منع الإضراب العمالي إحكام للاستبداد السياسي
بلغ استهدافُ حرية الإضراب في المغرب مستوى بالغا مُشْرٍفا على إجهاز تام عليها. فطيلة تاريخ البلد العمالي كانت إضرابات الشغيلة الرامية إلى تحسين أوضاعهم، وتأمين حرية التنظيم، هدفا للقمع بالقانون (ما يسمى عرقلة حرية العمل في المادة 288 من القانون الجنائي، والفصل الخامس من مرسوم 2 فبراير 1958 القامع لإضراب الموظفين …) وحتى بدون قانون (الاقتطاع من أجور المضربين…). وبلغت شراسة القمع استعمال السلاح ضد الجماهير المنتفضة في إضرابات عامة، مثل يونيو 1981 وديسمبر 1990.
ومنذ مطلع سنوات 2000، تتالت مشاريع قوانين تروم منعا فعليا للإضراب، بحجة تأطيره بالقانون إعمالا لمادة وردت في أول دساتير الاستبداد منذ ما ينيف عن ستة عقود، وهي ماثلة في صيغة الدستور الجارية؛ ومعها حملات تضليل تتقَنَّع بحرص كاذب على مصلحة المواطن من أضرار توقف العمل بالمرافق العامة بفعل الإضرابات.
هذا ضمن مشهد عام من تضييق الحريات وإعدامها العملي. ففضلا عن شتى صنوف الأغلال في قوانين الحريات العامة، تتصرف السلطات بمنطق قمعي لا يقيم وزنا لما يبدو بصيص حرية في القانون ذاته، بمبررات من قبيل تهديد الأمن العام، وحتى بدون تكلف اصطناع مبررات، ولا شك أن أسطع أمثلة هذا العسف منع وصول الإيداع القانونية عن الجمعيات غير المرغوب فيها، لعل أبرزها الجمعية الوطنية للمعطين التي ظلت منذ تأسيسها قبل ثلث قرن بدون وصل ايداع.
وانضافت مشاريع قانون، متتالية هي أيضا، تستهدف إحكام تعسير تأسيس النقابة العمالية وتسخيرها لأغراض الدولة، وذلك بعد سن قانون للأحزاب لا يتسع سوى لأحزاب مُدَجَّنَةٍ قابلة لمحددات نظام سياسي مستبد قائم على نظام اقتصادي- اجتماعي ظالم مفروض فرضا.
على هذا النحو، ليس مشروع المنع العملي للإضراب، الجاري إعدادٌ حثيثٌ لتمريره، بعد تأكيد اتفاق 29 أبريل الأخير بين القيادات النقابية وأرباب العمل ودولتهم عليه، غير استكمال تشريعي لترسانة الخنق وإعدام الحريات بقصد تأبيد نظام مراكمة الأقلية للثروة بامتصاص دماء الأغلبية، وإخضاع البلد لقوى استعمار جديد تنهبه وتديم تخلفه.
وجلي أن هذا الطور من الهجوم إنما أتاحه تدهور ميزان القوى لغير صالح الطبقة العاملة وعامة المقهورين. فمنذ هزم حراك الريف في العام 2017، الذي أنهى دورة كفاح شعبي امتدت عقدين من الزمن، تعددت الغارات على الحريات العامة وتنوعت، في سياق انحدار مستمر لليسار التاريخي، ولمكونات الحركة النقابية التي زادت اندماجا في آلية تدبير الدولة للمسألة الاجتماعية المستفحلة.
وقد دلت مواقف قيادات الحركة النقابية من مختلف مشاريع المنع العملي للإضراب، المقتصرة على إعلان الرفض بطرف اللسان والإمساك عن أي فعل مجسد للرفض المزعوم، على استعداد لمساعدة الدولة البرجوازية في بلوغ مراميها القمعية، بقبول جعل قانون الإضراب محط توافق على طاولة “الحوار الاجتماعي”. إنه عين ما جرى تصريفه بشأن ضربات أخرى عديدة كلفت الشغيلة غاليا، منها ما يسمى “إصلاح التقاعد” وإدخال التشغيل بالتعاقد إلى التعليم، مثالا لا حصرا. إن موقف القيادات هو قبول يستحيل التصريح به، وتظاهر بالرفض لا يجد سبيلا إلى التطبيق.
لا يبتغي مشروع قانون الإضراب تقييد الشغيلة بأماكن العمل في مواجهة أرباب العمل بقصد فرض شروط استغلال تُضخِّم الأرباح وحسب، بل إفراغ ما تبقى من حق نقابي من أي مضمون. فما النقابة من دون حرية الإضراب عن العمل (هذه الوسيلة الوحيدة التي تفتح آذان أرباب العمل) غير قوقعة فارغة؟ وفوق هذا وذاك، ثمة هدف إبطال أي تطور لكفاحات العمال إلى مستوى سياسي بوجه ما يعانون من استغلال واستبداد. تخشى الدولة البرجوازية ابسط الإضرابات لإدراكها أنها مدرسة حرب تهيئ الشغيلة، مع تراكم الخبرة، للثورة على النظام الرأسمالي. وقد دلت التجربة التاريخية، عندنا وبكل مكان، أن لا سور صيني بين المطالب المعيشية والمطالب السياسية. فكل مطلب يكتسي صبغة سياسية عندما يكون على نطاق وطني حيث تغدو الدولة طرفا رئيسيا في المواجهة. وبالأحرى الإضراب ذو الطابع السياسي المباشر، كذاك المؤسس لمغربة الحركة النقابية، إضراب 8 ديسمبر 1952 ردا على اغتيال فرحات حشاد في تونس، وإضراب 30 مارس 1979 العام التضامني مع الشعب الفلسطيني.
حتى إن أغلقت الدولة المغربية كل مسام تعبير المجتمع عما يعتمل فيه، ستنفجر التناقضات الطبقية، وتقفز الممارسة النضالية إلى أمام قفزا يبطل كل الأغلال القانونية، وسيكون ضمنها كل ما يقيد حرية الإضراب، مثل الذي شهدنا مرارا فيما يخص حرية التظاهر المشروطة بالترخيص، حيث تتدفق الجماهير إلى الشارع غير عابئة بأي قانون.
مهما بلغ سعي الدولة البرجوازية إلى منع فعلي لأحد أشكال كفاح الشغيلة المتمثل في الإضراب عن العمل، يظل اعتقاد إمكان تقييد ضحايا الاستغلال والاضطهاد محض وهم. فرفض الاستسلام، وصون الكرامة، وشعور القوة المتأتي من الانتماء إلى كيان جماعي، سيجد شكلا ووقتا للتعبير عن نفسه لا يخطران على بال. ولا أدل على ذلك من العفوية التي تسم أعظم التحركات الجماهيرية التي تحوَّل بعضها إلى ثورات. تلك العفوية التي تفاجئ حتى الذين يصلون ليلهم بنهارهم في التحضير للثورة.
وهذه الثقة في مقدرة الجماهير العمالية والشعبية على كسر الأغلال وجهٌ آخر لوعي وجوب تنظيم المقاومة، والانغراس في النضالات اليومية، ودفع كل ما ينمي طاقة الكفاح قدما. ونحن في مسألة “تقنين الإضراب” إزاء معركة سياسية بامتياز، معركة الحريات الديمقراطية وإسقاط الاستبداد. وما يستدعي إجابة فورية هو كيفية تحريك قوة طبقتنا لتنخرط في هذه المعركة بأوفر حظوظ النصر. فما درجت عادة خاطئة على تسميته “القوى الديمقراطية” لم تسع قط سوى إلى الضغط لبلوغ مرام توافقية مع الاستبداد، ضغط استغلت فيه طاقة الشغيلة النضالية بما كان لها من سطوة على قسم من الحركة النقابية، وقد دل التاريخ على الإفلاس الناجز لمسعاها.
ما يقتضيه تحدي تقنين الإضراب هو تجميع القوة العمالية المتناثرة، وتركيز ها نحو هدف إسقاط مشروع قانون الإضراب، وما يوازيه من هجوم على مكاسب التقاعد ومدونة الشغل. وقد دل حراك شغيلة التعليم، طيلة ثلاثة أشهر، على إمكان ذلك التجميع، رغم أنف البيروقراطيات النقابية المتعاونة مع الخصم. فاعتماد كل أشكال التنظيم، سواء في مواقع داخل الحركة النقابية، أو ما باتت وسائل التواصل الاجتماعي تتيحه من تشبيك سريع، والاستنارة بدروس تجارب العمل الموحد السابقة، ونبذ كل ميل إلى الوصاية على الجماهير، ونفض كل عصبوية وعبادة أصنام تنظيمية، كفيل بإتاحة تدفق المقدرات النضالية الهائلة الكامنة في الطبقة العاملة. فلننهض جميعا مفعمين- ات بشعور المسؤولية إزاء طبقتنا وعامة المقهورين- ات، كل من موقعه، فساعة المواجهة الحاسمة تقترب.
اقرأ أيضا