آفاق بناء معارضة عمالية
جرى شَغلُ الساحة الإعلامية السياسية مؤخرا بما سُمي «حصيلة نصف ولاية الحكومة»، بتسليط الأضواء على عرض رئيس حكومة الواجهة لما يعتبره نجاحا لـحكومته. ومن جانبها تصدت «المعارضة»، بجناحيها الليبرالي والإسلامي، بقصد تفنيد مزاعمه، والمزايدة الكلامية السخيفة عليه. مزايدة سخيفة لأن تلك المعارضة داخل المؤسسات أدت بجناحيها نفس الدور في حكومة الواجهة لتمرير السياسات البرجوازية (النيوليبرالية) ذاتها التي يواصل أخنوش تأمين غطاء لتنفيذها. الكل يقوم بالدور المسنود له في الآلية السياسية التي صنعها الاستبداد، وطوَّرها طيلة عقود لتسيير البلد سياسيا بما يضمن مصلحة الرأسمالين الإمبريالي والمحلي. فمنذ ما سمي «حكومة اليوسفي» و»حكومة عباس الفاسي»، مرورا بـــ «حكومة بنكيران»، وصولا إلى «حكومة أخنوش»، يضع مهندسو النظام، في حكومة الظل، وبتعاون مع البنك العالمي ونظائره من المؤسسات الإمبريالية الباسطة سيطرتها على المغرب، سياسات لإنماء مصالح البرجوازية المحلية وحليفها الرأسمال الإمبريالي، وتأمين «سلم اجتماعي» كشرط لذلك الإنماء. طيلة عقود اشتغال هذه الآلية بنجاح، منذ انطلاق «المسلسل الديمقراطي» في منتصف سبعينيات القرن الماضي، جرى صنع «أغلبيات و»معارضات»، و»تناوبات»، مع رسم حدود اللعبة، وباستعمال عصا الردع بوجه من سولت له نفسه سعيا ما إلى «توسيع الهامش الديمقراطي».
تضمن هذه الآلية السياسية تحقيق غايتين: تمويه الاستبداد، وجعل حكومة الواجهة درعا يقي النظام من غضب ضحاياه. هذا أولا، وثانيا إشراك قوى سياسية برجوازية من موقع ثانوي جدا في تسيير البلد لتجسيد تحالف معها.
ويعود نجاح هذه الآلية إلى عاملين: أولهما التقاء النظام و»معارضته» على أرضية الدفاع عن نظام اقتصادي واجتماعي قائم على استغلال الطبقة العاملة. فأقصى ما سعت إليه المعارضة التاريخية، المتحدرة من الحركة الوطنية البرجوازية (المسماة في أوج وحدتها «الكتلة الديمقراطية»)، كان تلطيفَ شراسة الهجمات البرجوازية على الطبقة العاملة وعامة المقهورين، بإضفاء صبغة اجتماعية عليها، خشية انفجار الوضع وانفلاته، واتقاء لانبثاق قوة سياسية جذرية معبرة عن مصالح ضحايا النظام الاقتصادي والاستبداد السياسي. هذا مع سعي إلى إشراك في السلطة يتيح إنماء مصلحة أقسام البرجوازية غير المقربة من مركز القرار الفعلي.
ويتمثل ثاني عوامل نجاح آلية التدبير السياسي، المتوجة بحكومة واجهة، في خلو الساحة السياسية التاريخي من قوة سياسية معبرة عن مصلحة الطبقة العاملة، المؤهلة، بحكم مقدرتها الكفاحية الناجمة عن مكانتها في البنية الطبقية، لأن تقود كافة ضحايا الرأسمالية والاستبداد. فقد كانت كل أشكال التدخل السياسي من قبل الشغيلة وعامة المقهورين تتخذ شكلين لا يجسدان وعيا طبقيا مكتملا و/أو مستقلا: أولهما عفوية عمياء بلا أفق سياسي، تمثلت في تفجرات للغضب في الشارع جرى إغراقها في الدماء، وفي فعل سياسي من موقع التابع لقوة سياسية غير عمالية. فمنذ ميلاد حركة عمالية بالمغرب ظلت تحت وصاية قوى برجوازية أو في تبعية لها، معظمها في حدود قوة نقابية يجري توجيهها لخدمة أهداف مناقضة لمصلحة الشغيلة الطبقية. وفضلا عن هذا لم تبلغ قط حركة نضال كادحي القرى وكادحاته، ومجمل الحراكات الشعبية متعددة الطبقات، المنطلقة في منتصف تسعينات القرن الماضي، مستوى الحركة السياسية الواعية، بتخطي حَدَّيْ المطالب الاجتماعية والتعبير عن التضايق من الاستبداد. وقد تجلى هذا بأنصع صورة في حراك الريف/ جرادة المجيد، وكذا قبله، بنحو لا يقل جلاء، في حراك 20 فبراير السياسي، الذي ظل إصلاحي الأفق، واهما بسقوط قيادته بأيدي قوى سياسية ليبرالية ملكية وأخرى برجوازية دينية رجعية.
وقد خلفت مجريات الحياة السياسية، ومنها مرور «معارضات» من حكومة الواجهة، وديناميات النضال العمالي والشعبي، في العقدين الأخيرين، وضعًا حابلا بإمكانات واعدة بتجاوز التحكم في الوضع بالآلية السياسية المألوفة.
فقد تأكَّل كليا الرصيدُ السياسي للمعارضة التاريخية، التي هيمنت عقودا من الزمن، بعد اتضاح حقيقة مهزلة «التناوب التوافقي»، وكذلك كان مصير رصيد قسم من»المعارضة» الإسلامية، التي نهضت وتقوت بنحو مواز لانحدار عامة اليسار، وذلك بعد استعمالها في حكومة الواجهة لتطبيق أشرس السياسات النيوليبرالية.
وعلى صعيد نضال الشغيلة، تراجعت سطوة البيروقراطية النقابية، بعد إيغالها العميق في سياسة التعاون مع العدو الطبقي المسماة «شراكة اجتماعية». وقد تجلى انفكاك قسم من الشغيلة من سطوة البيروقراطيات النقابية في حراك ثلاثة أشهر بالتعليم في تعارض صريح مع خط التعاون مع الدولة البرجوازية. ومن المرجح أن يمتد ذلك الانفكاك إلى أقسام أخرى من الشغيلة المنظمة بفعل ما أبدته القيادات النقابية من استعداد لتمهيد طريق هجمات برجوازية تستهدف مصالح نوعية للشغيلة: حق الإضراب، ومكاسب التقاعد وعلاقة الشغل المهددة بفرط الهشاشة.
ومن نافل القول إن هذا الإمكان التاريخي، الذي يتيحه ما لحق الاعتبار السياسي لجناحي المعارضة البرجوازية من تدهور، وبداية تجلي توق الشغيلة إلى التحرر من نهج البيروقراطية النقابية، يظل مجرد إمكان متطلِّبا تدخل قوة تنتقل به من الوجود بالقوة إلى وجود بالفعل. هذه القوة يمثلها مناضلو الطبقة العاملة ومناضلاته الواعون-ات لمصلحتها التاريخية، المستخلصون-ات دروس تجربتها المحلية التاريخية، المسترشدون-ات بعبر كفاحاتها، الظافرة منها والمنتكسة، على صعيد عالمي. ومهما بدت هذه القوة هامشية قليلة التأثير، تستمد فعاليتها مما راكمت من خبرات واستوعب من عبر عقود من الكفاحات، وشأنها شأن الشرارة التي أحرقت سهلا. وهذا بذاته أحد أكبر دروس تجربة طبقتنا التاريخية، عبر الزمان والمكان.
بات الواقع ينطق بإمكانات تجديد وإنماء مقدرة الكفاح لدى الشغيلة، كميّا بتوسيع تنظيمها المتحرر من أغلال البيروقراطية، ونوعيا بارتقاء الوعي السياسي بعد أن كشفت التجربة أمام أنظار الملايين حقيقة جناحي المعارضة البرجوازية: الليبرالي والإسلامي. بهذا النحو تنفتح أمام الخميرة الثورية آفاق واعدة غير مسبوقة نحو بناء معارضة عمالية.
الإنصات لنبض ما يعتمل داخل الطبقة، وعامة الكادحين، والتفاعل الحفاز مع النضالات اليومية، بتنوير طلائع النضال بالحاجة إلى التنظيم الذاتي، والتنظيمات الدائمة، العمالية والشعبية، والأداة الحزبية المستقلة، هذا دور تلك الخميرة الثورية الآن وهنا.
اقرأ أيضا