أزمة عالمية ونزاعات وحروب: أي أممية للقرن الحادي والعشرين؟ إحاطة إجمالية في زمن «أزمة متعددة الأبعاد»
الأحد 14 نيسان/أبريل 2024، بقلم بيار روسيهROUSSET Pierre،
أجرى الحوار موقع فينتو سورViento Sur
بيانتو سور–يبدو جلياً أننا في سياق أزمة عالمية متعددة الأبعاد، من خصائصها فوضى جيوسياسية نسبية، حيث نشهد تزايد عدد الحروب وتفاقم النزاعات بين الإمبرياليات، كيف بوسعكم تعريف هذا الطور؟
بيار روسيه: أشرتم إلى ال ـ«أزمة العالمية متعددة الأبعاد» (أود قول أزمة على صعيد العالم). أعتقد أن من الأهمية بمكان التركيز على هذا الأمر قبل تناول المسائل الجيوسياسية. تحدد هذه الأزمة كل شيء من خلال جوانب عديدة، ويتعذر الاكتفاء بممارسة السياسة كما كان من قبل. وصلنا «نقطة التحول» التي كنا نخشاها منذ مدة طويلة، وأسرع بكثير من المتوقع.
يدق جوناثان واتس، محرر شؤون البيئة العالمية في صحيفة الغارديان، ناقوس الخطر عبر مقال كتبه يوم 9 أبريل/نيسان بعنوان: «للشهر العاشر تواليا.. يدق تسجيل درجات حرارية قياسية ناقوس الخطر ويحير علماء المناخ». وفي الواقع، «إذا لم يستقر الوضع الشاذ بحلول شهر آب/أغسطس، «سيحل العالم في منطقة مجهولة»، على حد قول أحد خبراء المناخ. […].مما قد يعني أن ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي تؤدي أساساً إلى تغيير طريقة اشتغال نظام المناخ، قبل ذلك بكثير مما توقعه العلماء».
يعتبر الخبير المذكور أن الاستقرار بحلول شهر آب/أغسطس لا يزال ممكناً، لكن أزمة المناخ بالفعل جزء من حاضرنا، مهما كان الأمر. نحن في خضمها، وتتضح بالفعل عواقبها بشكل مأساوي (فوضى المناخ).
تؤثر الأزمة ذات الطابع الشامل التي علينا مواجهتها في جميع مجالات البيئة (ليس المناخ وحسب) وعواقبها على الصحة (بما في ذلك الجوائح). تهم النظام العالمي السائد (أوجه الاختلال مستعصية الحل في العولمة النيوليبرالية) ووضع القوى الجيوسياسي، وتنامي النزاعات وعسكرة العالم، ونسيج مجتمعاتنا الاجتماعي الوثيق (الذي أدت الهشاشة المعممة التي يغديها كل ما سبق إلى اضعافه) …
ما قاسم كل هذه الأزمات المشترك؟ أسبابها «البشرية»، كليًا أو جزئيًا. من الواضح أن مسألة تأثير الإنسان على الطبيعة غير جديدة. يعود تاريخ تنامي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري إلى الثورة الصناعية. لكن هذه «الأزمة العامة» وثيقة الارتباط بتطور الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية ثم بالعولمة الرأسمالية. وتتسم بتضافر جملة أزمات محددة تؤدي بنا إلى وضع غير مسبوق، على حدود «مناطق مجهولة» عديدةوحالة تحول ذي طابع شامل.
وبإيجاز، أحبذ تعبير «أزمة متعددة الأوجه». قد يكون مربكًا إلى حد ما وغريبًا على اللغة المعتادة، لكن بصيغة المفرد، يؤكد على الحديث حول أزمة واحدة متعددة الأوجه، ناجمة عن توليف أزمات محددة متعددة. لا نتعامل والحالة هذه معمجرد عملية جمع أزمات، بل مع تفاعلها الذي يضاعف حدة ديناميتها، مما يذكي وتيرة دوامة مميتة للجنس البشري (ولجزء كبير من الكائنات الحية).
إن ما يثير الاشمئزاز خاصة، والانذهال صراحة أن السلطات القائمة اليوم تلغي التدابير الضئيلة المتخذة للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري ولو بشكل طفيف. وهذا ينطبق خاصة على حكومتي فرنسا وبريطانيا. وهذا أيضاً حال البنوك الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية، أو مقاولات النفط. في اللحظة الذي كان من اللازم تعزيزها، وإلى حد كبير، على ما يبدو. يفرض ذوو الثراء الفاحش قانونهم. ولا يعتبرون أننا جميعًا متساوون. إن مناطق برمتها في العالم على وشك أن تصبح غير صالحة للعيش، حيث يترافق ارتفاع درجات الحرارة مع مستويات عالية جدًا من الرطوبة في الهواء. سيذهبون للعيش حيث لا تزال حالة الطقس جيدة، غير مكترثين بما سبق ذكره.
نشهد اليوم عصر الجوائح. أدى تدمير البيئات الطبيعية إلى خلق ظروف حياة مشتركة مواتية لانتقال ما أصبح كوفيد رمزها من أمراض بين الأنواع الحية. أضحى ذوبان الجليد الدائم في سيبيريا قائما، وقد يؤدي الى انتشار بكتيريا أو فيروسات قديمة لا مناعة أو علاج ضدها. وهنا أيضًا قد نلج منطقة مجهولة: تفضي أزمة المناخ إلى أزمة صحية متعددة الأبعاد.
كانت الكارثة متوقعة. نعلم الآن أن مقاولات النفط الكبرى مولت إجراء دراسة في منتصف سنوات 1950 رسمت معالم الاحتباس الحراري القادم بدقة ملحوظة (على الرغم من انكار تلك المقاولات حدوث ذلك لعقود)
لم نستكمل التعرف على جميع أوجه «الأزمة متعددة الأوجه»، لكن قد حان وقت استخلاص بعض الاستنتاجات الأولية.
إن أبرز التأثيرات الجيوسياسية لظاهرة الاحتباس الحراري قائمةفي القطبين، وخاصة في القطب الشمالي. ثمة طريق ملاحة بين المحيطات منفتح في الشمال، إلى جانب إمكانية استغلال ثروات باطن الأرض. تأخذ المنافسة بين الإمبرياليات في هذا الجزء من العالم بعدًا جديدًا. وبما أن الصين ليست دولة مطلة على القطب الجنوبي، تحتاج إلى روسيا للتواجد هناك. مما يؤدي بموسكو إلى دفع ثمن تضامن الصين معها على الجبهة الغربية (أوكرانيا) من خلال تأمين حرية استخدام ميناء فلاديفوستوك.
فيما يتعلق بالوضع الجيوسياسي العالمي، أود تسليط الضوء أدناه على أهمية مسألتين غير مذكورتين.
أولا آسيا الوسطى. إذ تحتل موقعاً محورياً في قلب القارة الأوراسية. تمثل بالنسبة لفلاديمير بوتين، جزءاً من منطقة النفوذ الروسي المميزة، لكنها بالنسبة لبكين، أحد الممرات الرئيسية على الجانب البري من «طرق الحرير» الجديدة الصينية إلى أوربا. يبرزرهان معقد حاليًا في هذا الجزء من العالم، لكن دراساتنا التحليلية لا تشمل إلا معلومات ضئيلة عنه.
علاوة على ذلك، يستحضر الاحتباس الاحترار العالمي الأهمية القصوى للمحيطات، التي تغطي نسبة 70% من سطح الأرض، وتؤدي دورا حاسما في تنظيم المناخ، وتضم النظم الإيكولوجية الحيوية، لكن ذلك كله مهدد بارتفاع درجات حرارة البحار. كما نعلم، يمثل الاستغلال المفرط لموارد المحيطات رهاناً كبيرا، إضافة إلى توسيع الحدود البحرية التي لا تقل مشاكلها عن مشاكل الحدود البرية. لا يمكن لتفكير جيوسياسي ذي طابع شامل تجاهل المحيطات والقطبين.
يكمن طبعاً جانب رئيسي آخر من «الأزمة متعددة الأبعاد» التي نواجهها في العولمة والأمولةfinanciarisation الرأسماليين. أديا إلى تشكيل سوق عالمية موحدة أكثر من أي وقت مضى، كفيلة لحرية حركة السلع والاستثمارات والرساميل القائمة على المضاربة (وليس الأشخاص). أفضت عوامل عديدة إلى تعطيل اشتغال هذه «العولمة السعيدة» (بالنسبة لكبار الملاك): ركود تجاري، وحجم الديون والتمويل القائم على المضاربة، وجائحة كوفيد التي كشفت عن مخاطر التقسيم العالمي لسلاسل الإنتاج، ودرجة اعتماد الغرب على الصين، مما ساهم بسرعة في تغير العلاقات بين واشنطن وبكين (من التوافق الودي إلى المواجهة).
أرادت المقاولات الغربية الكبرى تحويل الصين إلى ورشة عمل للعالم، لضمان إنتاج منخفض التكلفة وتحطيم الحركة العمالية في بلدانها. كانت أوربا في طليعة الدول الساعية إلى تعميم قواعد منظمة التجارة العالمية التي انضمت إليها بكين. كانت كلها مقتنعة بأن إمبراطورية الصين سابقاً قد تكون تابعة لها بشكل نهائي، وكان ممكناً أن تكون كذلك. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلأن الجناح القيادي في البيروقراطية الصينية، نجح في إرساء التحول نحو الرأسمالية، بعد سحق المقاومة الشعبية بالدم (عام 1986)،، مما أدى إلى ولادة شكل أصيل من أشكال رأسمالية الدولة.
تتمتع رأسمالية الدولة بتاريخ طويل في شرق آسيا، تحت إشراف الكومينتانغ (الحزب القومي الصيني) في الصين أو تايوان، وكوريا الجنوبية… من الواضح أن التشكيلة الاجتماعية الصينية فريدة من نوعها، بسبب تاريخها، لكن تجمع بشكل كلاسيكي تمامًا بين تنمية رأسمال خاص واستيلاء الرأسماليين على مؤسسات الدولة. لا نتعامل هنا مع قطاعين اقتصاديين منفصلين (اقتصاد مزدوج أساساً)، بل هما في الواقع مرتبطان بشكل وثيق من خلال تعاونيات عديدة، وعبر زمر عائلية قائمة في جميع القطاعات.
أولاً، تحت اشراف دنغ شياو بينغ، بدأت الصين المتحولة إلى الرأسمالية بحذر في اقلاعها الإمبريالي واستطاعت الاستفادة من البعد الجغرافي عن الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت عاجزة منذ فترة طولية عن إعادة التركيز على آسيا منذ فترة طويلة (لم يتحقق ذلك إلا بقيادة جوبايدن في أعقاب الاندحار الأمريكي في أفغانستان).
وختاما، نشير إلى ما يلي:
– تظل المواجهة بين الإمبريالية القائمة (الولايات المتحدة الأمريكية) والإمبريالية الصاعدة (الصين) سائدة على الوضع الجيوسياسي العالمي. لا يشكلان بالطبع الفاعلين الوحيدين في الرهان العالمي الكبير بين قوى كبيرة وصغيرة، لكن ما من قوة أخرى تضاهي نفس «القوتين العظمتين» وزناً.
-يتسم هذا النزاع بدرجة عالية جدًا من الترابط الموضوعي. من المؤكد أن أزمة العولمة النيوليبراليةجلية،لكن إرثها قائم لحد الآن. لم يعد ثمة «عولمة سعيدة»، لكن لا توجد ثمة أيضاً «إزالة عولمة (رأسمالية) سعيدة». تعد النزاعات الجيوسياسية من أعراض هذه الأزمة الهيكلية وتؤدي إلى مفاقمة حدة تناقضاتها. دخلنا أيضًا منطقة مجهولة وغير مسبوقة، إلى حد ما.
– على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية تظل «القوة العظمى» الرئيسية، شهدت هيمنتها تراجعًا نسبيًا. لا تستطيع الاستمرار في ضبط العالم دون مساعدة حلفاء موثوقين وفعالين، مفقودين ميدانياً. أدت الأزمة السياسية والمؤسسية التي أثارها دونالد ترامب وعواقبها الدبلوماسية الدائمة (فقدان الثقة بين حلفائها) إلى إضعافها. يمكن تأكيد عدم وجود إمبريالية «كلاسيكية» الآن، نظرًا لحجم تراجع التصنيع في البلد. يقوم جو بايدن الآن بتعبئة موارد مالية وقانونية كبيرة في محاولة تغيير الأمور في هذا المجال، لكن المهمة صعبة. لا بد من الإشارة لعجز دولة مثل فرنسا، على إنتاج معقم اليدين والكمامات طبية والأقنعة التنفسية FFP2 والأردية التمريض (FFP2)، حتى بوجه حالة طوارئ حيوية (كوفيد). مع ذلك لا يتعلق ذلك بتكنولوجيا متطورة!
– كان وضع الصين أفضل بكثير في هذا المجال. كانت ورثت من الحقبة الماوية أساسا صناعيا محليا، وسكانًا متمتعين بارتفاع معدل إلمام بالقراءة والكتابة بالنسبة للعالم الثالث، وطبقة عاملة ذات تكوين. بعد أن أصبحت ورشة عمل في العالم، أمنت موجة تصنيع جديدة (تابعة جزئيًا، لكن ثمة مجالات غيرها). استثمرت موارد ضخمة في إنتاج التكنولوجيات الدقيقة. تمكنت الدولة-الحزب من تنظيم تطور البلد وطنيا وعالمياً (كان هناك طيار في الطائرة). مع ذلك، أصبح نظام الصين اليوم أكثر غموضًا وسرية من أي وقت مضى. نحن على علم كيف تؤثر الأزمة السياسية والمؤسسية على الإمبريالية الأمريكية. من الصعب للغاية معرفة ما يحدث في الصين. لكن، المركزة المفرطة للسلطة في ظل حكم شي جين بينغ، الذي أصبح رئيسًا مدى الحياة، عامل من عوامل الأزمة الهيكلية على ما يبدو الآن.
– أدى تراجع الولايات المتحدة الأمريكية نسبيا وصعود الصين القوي غير المكتمل إلى فتح مجال قد تقوم فيه قوى ثانوية بدور دال، بالأقل في منطقتها (روسيا وتركيا والبرازيل والمملكة العربية السعودية…). على هذا النحو، لم تتوقف روسيا عن فرض الأمر الواقع على الصين في الحدود الشرقية لأوربا على ما يبدو. كانت موسكو وبكين، إلى حد كبير سيدتا الرهان في القارة، من خلال العمل معاً. مع ذلك، لم يكن هناك تنسيق بين غزو أوكرانيا والهجوم الفعلي على تايوان.
في هذا السياق تحديدا، هل يمكن اعتبار أن مسألة غزو روسيا لأوكرانيا ودعم القوى الغربية لأوكرانيا ضدها تجعل من هذه الحرب حربًا بين الإمبرياليات مما يدعونا إلى استحضار سياسة زيمرفالد (حرب على الحرب) ردًا على ذلك؟ أم على العكس من ذلك، هل نحن أمام حرب تحرر وطني، تفرض على اليسار الغربي التضامن مع مقاومة شعب أوكرانيا ضد الغزو الروسي رغم دعم القوى الإمبريالية لها؟
كانت سياسة زيمرفالد تطالب بالسلام، دون ضم أراض. والحال أن بعض من يقدمون أنفسهم على أنهم ورثة زيمرفالد يقترحون التنازل عن هذه القطعة أو تلك من أوكرانيا لروسيا، وتنظيم استفتاءات هناك لإثبات صحة انفصالهم عن أوكرانيا، الخ، لكن دعونا نمضي قدماً.
تكمن أبسط طريقة للإجابة على هذا السؤال في العودة إلى تسلسل الأحداث. يتم التحضير لغزو عبر حشد موارد عسكرية كبيرة على الحدود، ما يستغرق وقتًا ويبدو واضحاً للعيان. هذا ما قام به بوتين. حينئذ، كانت منظمة حلف شمال الأطلسي OTAN في خضم أزمة سياسية، بعد المغامرة في أفغانستان، ولم يشهد الجزء الأكبر من قواتها العملياتية في أوروبا إعادة نشر في الشرق. كانت الصين الشغل الشاغل لبايدن، وكان يسعى إلى تأليب موسكو على بكين. كانت أجهزة الاستخبارات الأمريكية أول من حذر من احتمال غزو، لكن لم تأخذه الدول الأوروبية أو حتى زيلينسكي نفسه على محمل الجد.
لم يكن معظمنا في أوروبا الغربية إلا على قدر قليل من الاتصال مع رفاقنا في أوروبا الشرقية (خاصة في أوكرانيا) وكان كثر منا يحلل الأحداث من منظور جيوسياسي بحت (لا ينبغي ارتكاب هذا الخطأ بأي وجه)، معتقدين باكتفاء بوتين بممارسة ضغوط قوية على الاتحاد الأوربي لإذكاء خلافات ما بعد أفغانستان داخل منظمة حلف شمال الأطلسي. لو كان الأمر كذلك، ما كان ينبغي أن يحدث الغزو، إذ كان سيؤدي إلى تأثير عكسي: منح معنى جديد لمنظمة حلف شمال الأطلسي وإتاحة رص صفوفه. وهذا ما حدث بالضبط! والأكثر من ذلك، قبل الغزو الروسي، كانت أغلبية شعب أوكرانيا قبل الغزو الروسي راغبة في العيش في بلد غير منحاز. واليوم، لا ترى سوى أقلية صغيرة جدًا استتباب أمنها دون تحالف وثيق مع بلدان منظمة حلف شمال الأطلسي.
في الواقع، لم ينتبن الشعور بإمكانية الغزو إلا قبل وقت قصير جدًا من حدوثه، بعد أن نبهني إلى ذلك رفيقي آدم نوفاك Adam Novak.
أصبحنا الآن نعرف معلومات أكثر من ذلك بكثير: كان التخطيط للغزو منذ سنوات عديدة. يندرج هذا الأخير في إطار مشروع كبير لاستعادة إمبراطورية روسيا داخل حدود الاتحاد السوفييتي الستاليني، مع كاثرين الثانية كمرتكز لها. كان وجود أوكرانيا مجرد حالة شاذة من صنع لينين (على حد تعبير بوتين متهما لينين) وكان لزاماً إعادة دمجها في روسيا. في الواقع، يسميه الأوكرانيون/ات الغزو الشامل ويؤكدون أن تدمير دونباس ولوهانسك والقرم واحتلالها عسكرياً في عام 2014 يشكل أول طور من أطوار الغزو. كان من المقرر أن تكون «العملية الخاصة» (كانت كلمة «حرب» محظورة حتى وقت قريب ولا تزال كذلك عملياً) سريعة جدًا وتستمر حتى كييف، حيث سيتم إنشاء حكومة خاضعة لموسكو. لم يكن بوسع القوات الغربية التي أخذت على حين غرة إلا الرضوخ للأمر الواقع – وهذا ما حدث بالفعل. وحتى رد واشنطن السياسي كان متأخراً.
تتمثل حبة الرمل التي أوقفت آلة الحرب في مدى المقاومة الأوكرانية التي لم يتوقعها بوتين، لكن أيضًا الغرب. يمكن التحدث حقًا عن مقاومة شعبية هائلة، في تناغم مع القوات المسلحة. كانت مقاومة وطنية، انخرط فيها ناطقون بالروسية كثر (وكل الطيف السياسي، باستثناء الموالين لموسكو). ما كان ثمة دليل أوضح من هذا للمشككين في ذلك: أوكرانيا موجودة بالفعل. هذا هو السيناريو الثاني الذي ذكرتموه.
لا يمحو الزمن هذه الحقيقة «الأصلية» والتزامنا بالتضامن. أود اضافة التزامًا مزدوجًا بالتضامن. مع المقاومة الوطنية لشعب أوكرانيا وقوى اليسار التي تواصل النضال، في أوكرانيا بالذات، من أجل حقوق العمال والنقابات، وحرية تكوين الجمعيات والتعبير، وضد استبداد نظام زيلينسكي وبوجه السياسات النيوليبرالية (التي ينادي بها الاتحاد الأوربي) …
أصبحت أوكرانيا طبعاً بؤرة ساخنة في النزاع الروسي الغربي. لولا إمدادات الأسلحة الأمريكية بوجه خاص، لما تمكن الأوكرانيون من الصمود في «الجبهات». مع ذلك، ظلت إمدادات الأسلحة دوما أقل مما كان ضروريا لهزيمة موسكو بشكل حاسم. وحتى يومنا هذا، لم يتم احباط السيطرة الجوية لجيش روسيا. كما أن بلدان منظمة حلف شمال الأطلس منقسمة مجددا، في حين أن أزمة ما قبل الانتخابات في الولايات المتحدة الأمريكية تعيق التصويت على تقديم أموال لأوكرانيا.
بعد تمكنها من ارساء دفاعات في العمق وإعادة التنظيم، لا تزال موسكو محرك التصعيد العسكري في أوكرانيا، بمساعدة قذائف كوريا الشمالية والتمويلات التي تقدمها الهند والصين (عبر بيع منتجات النفط)، وبنهج سياسة الأمر الواقع إلى حد الدناءة: ترحيل الأطفال الأوكرانيين وتبنيهم من قبل عائلات روسية.
إذا كان الأمر كذلك، فكيف نرد على من يعتقدون أن دعم المقاومة يخدم مصالح القوى الغربية (بموافقة حكومة زيلينسكي) الساعية إلى إطالة أمد الحرب، دون اكتراث لما تسببه من دمار (بشري ومادي)، وبالتالي من الضروري تعزيز سياسة فعالة دفاعاً عن السلم العادل؟
أنا شخصيًا غير منخرط بنشاط في التضامن مع أوكرانيا. على الرغم من الأحداث الجارية، ألتزم بممارسة أنشطتي التضامنية الآسيوية. انغمست في المسألة الفلسطينية الإسرائيلية (من الصعب خوض غمارها). لذلك سأبقى حذرًا.
ندرك جميعاً حجم ما سببته هذه الحرب من دمار، بقدر ما يشن بوتين حربًا تستهدف السكان المدنيين بلا خجل. إنه أمر لا يطاق.
لكن من يمدد مسار هذه الحرب هو بوتين وليس دعمنا. يجب عدم تمييع المسؤوليات على كل حال. إذا كنا نعني بتعبير «سلام عادل» هدنة غير محددة على خطوط الجبهة الحالية، فإن ذلك سيحكم على خمسة ملايين أوكراني/ة في الأراضي المحتلة بالعيش في ظل نظام الادماج القسري، مع ترحيل عدة ملايين آخرين إلى الاتحاد الروسي بالذات.
يتمثل دور حركتنا التضامنية في المقام الأول، على ما أعتقد، في الاسهام على خلق أمثل الظروف لنضال شعب أوكرانيا، وفي داخله، نضال اليسار الاشتراكي والسياسي الأوكراني. طبعاً ليس من شأننا تحديد شروط اتفاق سلام. أعتقد أن علينا الاستماع إلى ما يطالب به يسار أوكرانيا والحركة النسوية والنقابات وحركة تتار القرم ومناضلي البيئة (ضمن آخرين)، والاستجابة لنداءاتهم.
علينا أيضًا الاصغاء إلى اليسار والحركات المناهضة للحرب في روسيا بالذات. يعتقد معظم مكونات يسار روسيا المناهض للرأسمالية أن هزيمة روسيا في أوكرانيا قد تشكل الشرارة التي تؤدي إلى التحول الديمقراطي في البلد وبروز حركات اجتماعية مختلفة.
إن من يدعون في اليسار الغربي أن يسار أوروبا الشرقية «غير قائم تقريبا» مخطئون.
إن الاعتقاد بأن تسوية سيئة -على ظهر الأوكرانيين/ات- قد يضع حدًا للحرب وهم خطير على ما يبدو. ويعني تجاهل أسباب انخراط بوتين في الحرب: تصفية أوكرانيا ومواصلة إعادة تشكيل إمبراطورية روسيا، لكن أيضًا الاستيلاء على ثرواتها الاقتصادية (بما في ذلك قطاعها الزراعي) وإقامة نظام استعماري في المناطق المحتلة.
يعج جهاز الدولة التابع لبوتين بعناصر المخابرات (جهاز الأمن الفيدرالي لروسيا الاتحادية KGB-FSB الاستخبارات السوفيتية). يتدخل هذا الجهاز بالفعل في جميع أنحاء المنطقة المجاورة له، من الشيشان إلى آسيا الوسطى وسوريا. ولا وجود له على الصعيد الدولي إلا من خلال قدراته العسكرية ومبيعاتها من الأسلحة أو النفط أو المنتجات الزراعية…
لا أثق تماماً في «إمبرياليتنا» التي أعرف أوجه قوتها ولا أتوقف عن محاربتها. ولن أعتمد عليها بأي وجه في التفاوض أو فرض اتفاق سلام. انظروا إلى مآل اتفاقيات أوسلو في فلسطين!
لا أؤيد بتاتاً تماشي حركات التضامن «مع منطق القوى» (مهما كانت). يجب أن تظل مستقلة تمامًا، خاصة عن الدول والحكومات (بما في ذلك حكومة زيلينسكي). أؤكد مجدداً، أننا نصغي إلى قوى يسار أوكرانيا واليسار المناهض للحرب في روسيا على حد سواء.
من ناحية أخرى، تستغل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي حرب روسيا في أوكرانيا وتصاعد التوترات الدولية كذريعة لإعادة التسلح وزيادة الإنفاق العسكري. هل يمكن التحدث عن «حرب باردة جديدة» أو حتى خطر نشوب حرب عالمية لا يستبعد استخدام الأسلحة النووية فيها؟ ما الموقف اللازم أن يتخذه اليسار المناهض للرأسمالية بوجه إعادة التسلح وهذا التهديد؟
أنا ضد قيام الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي بإعادة التسلح وزيادة الإنفاق العسكري.
ومن ثم، ضرورة توسيع مجال النقاش على ما أعتقد. يجري سباق تسلح جديد على قدم وساق، حيث تمتلك فيه الصين (وحتى روسيا) زمام المبادرة، على ما يبدو، في مجالات عديدة، بما في ذلك ميدان أسلحة تفوق سرعتها سرعة الصوت مما قد يجعل الدروع المضادة للصواريخ الحالية غير فعالة أو يتيح استهداف أسطول حاملة طائرات من مسافة بعيدة جداً. على حد علمي، لم يتم اختبار أي شيء بالفعل، ولا أعرف ما يدخل ضمن الحقيقي أو الخيال العلمي، لكن رفاقا آخرين أدرى مني طبعاً في هذا المجال.
يشكل سباق التسلح مشكلة عويصة بحد ذاته، للأسباب المعهودة (عسكرة العالم، واستحواذ المجمع الصناعي العسكري على حصة ضخمة من الميزانيات العامة…)، لكن أيضًا بسبب أزمة المناخ، مما يجعل إنهاء عصر الحروب الدائمة أكثر إلحاحًا. لا تتضمن الاحصاءات الرسمية لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري إنتاج الأسلحة واستخدامها. ما يشكل إنكاراً فظيعاً للواقع.
هدد بوتين مرارًا وتكرارًا باستخدام الأسلحة النووية، لكن دون جدوى (أنا لا أدعوه إلى التناغم مع تصريحاته). أشك في أن التهديد بخوض حرب نووية سبب مباشر للنزاع الدائر في أوكرانيا (آمل أن أكون على حق)، لكني أعتقد أنه (للأسف) مشكلة حقيقية. وهنا أيضًا سأعمل على توسيع نطاق الموضوع.
وفي هذا الصدد ثمة بالفعل أربع «مناطق رئيسية» نووية محددة. توجد واحدة في الشرق الأوسط: إسرائيل. وتقع ثلاث منها في أوراسيا: أوكرانيا والهند-باكستان وشبه جزيرة كوريا. تعتبر الأخيرة الوحيدة «النشطة». يقوم نظام كوريا الشمالية دورياً بتجارب وإطلاق صواريخ في منطقة انتشار القوات الجوية البحرية الأمريكية وحيث أكبر مجمع للقواعد الأمريكية في الخارج (في اليابان، وخاصة في جزيرة أوكيناوا). أصبح جو بايدن منشغلا فعلاً بأوكرانيا وفلسطين وتايوان، وقد يتفادى تفاقم الوضع في هذا الجزء من العالم (الصين أيضًا)، بعد تحمل ترامب وآخر السلالة الوراثية الكورية الشمالية أيضاً مسؤولية كبيرة فيه.
ثمة مشكلة صغيرة: يستغرق صاروخ نووي كوري شمالي عشرين دقيقة لبلوغ سيول، عاصمة كوريا الجنوبية. يتعذر الالتزام بعدم البدء باستخدام الأسلحة النووية، في ظل هذه الظروف.
تعتبر فرنسا بلدا من البلدان التي تهيئ الرأي العام سياسياً لاحتمال استخدام قنبلة نووية «تكتيكية». يجب أن نعارض بشدة هذه المحاولة الرامية إلى جعل الأسلحة النووية أمراً مألوفاً وعادياً. للأسف، هناك نوع من إجماع سياسي وطني لا يجعل من «ترسانتنا» النووية مسألة مبدأ لإبرام اتفاقات سياسية، بما في صفوف اليسار، وحتى عندما يتم تأييد منع استخدامها.
يجب أن تكون مسألة إعادة التسلح، وسباق التسلح الجديد، والسلاح النووي، جزءا لا يتجزأ من نضالات الحركات المناهضة للحرب على جانبي الحدود. هكذا، على الرغم من العنف الطائفي الرهيب الذي شهده تقسيم الهند في عام 1947، يناضل اليسار الباكستاني والهندي معًا من أجل نزع السلاح.
هل يمكن الحديث عن «حرب باردة جديدة»؟ كنت أرى هذا التعبير شديد التركيز على أوروبا. كانت الحرب حامية الوطيس في آسيا (التصعيد الأمريكي في فيتنام). ماذا يعني اليوم، بينما تشن روسيا حربًا في أوكرانيا؟ أفهم توظيفه في الصحافة والنقاش، لكنني أرى ضرورة عدم استخدامه، لسببين رئيسيين:
– يعمل على اختزال التحليل في اعتماد مقاربة جيوسياسية محدودة للغاية. لا تعد الحرب «باردة» إلا بغياب مواجهة مباشرة بين قوى عظمى. وهذا لا يمنع اجراء تحليل ملموس للنزاعات «الساخنة»، ولا يساهم فيه.
– عموماً، لست مهتماً بالتفكير في اجراء مماثلات تاريخية: «هل نحن في…». نحن لسنا «في…» بأي وجه، بل في الحاضر. أعلم أن التاريخ يساهم في تفسير الحاضر، وأن الحاضر يساعد على إعادة النظر في الماضي، لكن تعبير «الحرب الباردة الجديدة» يوضح جليا تحفظي. كانت الحرب الباردة «الأولى» قائمة بين «الكتلة الغربية» و«الكتلة الشرقية». لم تكن الكتلة السوفيتية والصين في تلك الفترة، تقم مع السوق العالمية إلا علاقات اقتصادية محدودة. كانت الدينامية الثورية مستمرة (فيتنام، إلخ).
باتت السوق العالمية الرأسمالية اليوم ذات طابع عام. مرت العولمة من هنا. وأصبحت الصين أحد أعمدتها. يوجد ترابط اقتصادي وثيق بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية وبلدان أوروبا الغربية. من المستحيل فهم تعقيدات النزاع الصيني الأمريكي دون أخذ هذا العامل في الاعتبار بشكل كامل. لما اللجوء إلى صيغة قديمة ثم قول: لكن كل شيء مختلف طبعاً.
أود الإشارة إلى أن موضوع الحرب الباردة الجديدة مناسب لاصطفافيي كلا الجانبين. يعني الاصطفافيين الساعين إلى تبرير دعمهم لموسكو وبكين. أو من يريدون رجالا ونساء، الوقوف إلى جانب الديمقراطية والقيم الغربية ضد المستبدين.
وأخيرا، تجذر الإشارة إلى وجهة نظر مقتضبة: بايدن رجل من الماضي. تعلم التفاوض بشأن التهديدات النووية أثناء اندلاع أزمات كبرى عديدة. وقد تصبح هذه الخبرة مفيدة له اليوم.
ما رهانات حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة؟ لماذا تواصل الولايات المتحدة الأمريكية دعم إسرائيل رغم امتناعها عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي مؤخرًا؟ ما الدور الذي من الضروري أن يقوم به تضامننا العالمي مع الشعب الفلسطيني؟
ما رهانات هذه الحرب؟ بقاء سكان غزة على قيد الحياة. قال أحد المختصين في هذه المسائل (ابادة السكان) عبارة مناسبة جداً كما تبدو لي. لم ير سابقاً وضعًا بهذه «الحدة» من الخطورة. في حالات أخرى، لقي عدد أكبر من الأشخاص حتفهم، لكن غزة منطقة صغيرة تتعرض لهجوم متعدد الأوجه وبكثافة غير مسبوقة. وحتى لو توقف القصف ووصلت المساعدات بكميات كبيرة، قد تستمر الوفيات مع مرور الوقت.
سيعاني جميع السكان من حالات توتر متكررة بسبب الصدمات، بدءًا من الأطفال الذين يصل معدل وفياتهم نسبة مرعبة. لن يحظى الأطفال الصغار، ضحايا سوء التغذية، بالحق في حياة «طبيعية» بأي وجه.
تتمثل الرهانات الأخرى المطروحة، في وجود حتى الضفة الغربية، حيث يتعرض الفلسطينيون يومياً لعنف المستوطنين المتعصبين اليهود، بدعم من الجيش والقوات شبه العسكرية. هل سيضطر سكان غزة الناجون إلى النزوح إلى المنفى عبر مصر أو عن طريق البحر؟ هل سيطرد فلسطينيو الضفة الغربية الناجون إلى الأردن؟ هل ستترسخ معالم مشروع إسرائيل الكبرى؟
يمكن النظر إلى استعمار فلسطين على مدة فترة طويلة الأمد، لكن نشهد تحولا رهيبا. لم يسبق لنتنياهو بأي وجه أن حدد أهداف حربه (باستثناء تدمير حماس كلياً، وهي مهام بلا نهاية). لن أحاول مكانه رسم خطوطها، بقدر تقلب الوضع.
يعد قصف قنصلية إيران في دمشق في الأول من نيسان/أبريل مثالا على ما ينهجه نتنياهو من سياسة الهروب إلى الأمام ما وراء حدود فلسطين. يدل ذلك على انتهاك صارخ لاتفاقية فيينا التي تنص على حماية البعثات الدبلوماسية. كان المستهدف من الهجوم كبار قادة في حزب الله كانوا هناك، لكن هذا لا «يبرر» أي شيء. ثمة دوماً «أعداء» لدودين في البعثات الدبلوماسية، بمن فيهم كبار الضباط. يعرف الإسرائيليون ذلك جيداً، إذ قام عملاء الموساد المتنكرون في زي دبلوماسيين بقتل أو اختطاف أكثر من شخص في دول أجنبية. ومن الغريب والمثير للقلق عدم اثارة هذا القصف مزيدا من الاحتجاجات.
لا تريد طهران شن الحرب، لكن عليها الرد. نحن على حافة الهاوية.
وقع جو بايدن في الفخ الذي نصبه عبر إعلان دعمه غير المشروط لحكومة إسرائيل منذ البداية، بسبب انتمائه للصهيونية على حد تعبيره ودون استشارة خبراء إدارته، مما أدى إلى سلسلة من الاستقالات المدوية. لم يعد بإمكانه دعم ما لا يطاق، لكنه لم يتوقف عن تزويد إسرائيل بالأسلحة والذخائر. قد أكون مخطئًا، لكن أعتقد أنه ببساطة فقد تحكمه بالعالم العربي ديبلوماسياً وهو الآن مشغول بتعزيز اتفاقات دفاعية مع اليابان والفلبين، في حال فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
[تحيين: شنت إيران هجومًا جويًا على إسرائيل ليلة 13-14 آذار/مارس. أطلقت إيران ما يفوق 300 قذيفة، وفقًا لإحصاء إسرائيلي: 170 طائرة مسيرة، و30 صاروخ كروز و110 صواريخ باليستية. كانت طهران أعلنت عن العملية، التي أكدتها الولايات المتحدة الأمريكية. يستغرق وصول هذه الأسلحة إلى إسرائيل ساعات عديدة، مما يتيح الوقت الكافي لإسقاط كثير منها على طول الطريق. ساهمت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا والأردن في اعتراضها. مع ذلك تعرضت قاعدة عسكرية إسرائيلية للقصف. من الواضح أن الهدف من هذه العملية كان سياسياً، وتحذيرا رداً على الهجوم الذي شنته إسرائيل في دمشق. كانت هذه هي المرة الأولى التي يهاجم فيها نظام إيران إسرائيل مباشرة على هذا النحو. أشارت طهران الى انتهاء عملية هجومها، بالأقل إذا توقف الإسرائيليون عند هذا الحد. وبوجه إيران، لا يزال جو بايدن قادراً على حشد جبهة من بلدان غربية وعربية. بات اعتماد إسرائيل على حماتها أمراً مؤكداً.]
لننتقل إلى السؤال الأخير. ما هي في رأيي مهام التضامن الأممي مع شعب فلسطين؟
بادئ ذي بدء، حالة الطوارئ المطلقة، والتي قد تحظى بإجماع واسع للغاية: وقف إطلاق النار فوراً، ودخول كميات هائلة من المساعدات عبر جميع طرق الوصول إلى قطاع غزة، وحماية قوافل المجال الإنساني وشغيلته (قُتل العديد منهم)، واستئناف مهام وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (UNRWA) التي يتعذر الاستغناء عن دورها، ووقف الاستيطان في الضفة الغربية واستعادة الفلسطينيين/ات المشردين/ات حقوقهم/ن، وإطلاق سراح الرهائن/ات الإسرائيليين/ات والسجناء/ات السياسيين/ات الفلسطينيين/ات، إلخ.
ندافع عن حق الفلسطينيين في المقاومة، بما في ذلك المقاومة المسلحة، دون أي «تحفظات»؛ لكن هذا لا يعني دعمًا سياسيًا لحماس أو إنكارًا لارتكاب جرائم حرب 7 تشرين الأول/أكتوبر، كما تشهد بذلك مصادر مستقلة عديدة. ضمن هذه المصادر منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان-إسرائيلPhysicians for Human Rights-Israel ، والقرويون البدو في منطقة النقب الذين ترفض إسرائيل حمايتهم، وتعرضوا لتعديات حماس بشكل متكرر، والنشطاء/ات الإسرائيليون الذين كرسوا حياتهم دفاعاً عن حقوق الفلسطينيين/ات…
تعد حماس اليوم مكوّن المقاومة الفلسطينية العسكري الرئيسي، لكن هل تحمل مشروعاً تحررياً؟ قمنا دوماً بتحليل الحركات المنخرطة في نضالات التحرر التي دعمناها. لماذا يجب أن يكون الأمر مختلفًا اليوم؟
يتمثل دورنا كأمميّين أيضًا في رسم فاصل، مهما كان هشًا، بين المهام الحالية ومستقبل تحرري. ندافع عن مبدأ فلسطين حيث بوسع سكان هذه الأرض التاريخية «بين البحر والنهر» العيش معاً (بما في ذلك عودة اللاجئين/ات الفلسطينيين/ات). لن يحدث هذا دون تحولات اجتماعية عميقة في المنطقة، لكن يمكن منح مضمون لهذا المنظور من خلال دعم المنظمات التي تناضل معًا اليوم، يهود/يهوديات وعرب/ات/فلسطينيين/ات، رغم كل الصعاب. يتحملون برمتهم، رجالاً ونساء مخاطر جمة لمواصلة تجسيد هذا التضامن اليهودي العربي في السياق الحالي. نحن مدينون لهم بتضامننا معهم.
يشكل التضامن اليهودي-العربي أيضًا أحد مفاتيح تطوير أشكال التعبئة العالمية، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية حيث قامت حركة “الصوت اليهودي من أجل السلام” Jewish Voice for Peace بدور مهم للغاية لفتح مجال الاحتجاج وضد دعاية اللوبيات المؤيدة لإسرائيل.
كيف تحلل الاستراتيجية السياسة الخارجية للصين ونزاعها مع تايوان؟
أعتقد أن أولوية شي جين بينغ قائمة في مواصلة توسع الصين وتوطيدها عالمياً، ومنافسة الولايات المتحدة الأمريكية في مجال التكنولوجيا المتقدمة لاستخدامات مدنية وعسكرية على حد سواء، والسعي إلى عقد تحالفات دبلوماسية دالة (موطن ضعف بوجه الولايات المتحدة الأمريكية)، وتطوير مجالات نفوذها الخاصة في المناطق المعتبرة استراتيجية في هذه المرحلة (مثل جنوب المحيط الهادئ)، وتعزيز قدراتها العسكرية الجوية والفضائية أو قدراتها في مجال المراقبة والتضليل. قد لا يكون غزو تايوان على جدول الأعمال.
تختلف مسارات توسع الصين عن مسارات أسلافها. لقد تغير الزمن. لا تمتلك بكين إلا قاعدة عسكرية تقليدية كبيرة، في جيبوتي. مع ذلك، تعقد اتفاقات مع عدد متزايد من البلدان للاستفادة من مرافئها. والأمثل من ذلك، أنها تستحوذ على هذه المرافئ كلياً أو جزئياً، مما يؤمن لها شبكة واسعة من خطوط الارتباط للاستخدام المدني والعسكري على حد سواء. يقوم جنود بتقديم خدمات الأمن في مقاولات الصين في الخارج، مما يتيح حصول الجيش على معلومات وربط اتصالات.
تتسم سياسة الصين بطابعها الإمبريالي، ويتعذر رؤية خلاف ذلك. على كل قوة رأسمالية كبرى ضمان أمن استثماراتها واتصالاتها، والمردودية السياسية والمالية لالتزاماتها.
أعلنت بكين سيادتها على كامل ما يسمى ببحر الصين الجنوبي، وهو منطقة عبور دولية رئيسية، وقامت بعسكرتها دون اعتبار لحقوق البلدان المجاورة في البحر. تستولي على الثروات السمكية وتنقب في قاع البحر. ويستخدم النظام الاستبدادي الأساليب المتسلطة حيثما بوسعه ذلك على ما يعتقد. وبالطبع، قد يفعل نظام إمبريالي ديمقراطي مزعوم نفس الشيء…
بالإضافة إلى حالات الحرب التي طال أمدها في سوريا واليمن والسودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ثمة حرب في بورما لا تحظى إلا بقدر قليل من النقاش في الغرب. هل يمكن التعليق على وضع هذا النزاع حالياً؟
أود الإشارة إلى لمحة عن السودان. ثمة تجربة غنية بشأن المقاومات الشعبية «من أسفل» في هذا البلد، في ظروف بالغة الصعوبة، تستحق معرفة (ودعماً) على نحو أمثل.
كانت بورما حالة نموذجية. أحكم الجيش قبضته المطلقة على السلطة عبر انقلاب عسكري في يوم 1 شباط/فبراير 2021. وفي اليوم التالي، دخلت البلد في حالة من الانشقاق على شكل توقف معمم عن العمل وحركة عصيان مدني ضخمة. كان الانقلاب تعرض للفشل، لكن لم يكن ممكناً إطاحة الجيش لغياب دعم دولي فوري. استعاد الجيش زمام المبادرة تدريجيًا من خلال حملة قمع بلا هوادة. وفي المنطقة الوسطى، التي كانت متسمة بالسلم بداية، اضطرت المقاومة الشعبية إلى اللجوء إلى العمل السري ثم الانخراط في المقاومة المسلحة. وسعت إلى الحصول على دعم الحركات الاثنية المسلحة العاملة في ولايات أطراف البلد الجبلية.
من الصعب تصور حركة مقاومة مدنية أوسع نطاقًا من تلك التي شهدتها بورما – لكن الكفاح المسلح أصبح ضرورة حيوية، مستندًا في شرعيته إلى بداهة الدفاع عن النفس. مما أتاح لها الصمود أمام اختبار قوة السلاح والتنظيم تدريجيًا في شكل حروب غوار مستقلة أو مرتبطة بحكومة الوحدة الوطنية، التي تعبر عن البرلمان الذي حله الجيش وانفتح (أخيرًا) على الأقليات الاثنية.
اتخذ النزاع أشكالاً قاسية للغاية، حيث احتكر الجيش بوجه خاص مجال الطيران. كما كان معقدًا أيضًا، بحيث كانت كل ولاية اثنية متسمة بخصائصها وخياراتها السياسية. مع ذلك، فقد المجلس العسكري تدريجيًا تحكمه. كان حظي بدعم الصين (بلد مجاور) وروسيا، لكن أثبت عجزه عن ضمان أمن استثمارات بكين وتشييد مرفأ يتيح بلوغ المحيط الهندي. تعمقت عزلته الدولية وأصبح حلفاؤها في رابطة دول جنوب شرق آسيا ASEAN منقسمين.
يخسر الجيش اليوم مواقعه في مناطق عديدة، واتسعت جبهة المعارضة ضد المجلس العسكري. يعد بورما بلدا ذي تاريخ غني جداً، لكنه للأسف غير مقدر حق تقديره في الغرب.
في آخر المطاف، يشير تفاقم الأزمة الاقتصادية وتنامي النزاعات على المستويين الدولي والإقليمي على ما يبدو، إلى تحول في السياق العالمي، ما يتطلب منا إعادة التفكير في سياسات التضامن الأممي. ما هي سبل بناء أممية تتماشى مع تغير طابع النزاعات الدولية في القرن الحادي والعشرين؟
هناك إعادة تشكيل متعمقة، مع وجود تعارض رئيسي، بين «الاصطفافية» والأممية. قد تكون ثمة اختلافات عديدة في التحليل، لكن السؤال قائم فيما إذا كنا ندافع عن جميع السكان الضحايا.
تختار كل قوة ما يناسبها من ضحايا وتتخلى عن الآخرين. نرفض خوض منطق من هذا النوع. ندافع عن حقوق الكاناك في كاناكي، مهما كان رأي باريس، والسوريين/ات وشعوب سوريا بوجه ديكتاتورية زمرة الأسد القاسية، والأوكرانيين/ات تحت طوفان نيران روسيا، والفلسطينيين/ات تحت طوفان القنابل الأمريكية، والبورتوريكيين/ات تحت الحكم الاستعماري الأمريكي، وشعوب بورما حتى عندما يحظى المجلس العسكري بدعم الصين، والهايتيين الذين يحرمهم ما يسمى «المجتمع الدولي» من الحماية وحق اللجوء.
لا نتخلى عن الضحايا باسم اعتبارات جيوسياسية. نؤيد حقهم في تقرير مستقبلهم بحرية، وحيثما كان الأمر كذلك، حقهم في تقرير مصيرهم. نقف بجانب الحركات التقدمية التي ترفض منطق «العدو الرئيسي» في العالم. لا ننتمي إلى معسكر أي قوة عظمى، سواء كانت يابانية-غربية أو روسية أو صينية. يعد الاحتلال جريمة في أوكرانيا وفلسطين على حد سواء.
نحتاج إلى حركة عالمية مناهضة للحرب بوجه عسكرة العالم. من السهل قول ذلك، لكن من الصعب جدا القيام به. هل يمكن الاعتماد على أشكال تضامن محلية عابرة للحدود (أوكرانيا-روسيا، الهند-باكستان) لتحقيق ذلك؟ أو على حركة التضامن الحاشدة مع فلسطين؟ أم على المنتديات الاجتماعية مثل المنعقد تواً في نيبال؟
علينا أيضًا دمج مسألة المناخ في إطار إشكالية الحركات المناهضة للحرب، وبالمثل ستستفيد الحركات البيئية المناضلة من دمج البعد المناهض للحرب في نضالها، إن لم تكن استفادت من ذلك بالفعل. وينطبق الأمر نفسه على الأسلحة النووية.
تبدو شخصية غريتا ثونبرغ تجسيدا لمقدرة الأجيال الشابة بوجه عنف «الأزمة متعددة الأوجه». لكن التزاماتها تتطلب المثابرة، التي لا تفتقر اليها طبعاً، وقدرة على العمل على المدى الطويل، وهو أمر غير مؤكد بأي حال من الأحوال. كان جيلي نهج مساره النضالي عبر تجذر سنوات 1960، وفي فرنسا، من خلال تجربة أيار/مايو 68 ذات الطابع التأسيسي. يا لها من قوة دافعة. ماذا عن الوضع الراهن؟
ملاحظة: تنشر المقابلة في العدد القادم من مجلة Viento sur
المصدر: https://www.europe-solidaire.org/spip.php?article70471
ترجمة جريدة المناضل-ة
اقرأ أيضا