نواقص رؤية لحراك 20 فبراير منتسبة إلى الماركسية نقاش مع الرفيق عبد الغني القباج
بقلم، محمود جديد
أضاف الرفيق عبد الغني القباج إلى مكتبة اليسار المناضل إسهاما بعنوان «حركة 20 فبراير- اليسار الراديكالي وأوهام الديمقراطية في المغرب»[2023 ، مطابع الرباط نت]. وفي حدود علمنا هذا أول كتاب في الوسط اليساري المغربي يروم النظر إلى تجربة 20 فبراير من زاوية ماركسية.
الكتاب قسمان، زهاء ثلثه الأول تناول «حركة 20 فبراير»، والثلثان الآخران الوضع العالمي والواقع السياسي بالمغرب. ولأن الكاتب يتوخى تناول الأمرين من وجهة نظر ماركسية، لا يسع المناضلين/ات المنتسبين إلى قضية تحرر الطبقة العاملة إلا أن يرحبوا باجتهاد الرفيق القباج، لا سيما أن التناول السطحي، وحتى التافه، هو المهيمن فيما يروج من كتابات «مراكز بحث» و»منابر أكاديمية» وبأقلام «مختصين» في الحركات الاجتماعية وفي ّ»الانتقال الديمقراطي».
وجلي أن نقص الإلمام (وحتى الاهتمام) ماركسيا بطبيعة موجة نضالات العامين 2011-2012 ودلالتها إنما يعبر عن إحدى جوانب قصور مجمل اليسار الرافع لواء هذه النظرية الثورية.
ولهذا بالذات، يجب مناقشة وجهة نظر الرفيق القباج، لا سيما أن حراك 20 فبراير تجربة نضال سياسي فريدة في تاريخ المغرب، تستدعي استخلاص دروسها للقادم من كفاحات لا ريب في حتميته بالنظر إلى أن حراك 20 فبراير لم يحقق أهدافه، بل ترسخ الاستبداد واستقر نظام الاستغلال والاضطهاد.
سنقتصر ها هنا على ما يخص هذا الحراك، على أمل شمول النقاش الجانب الثاني من الكتاب في فرصة مقبلة.
نعتمد فيما نبدي هنا من آراء تسمية حراك 20 فبراير، عوض حركة. فالحركة بمعنى الكلمة الدقيق تقتضي رؤية سياسية موحدة واضحة، وشكل تنظيم مضبوط. والحال أن سيرورة 20 فبراير افتقدت الخاصيتين معا، وهو ما سجله الرفيق القباج وألح عليه مرارا في كتابه. وبالتالي ينطبق عليها، بما هي دينامية نضالية متنوعة سياسيا وناقصة التنظيم، تسمية الحراك.
وإذ نتفق مع الرفيق القباج في العديد من أوجه تشخيصه لحراك 20 فبراير، سنسعى إلى تدقيق أوجه الخلاف من جهة، وإضافة ما نراه مكملا لبعض جوانب توصيف الرفيق.
أي زاوية نظر لفهم إخفاق 20 فبراير؟
ما درج الإعلام على تسميته حركة 20 فبراير هو الدعوة إلى التظاهر في هذا اليوم وما أطلقته من دينامية احتجاج أسبوعي بمسيرات، من أجل مطالب يتقدمها ما هو سياسي: إسقاط الاستبداد والفساد. أطراف دفعت نحو هدف التغيير بشعار الملكية البرلمانية، وأخرى بمطلب الدستور الديمقراطي، وحتى بمجلس تأسيسي. بدأ بمبادرة جماعات شباب دعت إلى الخروج إلى الشارع، ثم انضوت تحت لوائه مجمل القوى السياسية الساعية إلى إحداث تغيير سياسي، منها الإصلاحي ومنها الثوري. ولم يكن بتاتا هذا الحراك ذو الطابع السياسي الجلي الحراك الوحيد الصاعد بتأثير السيرورة الثورية وسقوط عدد من رؤوس الديكتاتورية بالمنطقة الناطقة بالعربية.
فقد شهد المغرب ديناميات نضالية متعددة موازية لحراك 20 فبراير، مدفوعة بمطالب اجتماعية أساسا عبأت جماهير كادحة بالمدن وبالعالم القروي. لم تكن الجماهير المنخرطة فيها أقل عددا من أعداد المشاركين في مسيرات 20 فبراير الأسبوعية، لكنها كانت أقل تسيسا بالمعنى الدقيق للكلمة، أي أنها لا تطرح مطالب أو شعارات ذات صلة بمسألة السلطة.
لعل الأهم ضمن هذه الحراكات الدينامية النضالية بمدن صغيرة في محيط قروي مهمل. كانت هذه الدينامية قائمة متصاعدة منذ النصف الثاني من التسعينات. حفزها بقوة ما كرسته الجمعية الوطنية للمعطلين من أشكال احتجاج بالشارع. نشير منها، مثالا لا حصرا، إلى بؤر احتجاج اقليم ازيلال (ايت بلال، ايتزر…) وايملشيل، ومسيرة المطالبة بخدمات صحية جيدة ومجانية في زاكورة عام 2000. والتعبئة الشعبية في طاطا في العام 2005 بطالب اجتماعية بمقدمتها الصحة. وحراك ايفني بمطالب مشابهة في العام 2005، وثم في 2008، وتنسيقيات مناهضة الغلاء في 2006-2007، وصفرو في 2007. ومسيرة تنغير الضخمة في ديسمبر 2010.
في المناخ المستجد في 2011 انتشرت التعبئات الشعبية بمجمل المغرب رافعة مطالب اجتماعية، دون أن يكون لأي قوة سياسية دور محرك فيها وان شهدت انخراط مناضلي مختلف القوى السياسية والنقابية اليسارية.
وبنحو مواز، تحفزت حركة المعطلين بمختلف مكوناتها، ونشأت تعبئات شبابية عديدة بمختلف المناطق من أجل الحق في العمل، كان أشدها راديكالية في أشكال النضال، إقدام شباب مدينة اليوسفية على وقف قطار نقل الفوسفاط في يوليو 2011.
وتحركت بنحو غير مسبوق فئات من صغار الفلاحين في مناطق سقوية، مثالاها البارزان تعبئة فلاحية في إقليم السراغنة بشأن ثمن ماء السقي، وتعبئة منتجي الشمندر في سيدي بنور بصدد مشاكل العلاقة بمصنع السكر مقتني شمندر الفلاحين.
وبتداخل مع موجة الاحتجاج ذي المطالب الاجتماعية الصرف، تململت الساحة العمالية بتصاعد المطالب في مختلف قطاعات العمل، لدى الدولة وفي القطاع الخاص. كان ذلك بحفز من أجواء الاحتجاج العامة، ولم يقتصر الأمر على بنيات نقابية قائمة، بل تعداها الى بروز التنظيم النقابي في وحدات صناعية وفروع عمل لم يشهدها من قبل. بيد أن الحالة العامة التي كانت عليها الحركة النقابية المغربية، لا سيما إضعافها المستمر بمستوى البطالة المرتفع وتعميم هشاشة التشغيل، وقمع أجنة التنظيم، وبوجه خاص سيادة خط سياسي متعاون مع الدولة، لم يكن مساعدا على تطور التعبئة العمالية كما ونوعا. وما جرى عماليا عنصر مهمل في النظر السائد الى دينامية العامين 2011-2012 النضالية، بفعل تركيز الإعلام السائد، الرسمي و»المعارض» على مكون 20 فبراير السياسي، وبسبب غياب إعلام عمالي منغرس ومعبر فعلا عما يعتمل في أعماق طبقة الشغيلة.
تلكم هي أبعاد الدينامية النضالية الإجمالية التي شهدها المغرب في 2011-2012، وهي الإطار الذي يتعين أن يدرج فيه حراك 20 فبراير لإدراك خاصياته وأسباب انتفائه دون بلوغ أهدافه. وهذا بنظرنا أحد نواقص تناول الرفيق القباج لحراك 20 فبراير، بتناوله كظاهرة منبثقة من فراغ، ومعزولة عن ديناميات موازية.
فعدم تضافر مكونات الدينامية (التعبئات ذات الصبغة الاجتماعية، ومنها الشباب المعطل، وحراك 20 فبراير السياسي، والنضال العمالي…) عامل رئيسي في فهم مآل حراك 20 فبراير. فلا شك ان الشغيلة شاركوا في هذا الحراك، ومنهم النقابيون، لكنها مشاركة بلا هوية عمالية، بفعل تخلف الشغيلة السياسي، الضارب بجذوره في تاريخ البلد، وبفعل بقاء الحركة النقابية تحت هيمنة سياسية لقوى موالية صراحة للنظام (بيروقراطية الاتحاد المغربي للشغل) او معارضة برجوازية من مخلفات «الحركة الوطنية والديمقراطية» (اليسار الليبرالي، يسار خط «النضال الديمقراطي»).
ويعود عدم تضافر مكونات الدينامية النضالية تلك إلى ضعف في كل منها، حيث تفتقر التعبئات الشعبية من أجل المطالب الاجتماعية إلى بنيات تنظيمية متينة، تجلى ذلك طيلة أكثر من عقدين في هشاشة أشكال التنظيم المعتمدة حتى في التجارب الأكثر تقدما (ايفني، طاطا، صفرو، تنسيقيات مناهضة الغلاء، …)، وهو ما ميز تعبئات لاحقة مثل حراكي الريف وجرادة. وبرز هذا بجلاء في غياب الطلاب كقوة منظمة بفعل مآل اتحادهم الوطني. بينما ظل ناشطو 20 فبراير قاصرين عن إدراك ما يقتضيه إحداث تغيير سياسي فعلي، ولو إصلاحي، حيث لا تمثل الإصلاحات سوى ثمارا جانبية لنضال ثوري، وبقي معظم طليعة 20 فبراير عند وهم الضغط بالمسيرات بنحو متقطع زمنيا ومشتت جغرافيا. أما الحركة النقابية فقد شلها بالدرجة الأولى ضعفها السياسي المتمثل في هيمنة بيروقراطيات متعاونة سياسيا مع الدولة لضبط الوضع (الشراكة الاجتماعية من أجل السلم الاجتماعي).
ضعف التنظيم العمالي والشعبي هذا ناتج عن غياب نخبة متقدمة سياسيا، مسلحة فكريا وبرنامجيا، شكل من نواة منظمة، متدخلة بعمل دعاوي وتحريضي، لحفز التنظيم. وهذا ما يحيلنا على حالة اليسار الثوري بالمغرب. فلو توافر مستوى كاف من تنظيم المقاومة العمالية والشعبية لانبثقت منها طلائع مسلحة بوعي سياسي يؤهل لخوض غمار نضال سياسي جذري يروم تغييرا حقيقيا.
فالقوى التي جرت عادة خاطئة على اعتبارها قوى ديمقراطية أبانت حتى قبل دينامية 2011 بكثير قصورها عن النهوض بما يقتضيه نضال فعلي من أجل الديمقراطية. وقد وضعت هذه القوى نفسها منذ البداية خارج الدينامية النضالية لأنها أصلا لم تكن تسعى الى كفاح فعلي ضد الاستبداد وهي التي قضت عقود تلو أخرى في سعي عقيم الى التوافق معه و»تحقيق الديمقراطية» بتعاون معه. لهذا لا يفسر إخفاق حراك 20 فبراير بسلوك هذه القوى، إذ انبثق الحراك، بالكيفية التي تجسد بها، بالضبط لأن تلك القوى مناهضة لنضال فعلي من أجل الديمقراطية.
في فقرة بعنوان «إجهاض حركة 20 فبراير ،التاريخ لا يرحم»(صفحة47) عزا الرفيق القباج إخفاق حراك فبراير إلى موقف تلك القوى المسماة زورا «وطنية ديمقراطية» بقول:»لم تنجح حركة 20 فبراير في نقل الديمقراطية الى المغرب بالنظر إلى كون قيادات أحزاب سياسية ونقابات تدعي «اليسارية» و «الديمقراطية» (الاتحاد الاشتراكي والتقدم و الاشتراكية والمؤتمر الوطني الاتحادي والكونفدرالية الديمقراطية للشغل الاتحاد المغربي للشغل) لم تمتلك الممارسة النضالية التي تطلبها مرحلة بداية نهوض الحركة الديمقراطية الجماهيرية (من 20 فبراير إلى 25 نوفمبر)، ولا الشجاعة والجرأة السياسية الضرورية للمساهمة بقوة في حركة 20 فبراير … بل انخرطت في خطة النظام السياسي…»
تاريخ ممارسة تلك القوى يبعدها كل البعد عن اي دور في حراك 20 فبراير، بل هي وإن ادعت لفظيا مناصراه، تخشاه، وبالتالي سارعت إلى نجدة النظام باستعمال سطوتها على القسم المنظم من الطبقة العاملة. فمهندسو سياسة النظام المدركون، بحس طبقي فائق، لخطورة انخراط الطبقة العاملة في الدينامية النضالية بادروا اول ما بادروا ليس الى «تنازلات» لمطالب حراك 20 فبراير – خطاب 9 مارس- بل إلى مجالسة القيادات النقابية اسبوعا بعد مسيرات 20 فبراير، مستنجدين بها لتحييد الشغيلة عن المعركة السياسية المنطلقة. كان ذلك باستقبال المعتصم مستشار الملك للقيادات النقابية وما ترتب من تنازلات خبزية غير مسبوقة.
كان موقف القوى السياسية المسيطرة في النقابات العمالية نابعا من اقتناع سياسي، وليس نقصا في الشجاعة والجرأة كما يعتقد الرفيق القباج. فهي قوى مع النظام، وإن ضغطت عليه بين حين وآخر بقصد توسيع ما يترك لها من هامش «ديمقراطي». وقد عبرت قيادية في الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بجلاء عن حقيقة الموقف بقول: «لو لم تكن لدينا روح المواطنة لكنا يوم 20 فبراير خرجنا إلى الشارع مع المحتجين، لكننا على العكس من ذلك جلسنا كنقابات على طاولة الحوار ووقعنا اتفاق 26 ابريل 2011» (حوار ثورية الحرش بقناة ميدي 1 -23/10/2014).
هذه القوى السياسية معارضة برجوازية ينبع موقفها من حراك 20 فبراير من طبيعتها الطبقية. يسار الحركة الوطنية –الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وخلفاؤه- قوة سياسية شعبوية تحول معظمها الى حزب برجوازي البرنامج، ناقص النزعة الديمقراطية – ليبرالي بالتوصيف السياسي اللينيني. حزب يرى في الميثاق مع الملكية، وليس في النضال الطبقي، سبيل الديمقراطية، ولا يتخطى مشروع إطار الرأسمالية التابعة. وهذا خط ترمز اليه شخصية عبد الرحيم بوعبيد الذي قاد الاتحاد في فترة اكتماله كحزب برجوازي واضح المعالم. أما حزب التقدم الاشتراكية فقد مُسخ بالتدريج إلى حزب من نفس الطينة وأسوأ. وما تبقى من مكونات متحدرة من «الحركة الوطنية الديمقراطية»، فلا يختلف جوهريا عن الرافد الاصلي، ولا تسعي فيدرالية اليسار ذاتها سوى الى تكرار تجربة الخط البوعبيدي في سياق أسوأ.
لا مجال والحالة هذه لعزو إخفاق حراك 20 فبراير إلى موقف قوى لا يمكن إلا ان تعادي كل نضال من اجل ديمقراطية فعلية تستأصل الاستبداد.
ولا مجال أكثر من ذلك لانتظار دور لتلك القوى، المضادة للثورة، في اي نضال فعلي من اجل الديمقراطية وحل المسألة الاجتماعية. وغير هذا وهم ما زال يراود الرفيق القباج الذي أورد في حديثه عن ضرورة جبهة ديمقراطية واسعة ما يلي:
«إن الواقع الذي أعقب أفول حركة 20 فبراير يفرض على القوى الديمقراطية واليسارية الحقيقية ضرورة فك ارتباطها مع النظام المخزني التبعي وبلورة جبهة ديمقراطية كبيرة لها مشروع سياسي ديمقراطي… « (ص 49 بالكتاب).
كل التجربة التاريخية لهذا اليسار تنطق بطبيعته الديمقراطية الزائفة، وعدائه لديمقراطية حقيقية، فضلا عن كون رؤيته للبديل الاقتصادي الاجتماعي تندرج ضمن الرأسمالية التابعة القائمة لا بتجاوزها الثوري. واجب الديمقراطيين إزاء هذا اليسار هو توعية الشغيلة ومجمل مقهوري المغرب بحقيقته، وتنظيم قوى النضال العمالي والشعبي باستقلال عنه، وبالحاجة الى حزب شغيلة اشتراكي ثوري، كأداة تضمن الظفر بالديمقراطي وبتغيير اجتماعي حقيقي يكنس الرأسمالية التابعة.
يتبع
اقرأ أيضا