تقلب المناخ، وتوالي ضحايا التهميش والإهمال. من المسؤول؟
تقديم:
اجتاحت سيول جارفة مناطق بجنوب المغرب وجنوب شرقه مخلفة حوالي 32 قتيلا و خرابا لحق الطرقات والدور السكنية، ما اضطر سكانا عديدين إلى مغادرة منازلهم و اللجوء إلى أماكن أكثر أمنا. دون أن تلقى الفاجعة استنفارا حكوميا لحظة وقوعها.
انتشار المعلومة المصورة والتغطية المتواترة للكارثة المهولة،وتصاعد الغضب ضد أجهزة دولة غير آبهة بحياة المواطنين، ولا مظهرة لأي اهتمام أو حزم إلا لقمع مطالبهم، جعل الحكومة تضطر- للتنفيس عن الغضب- لبعث وفود الدقائق الأخيرة للوقوف على حجم الضرر ونثر الوعود وتوزيع مساعدات اقل ما يقال عنها أنهاتحط من كرامة الانسان بصفته بشرا.
ليست الكارثة الأخيرة استثناء، لا من ناحية ما خلفته من خسائر بشرية ومادية، ولا من ناحية لامبالاة الدولة بما وقع، إذ لازال عالقا بالأذهان فيضان منطقة «أوريكا» بالأطلس الكبير وفيضان بلدة أقا 1995 وزلزال الحسيمة وغرق شوارع و أحياء بكاملها بمدن عديدة «طنجة» و»الدارا لبيضاء» و»المحمدية»… وحثما ستتوالى الكوارث، وسيسقط ضحايا جدد طالما ظل نفس النظام السياسي والاقتصادي قائما.
التغيرات المناخية حقيقة تؤكدها الوقائع.
يقوم محرك الاقتصاد الرأسمالي على الإنتاج من أجل الربح الفردي لمالكي وسائل الانتاج، وهو منطق لا يهتم بحياة المنتجين وظروفهم، ولا بالنتائج السلبية للأنشطة الرأسمالية على المحيط البيئي، وعلى صحة الإنسان تحديدا. لقدأدى نمط الإنتاج والاستهلاك الرأسماليين إلى فقدان كوكبنا لتوازنه البيئيوبروز ظواهر بيئية متطرفة وتراجع المجال الغابوي، واختفاء عناصر بيئية عديدة،وتلوث البحار والمياه الجوفية والهواء. طبعا ليسهذا الاتجاه نحو كارثة الخراب البيئي للكوكب ثمنا طبيعيا حثميا ندفعه مقابل تطور البشرية، وإنما يتعلق الأمر بمصلحة حفنة من كبار الرأسماليين الذين يسعون سعيا محموما وراء أرباحهم، ما يجعلهم ينتجون بلا تخطيط ويخادعون للاستهلاك بلا توقف ولو كان الثمن التضحية بمستقبل الحياة على الأرض.
يتطلب الأمر سياسة نضال من اجل فرض إجراءات آنية للحد من تخريب البيئة في ارتباط مع انقاذ الكوكب من كارثة الدمار البيئي، والقطع مع منطق الرأسمال إنتاجا وتوزيعا واستهلاكا..وهي معركة سياسية ضد الملوثين الكبار.
لقد أصبحت للتدمير الشامل للبيئة تداعيات محلية،حصيلتها عقود من الجفاف الحاد تتخلله فيضانات دورية. إنه المنحى الجاري حاليا وسيتواصل في العقود اللاحقة وهو ما تخلص إليه الدراسات المناخية الخاصة بالمنطقة: توسع التصحر وندرة المياه الصالحة للشرب وفيضانات فجائية.
بالرغم من الإدراك التام لنوعية التحديات البيئية تلك، فإنالسياسة الاقتصادية للدولة تعمق تلك المخاطر. فالتشديد على مواصلة فلاحة تصديرية مدعمة، رأس حربتها البواكر والحوامض التي يتطلب إنتاجها استهلاك كميات كبيرة من المياه العذبة، يمثل جنونا في بلد يواجه ندرة المياه. الشيء نفسه ينطبق على سياسة الدولة في السياحة، هذه الأخيرة التي يجري اعتبارها قاطرة الاقتصاد رغم مايستتبعه ذلك من بناء مسابح وملاعب كولف استعراضية والترويج لسياحة متهورة مبذرة، لا تشجع على حس المسؤولية البيئية.
ليس الجهل ولا الغباء ما يجعل الحاكمين ينفذون هذه السياسة الاقتصادية الهوجاء،بل إن مصلحة المالكين هي التي تملي تلك الخيارات الاقتصادية، أما غير ذلك فلا يعدو كونه مسائل ثانوية.
دولة الفساد تخنق الشعب.
إن أحد ركائز دعاية النظام الرائجة، ما تحقق في العقد ونصف العقد الأخيرين،أي،ما شيد من بنية تحتية هامة، وهو أمر واقع، لكن لابد من توضيحات بهذا الشأن . فــتـشـيـيــد البنية التحتية محركها الأساسي توفير الظروف اللوجستيكية المناسبة للرأسمال لنهب ونقل ثروات البلد. ألم يعمل الاستعمار نفسه على شق الطرق و إنشاء السكك الحديدية وتشـيـيد الموانئ والمطارات، وبناء الإدارة ومؤسسات الدولة لتسهيل نقل جيوشه لقمع المقاومة في أقاصي البلد ولنقل الثروات المنهوبة؟؟ لكن بالمقابل صادر أراضي السكان وفرض عليهم ظروف عيش قاسية وأجبرهم على العمل قسرا، وسلب حريتهم وقمع مطالبهم. ناهيك عن كون مصاريف التشييد هي قروض بفوائد مرتفعة ستدفع من مالية البلد الجاري استعماره. فما الذي تغير من اللوحة؟
إن ما يميز الوضع الراهن من تشيـيـد في البنيات التحتية ، عن الماضي الاستعماري، هو نزعة فساد زائدة. فالفساد يبطل فعالية وجدوى البنيات المنجزة: يبدأ من انعدام الشفافية في تولي إنجاز المشروع، حيث يجبر المقاول على أداء نسب مالية حسب حجم الصفقة لجهات نافذة راكمت تجربة كبرى في التحايل على القانون وإرساء الصفقة على من تشاء. بعدها فمكتب الدراسات و المهندس المراقب للأشغال والتقنـيــون و لجان المراقبة والتفتيش، إضافة إلى أكلاف مواد الإنشاء واليد العاملة ومكتب الدراسات.. كل هذا من جيب المقاول، فما الذي يتبقى لهذا الأخيرمن أرباح ؟؟؟ لا حل لديه إلا الغش في نوعية مواد البناء وأوزانها وحجمها، أي علي حساب جودة و متانة المنتوج، علاوة على تقليص أجور العمال والتماطل في تسديد مستحقاتهم وعدم التصريح بهم في صناديق التقاعد والتأمين عن الأمراض المهنية وعدم احترام مدة العمل وشروط السلامة…
نفس الكارثة الطبيعية من حيت المدة ودرجة القوة تعطي نتائج متناقضة باختلاف الوضع الاقتصادي وجودة البنية التحتية (قنوات السيول، تحويل أودية، سدود وسدود تلية، حواجز مائية، قنوات تصريف ملائمة) وخطط التدخل ونوعية وإعداد هيئات الإنقاذ ويعطي الزلزال مثالا مقارنا نموذجيا بهذا الصدد حيث تتحرك الأرض بدرجات عالية في سلم القياس ببلد كاليابان وقد لا تخلف الا خسائر طفيفة مادية وبشرية في حين تحدث كارثة انسانية وخراب شامل جراء زلزال أقل خطورة في بلد اخر.
فكيف يعقل أن بلدا بمناخه المتوسطي المعتدل، يسقط فيه سنويا ضحايا فقراء هدرا، بسبب البرد القارس المتظافر مع تغذية هزيلة وألبسة بسيطة وانعدام الفراش والسكن الدافئ، أو بسبب ارتفاع حرارة الصيف وغياب معدات مساعدة على التكيـيف، من مبردات وثلاجات و مسابح… والأهم،عدم تحمل الدولة لقسم مهم من أثمان الكهرباء والماء في الشهور الساخنة. كما تختنق دوريا شوارع المدن بمياه لا تجد منافذ للتصريف، و تنهار منشآت فنية كالقناطر الحديثة التشييد التي تصمم لتبقي عقودا من الزمن،لكنها تنهار،في برهة، تحت وقع التساقطات في حين تبقي أخرى أقدم منها قائمة.إنه الفساد اللعين،إنها عنجهية الاستبداد المحتقر للكادحين، الذين «يتحملون هم أنفسهم مسؤولية موتهم» إنها العنصرية الطبقية التي تعتبر الشعب الكادح مكلفا، وموته ربح لا خسارة.
الاستبداد السياسي توأم الفساد المعمم.
ليس فساد الدولة نتيجة لهف موظفين صغار في الإدارة المحلية لملإ الجيوب،ولا هو جرثومة اخترقت جسم الدولة الحديثة عبر منتخبين تقليديين يريدون استعادة سلوك شيوخ وقياد الحقبة الاستعمارية المستحوذين على أراضي القبائل و المستأثرين بجزء من الضرائب لمراكمة الثروة الخاصة.
إن للفساد في الادارة المحلية بالقرى والمدن منبعا أكبر. إن منبع الفساد الكبير موجود في الدوائر العليا للدولة، ومن القمة يتمدد ويـنتشر كالسرطان حتى يصل الأطراف.
فالأسر التقليدية سليلة المال والجاه و المترابطة بأواصر المصالح والزيجات و الخدام الأوفياء للعتبات و المنعم عليهم بالوظائف المجزية و العطايا من أراضي فلاحية ومن صفقات مربحة، هم منبع الفساد الكبير .هؤلاء، من القوة ما يمكنهم من إصدار التشريعات التي هم في حاجة إليها، وتوجيه الرأي العام بإعلانات مدفوعة، وشراء أقلام مأجورة،بل وشراءالأحكام القضائية، وكسر شوكة أي موظف غير منصاع.
الحياة السياسة الرسمية برمتها فاسدة. فالمناصب البرلمانية تكلف أموالا طائلة لشراء أصوات الناخبين، و الدفع لقيادة الحزب لنيل تزكيتها للترشح باسم الحزب، وبعدها لنيل المناصب الرسمية .إن الحياة الاقتصادية والسياسية و الثقافية الرسمية للبلد فاسدة إلي درجة بالغة الهول.
الغاية من ذلك أمران رئيسيان:
– الأول التغاضي عن الفساد الصغير في المجالات الدنيا،بهدف التغطية
على الفساد الضخم والخطير الذي يطال النهب المتواصل للمؤسسات العمومية الكبيرة، سرقة وتفويتا وخصخصة قانونية وخفايا الصفقات الكبرى للتجهيز والإنشاءات المدنية والعسكرية، و تدبير الديون الخارجية وشراء السندات وتحديد نسب الفائدة وتخفيض العملة…
– الثاني: وهو الأهم، خلق قاعدة اجتماعية داعمة للنظام، لكونها مستفيدة مما يمنحه من فرص لمراكمة الثروة،ومن جانبها تقابل ذلك بدعمها السياسي غير المشروط للنظام .
الرأسمال الامبريالي شريك رئيسي في شفط الشعب، فقد نال صفقات مربحة بتفرده بابتلاع مؤسسات وخدمات عمومية تورد ثروة حقيقية، فيهرب الأرباح بشكل فاضح إلى الخارج، ويتلاعب بالشروط الموقع عليها في دفتر التحملات، و أخيرا فهو الممول و المقرض والمجهز وبلد استقبال أموال اللصوص الهاربة أو المهربة، وهنا جوهر دعمه السياسي للنظام الضامن القوي لمصالحه.
إن القتلى الذين يسقطون بالعشرات جراء ظواهر طبيعة بالمغرب، هم ضحايا النظام القائم. ودور قوى النضال، توجيه غضب وحقد الذين يدفعون حياتهم و راحتهم،باتجاه القاتل الحقيقي:إنه النظام الاستبدادي الغارق في الفساد من قمته إلى سافلته.
اقرأ أيضا