سياسة الاقتراض والتنمية المعاقة؛ المغرب في مصيدة الديون الخارجية
بقلم، سامي علام
يعد المغرب أكثر البلدان المثقلة بالديون، فهو يحتل المرتبة 17 من أصل العشرين بلدا الأكثر مديونية لدى صندوق النقد الدولي، والخامس إفريقيا سنة 2022، والثالث عربيا بعد مصر والجزائر من حيث ديونه الخارجية.
أقدمت السلطات المغربية مطلع 2024 على اقتراض من الوكالة الفرنسية للتنمية، بمبلغ 130.000.000.00 أورو، لتمويل تنزيل خارطة الطريق إصلاح التعليم 2022-2026. هذا بعد عدة قروض لدى مانحين متعددين، وكذا بعد مرور ثلاث سنوات على استهلاكه آخر خط للوقاية والسيولة، إذ نجح المغرب العام الماضي في إقناع المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي بإدراجه ضمن قائمة الدول القليلة المستفيدة من «خط الائتمان المرن»، فوافق على عقد اتفاق معه لمدة عامين في ظل خط الائتمان المرن بقيمة تعادل 3,7262 مليار وحدة حقوق سحب خاصة (نحو 5 مليار دولار أمريكي، أو ما يعادل 417% من حصة عضويته). وكان المغرب قد استفاد منذ عام 2012 من أربعة اتفاقات متتالية في ظل خط الوقاية والسيولة، بلغ قيمة كل منها نحو 3 مليار دولار أمريكي.
وجدير بالذكر أن مديونية المغرب الخارجية الإجمالية بلغت نحو 43.5 مليار دولار، وتمثل ضمنها ديون الخزينة حوالي 56.9 في المائة.
أصل الحكاية المؤلمة
في بداية ثمانينيات القرن الماضي وجد المغرب نفسه تحت كماشة الديون، عاجز عن سدادها، حيث قفزت ديونه الخارجية من 12.9% من إجمالي الناتج الداخلي في 1974 إلى 43.8% في عام 1982، وامتصت خدمة تلك الديون 36٪ من عائداته التصديرية، كما اتسع عجز الموازنة وعجز الميزان التجاري بشكل غير مسبوق ، فاعتبر صندوق النقد الدولي الذي كان المغرب من زبائنه الأوفياء هذه النسب مثيرة للقلق، وهو ما اضطره إلى إعادة جدولة ديونه الخارجية، لقاء تطبيق سياسة هيكلية، شرعت الباب أمام خوصصة المؤسسات المربحة والتقشف في الميزانيات الاجتماعية، وتخفيض الإنفاق على المرافق الاجتماعية.
يأتي البنك العالمي على رأس مُقرضي البلد بحوالي 77.6 مليار درهم، ويمول حاليا أزيد من 23 مشروعا بالمغرب، ويليه البنك الإفريقي للتنمية بحوالي 44 مليار درهم. مما يمنحهما الأولوية في إملاء ومتابعة تنفيذ سياساتهما النيوليبرالية، بما يخدم مصالح الدائنين والدول الإمبريالية والرأسمال الكبير، إلى جانبهما صندوق النقد الدولي وصندوق النقد العربي والبنك الأوروبي للاستثمار، والاتحاد الأوروبي وبنك التنمية الألماني وغيرها، إضافة إلى القروض الثنائية.
أوصلت تلك السياسة الاقتصادية البلد لحافة الإفلاس، وعوض إعادة النظر فيها واصلت الدولة الاقتراض من الخارج، ونوعت مصادره، سواء الثنائية (مع دولة أو مؤسسة بنكية أجنبيتين) أو المتعددة الأطراف(الاتحاد الأوربي وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي والبنك الإفريقي للتنمية…)، والتجأت حتى للاقتراض من مستثمرين داخل البلد (القروض الداخلية)، حيث شكلت الديون الداخلية نسبة كبيرة ضمن إجمالي دينه العام، مبررة ذلك بالرغبة في تحقيق تنمية مزعومة، سترد على البلد موارد تمكنه من أداء ما بذمته وتحقيق تنمية مستدامة.
لكن الواقع أن تلك القروض إلى جانب مساهمتها في استنزاف ثروات البلد وتدمير بيئته، رهنت التنمية بالبلد، فأصبحت المؤسسات الأجنبية تفرض إملاءاتها، مما مس حتى بأبسط قواعد الديمقراطية، التي تفترض أن تكون المؤسسات الوطنية هي التي تقرر السياسات المتبعة بالبلد، فالعكس هو الحاصل. وللخروج من هذا المأزق عمل النظام بشكل استبدادي على دسترة نمط الاقتصاد الليبرالي والإصلاحات الماكرواقتصادية في دستوره الممنوح لسنة2011. وتتحمل الطبقات الشعبية أعباء تلك الديون عبر تخفيض النفقات الاجتماعية، كما رهنت حتى حقوق الأجيال اللاحقة، بتدمير الموارد.
الديون المغربية كرة تلج ما فتئت تتضخم وترهق اقتصاد البلد
ازدادت الديون العمومية (الخارجية والداخلية) ب 15.4 نقطة مئوية ما بين 2013 و2022، ومثلت المديونية العمومية للمغرب سنة 2021، بالمجمل 93%من الناتج الداخلي الخام بعد أن بلغت 96 بالمائة سنة 2020. وامتصت خدمة الديون العمومية 173 مليار درهم سنويا كمعدل في السنوات الثلاثة الأخيرة، أي ما يعادل 9 مرات ميزانية الصحة. ولولا تعبئة الدولة أتناء جائحة كورونا لموارد أخرى كالهبات ومساهمات الشركات والموظفين والمواطنين وضخها في صندوق مكافحة جائحة كورونا، لتضخمت المديونية بشكل أكبر مما هي عليه.
تتبنى الدولة سياسة استباقية لتدبير المديونية، عبر الحصول على خطوط ائتمان”خط الوقاية والسيولة” لاستعمالها عند الحاجة، كما حصل سنة 2012، ولم يستعمل سوى سنة 2020 حيث جرى استخدامه لمواجهة تداعيات الأزمة الناتجة عن فيروس كورونا. ولم يكد المغرب يخرج من “اللائحة الرمادية”، التي صنفته فيها مجموعة العمل المالي، التي تضم الدول التي تعاني قصورا في أنظمة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار التسلح، حتى هرول مجددا صوب الاقتراض، فأصدر سندات اقتراض دولية بقيمة 2.5 مليار دولار، وحصل لدى صندوق النقد الدولي، على”خط ائتمان مرن” بـ 5 مليار دولار على مدى سنتين لاستعماله كخط وقائي لمواجهة صدمات محتملة.
الحصول على خط ائتمان يعني في المقام الأول ترقب واستشعار الأزمة من قبل حكام البلد، حيث لن يكون حينها بمقدورهم أخذ قروض إضافية، فيلجؤون إلى أخذها قبلا، مع ما يعنيه ذلك من أداء خدمة الدين، سواء تمت الاستفادة منه فعليا أم لا، إنها مقامرة الحكام بثروات البلاد ومقدراتها.
أقرت وزارة الاقتصاد والمالية في مشروع قانون المالية لسنة 2024، أن حجم دين الخزينة بلغ حوالي 1010 مليار درهم في يونيو 2023 مقابل 951,8 مليار درهم نهاية 2022، مرتفعا بما قدره قدرها 58,2 مليار درهم، بنسبة ارتفاع بلغت 6,1٪ مقارنة بنهاية عام 2022. وبلغ حجم الدين الخارجي منه 244,8 مليار درهم نهاية شهر يونيو 2023، مرتفعا ب 15,9 مليار درهم، أي بنسبة بلغت 6,9٪. فيما بلغ الدين الداخلي للخزينة 765,3 مليار درهم مقابل 722,9 مليار درهم نهاية 2022، مرتفعا بما قدره 42,4 مليار درهم، أي بنسبة 5,9٪. وبلغت تحملات دين الخزينة من فوائد وعمولات حوالي 19,7 مليار درهم شهر يونيو 2023، مقابل 18,1 مليار درهم في نفس الفترة من سنة 2022.
أسباب خارجية تكرس إغراق البلد في دوامة ديون لا تنتهي
لعبت الأزمة الاقتصادية العالمية منذ 2008 وجائحة كورونا ومختلف الأوضاع غير المستقرة دوليا كالحرب الروسية الأوكرانية، دورا في تعميق مديونية البلد، إذ اتجهت أسعار المواد الأولية والتي تصدرها بلدان الجنوب كالمغرب في الأسواق الدولية منحى الانخفاض، كما انخفضت كمية المنتجات الفلاحية المغربية المتجهة نحو التصدير بفعل تواتر سنوات الجفاف والمنافسة وعدم احترامها لمعايير السلامة والصحة الأوربية، وحصل الأمر نفسه مع مداخيل السياحة وتحويلات العمال المهاجرين بالخارج. فيما نفقات المواد المستوردة خاصة الطاقية منها، وكذا الفلاحية في ارتفاع، كما ارتفعت النفقات الاجتماعية الملتجأ إليها كمساحيق لمحاربة الآثار الاجتماعية للسياسات المتبعة المفروضة بفعل آلية الديون.
ترتبط قيمة الديون بالعملة الصعبة وتقلباتها في السوق العالمية الرأسمالية (الدولار والأورو)، ما يجعل أي زيادة في قيمة تلك العملات، أو أي خفض لقيمة الدرهم مقابلها، تعني مباشرة أعباء إضافية على كاهل فقراء البلد، إذ ترتفع الديون الخارجية بشكل مباشر لقاء فرق العملة، أي دون حتى أخذ ديون جديدة. كما يؤدي تخوف المانحين من عدم قدرة البلد على سداد ما بذمته، إلى ارتفاع رسوم المخاطر والتأمين على الدين، مما يجعل البلد مرهون بدفع رسوم وعمولات أكبر للحصول على قرض، ويكرس ارتفاع أسعار الفائدة ذات الأمر.
مخاطر العجز عن سداد الديون الخارجية
تكمن خصوصية الدين الخارجي في ضرورة توفر البلد المدين على رصيد كاف من العملة الصعبة لسداد أقساطه، ورصيد المغرب من هذه العملة حوالي 361 مليار درهم (ما يعادل 35.3 مليار دولار)، وتعد مداخيل الصادرات الفلاحية والمواد المعدنية الخام وتحويلات المغتربين، وإيرادات السياحة، مصدرها الأساسي، إلى جانب القروض، إنها مصادر محدودة ومتقلبة حسب الظروف.
لذلك يشدد البنك المركزي على أنه لا يجب أن تذهب القروض لتمويل نفقات التسيير، بل يفترض أن توجه للاستثمارات الجيدة، التي تتيح خلق الثروة وتسهل على الدولة سداد ديونها، من أجل عدم نقل أعبائها إلى الأجيال المقبلة، لكن مصادر العملة تلك، غالبا لا تكفي، فيسدد الدين بالدين.
ينصح صندوق النقد الدولي الدولة المغربية على توسيع القاعدة الضريبية وزيادتها تصاعديا، والمزيد من ترشيد النفقات العامة، وإنهاء الطابع العمومي للخدمات والمؤسسات العمومية بتمليكها الرأسمال المحلي والأجنبي، وتوجيه الإنتاج نحو مزيد من التصدير. أي مزيدا من الهجوم على الفئات الشعبية المفقرة أصلا. إن هذه السياسة تدفع بالبلد إلى إعلان إفلاسه إن استمر الحال عما هو عليه.
تستدين الدولة لسد عجز الميزانية، لكنها سرعان ما تجد تلك الديون وفوائدها تأكل إيرادات الدولة في الأعوام اللاحقة، ما يسبب عجزا أخر، فتضطر الدولة للاستدانة مجددا لسد العجز وتسديد جزءا من أصل الدين والفوائد التي حل أجل تسديدها. وهكذا تستدين الدولة من جديد، دون أن تستطيع الخروج من الحلقة المفرغة تلك، فتضطر في النهاية لبيع أصولها لسداد الديون المستحقة، ورغم ذلك ستضل عاجزة عن الوفاء بما في ذمتها، فقيمة تلك الأصول ستنخفض في بلد متأزم.
الحصيلة الكارثية للسياسات المستندة إلى الاقتراض
وجد الشعب المغربي نفسه في دوامة جهنمية لن تنتهي: أخذ القروض باسمه من قبل النظام الاستبدادي ولم يخصص للتنمية (وأية تنمية؟؟؟؟) منها غير جزء يسير، فيرغم سنويا على أداء قسط منها وخدماتها أضعافا مضاعفة، وهو ما يتجاوز إيرادات اقتصاد البلد، المستنزف بفعل الاستعمارين الفرنسي والاسباني سابقا، وبفعل التبعية للدول الامبريالية حاليا، بشتى الوسائل بما فيها الاقتراض.
اضطرت الحكومات المتعاقبة للاستدانة لتأدية الالتزامات السابقة، فارتفعت قيمة القرض من جديد مما جعلها تعيق تحقيق التنمية المزعومة، التي كانت مبررا للاقتراض، فترثها الأجيال الحالية للأجيال اللاحقة، فتكبر كرة الثلج كلما تدحرجت، فالديون التي حان موعد سدادها تستدعي الاستدانة من جديد، فأداؤها يتم بالاقتراض.
إذا كانت سياسة الاقتراض قد مكنت أقلية ضئيلة من الحاكمين ومن يحوم في محيطهم من كبار المستثمرين مغاربة وأجانب من الاغتناء الفاحش والاستحواذ على ثروات البلد البحرية والبرية السطحية منها والجوفية، فأصبحوا بفضلها يتنافسون على احتلال المراتب في تصنيف أثرياء العالم، فإنها لم تخلف غير حصيلة كارثية على عامة الشعب المقهور، فحدة التخلف تعمقت وتراجع تصنيف البلد وفقا لمؤشرات التنمية البشرية (مستوى التعليم والصحة والدخل الفردي) فتفوقت عليه أحيانا بلدان تعيش حروب واللاستقرار.
تردت المرافق الاجتماعية كالمدارس والمستشفيات وتدنت خدماتها الاجتماعية، واهترأت البنية التحتية كالطرق وشبكات الماء والكهرباء والواد الحار بشكل ملحوظ، وازدادت وثيرة الهجرة السرية وسط الشباب خاصة من دوي الشهادات هروبا من جحيم البطالة التي أخذت طابعا جماهيريا، كما ارتفعت مديونية الأسر، واكتوت الجماهير الشعبية بنار غلاء الأسعار وارتفاع تكاليف المعيشة.
زادت هذه السياسة من حدة التبعية للبلدان الإمبريالية، فتعمق فقدان المغرب لسيادته السياسية والاقتصادية والمالية والغذائية والبيئية والثقافية، فأصبح مرتهنا بالخارج في أبسط الأمور.
لا بديل عن النضال لفرض سياسة بديلة لإنقاذ ثروات البلد وبيئته
لن يخلص البلد من الكارثة المحدقة غير هبة شعبية وتعبئة واسعة تضع مسألة الاقتراض محط سؤال وترغم نظام الاستبداد الذي أغرق البلد في الديون على تقديم كشوفات حساب حول سياقها وأوجه صرفها، لإلغائها، واستعادة سيادتنا المفتقدة مما يسمح بإتباع سياسة اقتصادية واجتماعية بديلة رحيمة بالبيئة وفي صالح الأغلبية المفقرة. وهذا النضال لن يقوده غير طليعة واعية لأهدافها من أجل بناء مجتمع لن يستفيد من ثرواته غير خالقيها.
اقرأ أيضا