقصى الإلحاح قيام حركة شعبية تمثل شتى مكوّنات الشعب الفلسطيني على أرض فلسطين وفي الشتات، على غرار ما كان مقصوداً بالأصل أن تمثله «منظمة التحرير الفلسطينية»، لكن على أساس الديمقراطية الشعبية، وليس على أساس الصفقات بين فصائل مموّلة من شتى الأنظمة العربية والإقليمية. فلا بدّ من نشوء مثل هذه الحركة التي ينبغي أن ترفض المشاركة في أي إطار يحكم بمشيئة الاحتلال الصهيوني، وأن تجسّد نضال الشعب الفلسطيني من أجل تحرّره الكامل «من النهر إلى البحر» الذي يقتضي إحداث شرخ عميق في المجتمع الإسرائيلي وتعزيز حركة التضامن العالمية مع شعب فلسطين التي نمت احتجاجاً على وحشية العدوان الصهيوني الراهن، بعد أن فاقت كل ما شهدته الأجيال الجديدة.
المصدر
اقرأ أيضا