من أجل استثمار دروس حراك التعليم: الفئوية وفخر الانتماء سم قاتل لوحدة الشغيلة
سبق لجريدة المناضل-ة نشر اسهامات متنوعة تتناول حصيلة حراك التعليم العظيم ودروسه، نواصل فيما يلي التطرق لجوانب اخرى من التجربة. النص التالي مقتطف من كراسة ستصدر قريبا ضمن منشورات المناضل-ة
رغم النفس الوحدوي المنبعث من أعماق الشغيلة، لم يستطع الحراك التغلب على النزوع الفئوي الموروث عن العقدين السابقين. استمر الحراك على شكل فُسيفساء تنسيقيات فئوية وجزر نقابية معزولة عن الطموح الموحد للشغيلة، وقد غطى زخم الحراك في فترة صعوده على هذه النقيصة، ثم برزت بوضوح في لحظة تراجعه.
لا مطلب موحِّد أو سعي من أجل بلوغ تلك الوحدة، بل سعي واعٍ من قيادات الحراك لتفاديها، رغم بروز بعض الملفات المطلبية التي سُميت «موحدة»، إلا أنها كانت بدورها مجرد تجميع لمطالب فئوية. فباستثناء شعار «إسقاط نظام المآسي»، نزلت كل فئة لتزاحِم من أجل مطلبها الخاص. وفي ندوة للتنسيق الوطني ردا على اتفاق 10 ديسمبر 2023، أصر مسير الندوة على أن «الهدف من هذه الندوة الصحفية هو تعريف وسائل الإعلام على كل الملفات الفئوية… وبالتالي رجاء أن يقتصر كل متحدث على جرد مطالب فئته». وبعد انتهاء الحراك تفرق جسم الشغيلة شذر مذر، وكانت اللحظة الأكثر تعبيرا عن ذلك التحاق قيادات فئات شغيلة التعليم بيوم دراسي دعت له سياسية ليبرالية (نبيلة منيب) في قبة البرلمان (09-01-2024)، حيث نافح الناطقون باسم تلك الفئات عن مطالبها المفرِّقة. وشاهدنا – للأسف- ممثلي شغيلةٍ زعزع حراكُهم دولةً بكاملها يستجدون سياسيةً برجوازيةً لا حول لها ولا قوة كي تتدخل لدى الدولة قصد الاستجابة للمطالب! عندما يدعي ساسة ليبراليون برجوازيون (وحتى رجعيون) مناصرة نضال الشغيلة، فلا يعني ذلك أنهم تخلوا عن أجنداتهم المتفقة مع ما تقوم به الدولة، إنما يعني أن الطبقة العاملة – رغم نعيها المتكرر- لا يزال من الصعب تجاوزها، وتشكل بالنسبة إلى أولئك الساسة البرجوازيين خزانا انتخابيا يجب تملقه عندما تقوم على قدميها الجبارتين، ودغدغتها بالأوهام عندما ترجع إلى حظيرة الطاعة.
ظهرت تشنجات واحتكاكات، بعضها مُدان. ففي مسيرة 5 أكتوبر 2023 تعرض موكب النقابة الوطنية للتعليم – CDT للمضايقة والطرد من المسيرة. ستبلغ التشنجات والاحتكاكات والتلاسن الغريب عن الحركة العمالية ذروتها بعد توقف الحراك. وشاركت جميع أطراف قيادات الحراك في هذا. تعرضت قيادة جامعة التوجه الديمقراطي لهجوم عنيف بسبب التحاقها بالحوار، بلغ التحامل والانحطاط بالكلام مستوى القذف وتعابير الاستهزاء والتحقير، والعنف اللفظي وحتى التخوين. ومن جهتهم تقدم أنصار بيروقراطيات النقابات لتحميل كل طرف نقابي مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع. وفي نفس الوقت السعي إلى تصفية الحساب مع تجربة «التنسيقية الموحِّدة»، خصوصا من طرف أنصار قيادة جامعة التوجه الديمقراطي. لقد شكلت التنسيقية الموحِّدة تحديا حقيقيا للبيروقراطيات النقابية، إذ أثبتت بالتجربة إمكان الاستغناء عنها، بل وضررها. لذلك انبرى أنصار البيروقراطيات إلى تسفيهها وتحميلها مسؤولية ما آل إليه الحراك، وذلك لتأديب الشغيلة سياسيا كي لا تعاود الكرَّة في القادم من النضالات.
كان هذا الانقسام إحدى تلك الحفر التي سيتعثر فيها جواد حراك التعليم الأخير. ففي الوقت الذي كان فيه أعداء الشغيلة (الدولة) متحدين وذوي تصميم؛ كان الشغيلة منقسمين ومتشظيي الإرادة.
أنشأت الطبقة العاملة نقاباتها للنضال ضد ما يشكل عُصب النظام الاجتماعي الحالي الذي يضطهدها: «التنافس». فالنظام الاقتصادي وما ينتج عنه من بطالة وبؤس يزرع في صفوف الطبقة العاملة التنافسَ من أجل الحصول على منصب شغل/ استغلال، وهذا التنافس هو ما يمنح للبرجوازيين ودولتهم إمكان تخفيض الأجور وتشديد شروط الاستغلال. انتقل التنافس من صفوف الشغيلة ليشمل أيضا تلك التنظيمات التي أنشأوها للقضاء على ذلك التنافس. وكان شعاره طيلة السنوات الأخيرة هو «فخر الانتماء».
بلغ عمق الفئوية أن النقابات التعليمية ذاتها أصبحت تجميعا لسكرتاريات الفئات التعليمية، وملفاتُها المطلبية تجميعا لملفات تلك الفئات. وأصبح المنطق الفئوي يتحكم في التكتيك النقابي ذاته. ففي وجه مطالبة حملة رسالة «ليس باسمنا» بالانسحاب من اللجنة التقنية لصياغة النظام الأساسي، برر عبد الرزاق الإدريسي رفضه بقول: «كان يمكن ضرب الطاولة ورفض التوقيع، وهذا أمر كان واردا، خاصة وأنه موجود داخل قيادات الجامعة، لكن لدينا مسؤولية ولدينا ملفات عديدة مهمة للمنظومة التعليمية وتحتاج لحل». لقد أصبحت القيادة أداة واعية في يد الفئات، وفي نفس الوقت تستعمل القيادة النقابية مطالب الفئات لتبرير استراتيجيتها في التعاون الطبقي مع الدولة. بهذا تلخص القيادة العمل النقابي في القطاع في مسايرة لمنطق الفئات ودفاعها عنها كمحام، ومبرر ذلك هو وزن تلك الفئات في تحصين صفة الأكثر تمثيلية في الانتخابات المهنية.
تجلى أشد أوجه هذا النزوع الفئوي قتامة في واقع أن المدارس العمومية تضم عاملين- ات تحت غطاء شركات المناولة (عمال وعاملات الحراسة والنظافة والإيواء والنقل المدرسي) وآخرين- ات مع جمعيات (مربيات التعليم الأولي وأوراش)، فضلا عن قطاع واسع من شغيلة مدارس التعليم الخصوصي. لم يتمكن الحراك من التوسع ليشمل هذه الفئات من الشغيلة، ولا قامت أي قيادة نقابية أو تنسيقيات بطرح مطالبهم- هن (سواء أثناء النضال أو التفاوض). إن هذه الفئات جزء من الشغيلة، ولكن أوضاعها المهنية الصعبة (الهشاشة والمرونة المفرطتين) لا تساعدها على التنظيم النقابي والنضال، لذلك كان لحظة الحراك فرصة لمد التنظيم النقابي ليشلمها، وهو ما لم يحدث.
يرسخ عدم الاهتمام بأوضاع هذه الفئات من شغيلة التعليم التمايزَ بين فئات تشتغل مع الدولة (النظاميين- ات مع الوزارة، والمفروض عليهم- هن التعاقد مع الأكاديميات الجهوية)، وأخرى تشتغل مع القطاع الخاص (شغيلة التعليم الخصوصي والتربية غير النظامية والحراسة والإطعام والإيواء والنقل المدرسي). ويؤدي عدم الاهتمام بتنظيم شغيلة التعليم الخصوصي إلى اقتصار الإضرابات على التعليم العمومي، وبالتالي إظهار التعليم الخصوصي كقطاع ذو فعالية وأكثر قدرة على ضمان الاستمرارية البيداغوجية، ولكنها استمرارية قائمة على طحن عشرات آلاف المشتغلين دون التمتع حتى بأدنى الحقوق التي يقرها قانون الشغل. كما يتيح للدولة إمكان استعمال هذه الفئات ككاسري إضرابات، وهذا ما حدث عندما استعانت الدولة بمدرسي القطاع الخصوصي لحراسة اختبارات التوظيف مع الأكاديميات الجهوية، اختبارات أعلنت مكونات الحراك مقاطعتها.
اقرأ أيضا