الغلاء: الوجه الحقيقي لـ «الدولة الاجتماعية»

سياسة1 يونيو، 2024

بقلم؛ وائل المراكشي

بعد حملة إعلامية امتدت على أكثر من عقد، قررت الدولة أخيرا إطلاق الرصاصة الأخيرة على ما تبقى من صندوق المقاصة، بإعلان مديرية المنافسة والأسعار والمقاصة التابعة لوزارة الاقتصاد والمالية ما أطلقت عليه «إصلاح منظومة دعم أسعار غاز البوتان بشكل جزئي».
كانت الحملة قائمة على إعلان زيادة أسعار غاز البوتان ثم التراجع عن القرار وهكذا دواليك. وكان ذلك استمزاجا لمدى تقبل شرائح الشعب الكادح لذلك القرار. واضطرت الدولة إلى التراجع عن ذلك في اللحظات التي كانت تواجه فيها نضالات عمالية وشعبية، وعلى رأسها حراك الريف 2016-2017.
كان إعداد ميزانية العام 2023 إحدى تلك الحملات، حيث روجت الدولة أرقام عن ضخامة ما يبتلعه صندوق المقاصة لدعم أسعار غاز البوتان، معززةً بمقارنات مع نظيرها للسنة الماضية، وبرسم منحنى تطور هذا الانفاق في أمد طويل. إنها عين الطريقة المستعملة عند كل تحضير للإجهاز على مكسب شعبي، أي القصف الإعلامي لتمهيد الطريق، لاسيما أنه قلما يصطدم بحملة تنوير مضادة، واستعملت حجة استفادة فئات غير مُسْتحِقّة، منها كبار المستثمرين في الزراعة، لعرض بديل الدعم المباشر للمستحقين، هذا الدعم الذي لا ينتظر سوى جاهزية ما يسمى بالسجل الاجتماعي الذي سيحصر الفقراء “الحقيقيين” (1)، وهو نفس ما تضمنه بلاغ مديرية المنافسة والمقاصة التابعة لوزارة الاقتصاد والمالية. إذ استعملت لتبرير «إصلاح منظومة دعم أسعار غاز البوتان بشكل جزئي»: «في إطار تنزيل برنامج الدعم الاجتماعي المباشر 3.6 مليون أسرة مستفيدة إلى غاية أبريل الماضي)، اعتمادا على مبدأ الاستهداف الأنجع للأسر المستحقة للدعم عبر السجل الاجتماعي الموحد، والذي قامت الحكومة بتعزيزه بمجموعة من البرامج الاجتماعية منها تعميم التغطية الصحية 4.2 مليون أسرة مستفيدة من أموتضامن، وبرنامج دعم السكن (330 ألف أسرة على مدى 3 سنوات)…».
كما استعانت البلاغ أيضا بمبرر رفع أجور الموظفين والأجراء، ليقول في خاتمته: «ستتم مباشرة إصلاح منظومة دعم أسعار غاز البوتان بشكل جزئي وفق هذا المنظور الإصلاحي. سيتم الشروع ابتداء من يوم 20 ماي 2024، في التقليص الجزئي من الدعم الموجه لقنينات غاز البوتان برسم سنة 2024 بما قدره 2,5 دراهم بالنسبة لقنينة غاز البوتان من فئة 3 كغ، و10 دراهم لقنينة غاز البوتان من فئة 12 كغ».
وليس هذا طبعا سوى تنفيذا لما ورد منذ أبريل 2021 في تقرير اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد: «تقترح اللجنة توفير دخل أدنى للكرامة يستهدف الأسر الفقيرة والهشة وذوي الاحتياجات الخاصة (الأشخاص المسنين غير المتوفرين على دخل، الأشخاص في وضعية إعاقة)، والذي من شأنه أن يعوض مجموع المساعدات المالية وآليات الدعم والمقاصة المعمول بها حاليا».
إنها آلية مقايضة قيمة اجتماعية كبرى، تتمثل في الدعم العمومي المباشر عبر صندوق مقاصة يجب أن يموَّل على ضرائب تصاعدية على الرأسماليين، مقابل مكاسب مادية فورية لكنها سهلة الاسترداد: الدعم المباشر، عبر تحويلات مالية بائسة (500 درهم شهريا، ويمكن أن يصل إلى أكثر من 1000 درهم شهريا حسب تركيبة كل أسرة وعدد أطفالها)، وزيادات في الأجور سرعان ما سيقضمها التضخم والغلاء والضرائب. كما أن منطق «الاستهداف الأنجع للأسر المستحقة للدعم» المعتمد على «مؤشر اجتماعي واقتصادي عكس المستوى السوسيو اقتصادي لكل أسرة»، يتيح للدولة تقليص دائرة المستفيدين كلما قررت أن مستوى المؤشر قد شهد تحسنا. وكان هناك استياء واسع في صفوف أسر (كانت مسجلة سابقا في نظام راميد) حُرمت من ذلك الدعم، بمبرر أن مؤشرها الاجتماعي يتجاوز المعدل المقبول جراء أمور تافهة مثل الانخراط في الأنترنت أو امتلاك هواتف نقالة.
لا تدل الحماية الاجتماعية المعممة وآليتها المسماة «السجل الاجتماعي الموحد» إلا عن قعر هاوية الفقر، يعبر عنه الإقبال الكثيف لملايين الفقراء على المكتبات ومحلات الانترنت في الأحياء الشعبية والمراكز القروية من أجل التسجيل في المنصة الالكترونية المحدثة لذلك الغرض. وبعد لحظة وهم لم تدم طويلا، وجهت الدولة صفعات اجتماعية لهذه الفئات؛ الأولى على الخد الأيمن باعتماد معايير مضيِّقة للمؤشر الاجتماعي وحرمان أسر استفادت من التحويلات بمبرر أن المؤشر تحسن، وصفعة أخرى وهي الأقوى تمثلت في زيادة أسعار قنينات غاز البوتان.
لكن أغلب الاستياء لم يوجه إلى المبدأ، بل كما يحدث غالبا يجري مواجهة الواقع بذلك المبدأ. وانتشر على وسائل التواصل الاجتماعي ما يشير إلى أن ما قامت به الدولة يناقض ادعاءاتها حول «الدولة الاجتماعية». لكن القبول بالمبدأ يستدعي قبولا بنتائجه، والعكس صحيح، فالنضال ضد ما قامت به الدولة من زيادة أسعار البوتان يستدعي النضال ضد مجمل ما تسميه «الحماية الاجتماعية المعممة» و»الاستهداف المباشر بالدعم للأسر الأشد فقرا»، وهما مضمون ما تسميه الدولة في أدبياتها «دولة اجتماعية».
لقد حولت الدولة ملايين الشعب الكادح إلى شحاذين ومتسولين يصطفون في طوابير طويلة طمعا في نيل دريهمات من برامج «تيسيير» و»دعم الأرامل والمطلقات»… وبعد ذلك قامت بتجميع صنوف الفتات ذاك تحت مسمى «استهداف الأسر الأشد فقرا بالدعم». أما الشرائح المنظمة من الشغيلة فيتيح لها نضالها الحصول على زيادات في الأجور، تقدمها الدولة على أنها نتاج «جولات الحوار الاجتماعي». لكن كل هذا لا يؤدي إلا إلى زيادة مظالم الشعب وحرماناته. فكل مكسب مادي آني تقابله الدولة بهجوم كاسح على ما يشكل مكاسب تاريخية: جودة ومجانية الخدمات العمومية، تحرير الأسعار… إلخ.
سبق أن هب الشعب ضد غلاء الأسعار في موجات نضال متتالية، كانت إحداها في سنة 2007 عندما أسست تنسيقيات مناهضة لغلاء الأسعار، وابتداء من 2006 ستمتد حتى 2012 مقاطعة سكان بوعرفة أداء فواتير الماء بسبب الغلاء، وفي 2018 شهد البلد موجة مقاطعة عارمة للسلع الاستهلاكية بدأت من الانترنت لتنتقل للواقع. لكن اللحظة التي اضطرت فيها الدولة إلى تنازل كبير فيما يخص صندوق المقاصة هي سنة 2011، حين امتدت نيران الحريق الثوري الذي عم المنطقة إلى المغرب تحت عنوان «حراك 20 فبراير» وما وازاه من حراك شعبي وعمالي. بلغت فبعد سنوات من إصرار الدولة على «إصلاح» صندوق المقاصة» اضطرت لإطفاء ذلك الحراك إلى رفع النفقات العمومية بنسبة %15.9، خاصة تحت تأثير دعم نفقات الاستهلاك والأجور.
الدرس واضح: فقط نضال عام لا يقتصر فقط على تحسينات مؤقتة سهلة الاسترداد، هو ما يجعل الدولة تخضع وتستجيب للمطالب الشعبية. لعل هذا الدرس يكون موجها للنضالات الجارية حاليا خاصة في صفوف شغيلة الدولة (الجماعات المحلية، الصحة، العدل، التعليم…)، لتتضافر مع نضالات باقي أقسام الشغيلة الأخرى في القطاع الخاص، من أجل إنمائها نحو إضراب عام عمالي وشعبي.

***********

(1) – افتتاحية موقع المناضل- ة، 07- 11- 2022، https://www.almounadila.info/archives/11358.

شارك المقالة

اقرأ أيضا