أضواء على حراك التعليم المجيد

بقلم، محمد يوسف

  • الخطوط العامة للحالة النقابيةبقطاع التعليم العمومي ما قبل فاتح أكتوبر 2023

 

يعيش قطاع التعليم هجوما ليبراليا متعدد الجبهات منذ ما يزيد عن عشرين سنة، ابتداء بتبني الوثيقة المعروفة باسم الميثاق الوطني للتربية والتكوين. وتعمق ذلك الهجوم منذ 2015 مع ما سمي بالرؤية الإستراتيجية، كانت أحد تجلياته الكبرى فرض التعاقد ثم التأسيس للتشغيل جهويا مع الأكاديميات والمصادقة على قانون إطار يحدد غايات المدرسة الجوهرية في خدمة المشروع الاقتصادي للطبقات السائدة بالمغرب.

لم يمر الهجوم دون مقاومات ضارية من قبل الشغيلة، بالخصوص الأجيال الجديدة، حيث شكلت التجربة النضالية للمتدربين والمتعاقدين تغييرا نوعيا في العناصر المناضلة وكذلك في أدواتها…فأجيال ما بعد 2015 في قطاع التعليم عاشت على إيقاع الاحتجاجات والحملات القمعية والتوقيف والاقتطاع من الأجر، والجزء الأهم من نضالها تم خارج النقابات التعليمية، حيث شكلت مسايرة القيادات النقابية التعليمية لسياسة الدولة المخربة للوظيفة العمومية، وتجليها الأكبر كان في موقف التنسيق الخماسي من معركة المتعاقدين شهر مارس 2019، عنصرا أساسيا في ابتعاد الأجيال الجديدة عن النضال تحت لواء التنظيمات التقليدية. حيث تشتت نضالات الشغيلة بين تنسيقيات متنوعة مع اكتفاء جل القيادات النقابية ببيانات الدعم والمساندة والتي تكون في أغلب الأحيان شكلية مجرد دفع للحرج.

أمام هذا التبدل، وبعد تردد نسبي، شجعت القيادات النقابية التنسيقيات، ولم تقم بتحرك نقابي يوحد نضال الشغيلة إلا لماما وبشكل فوقي، وساهمت في انتشار وهم قدرة كل فئة على انتزاع مكاسب بمفردها. وأمام فقدانها للاعتبار، اقتصرت الأدوات النقابية القائمة في أغلب الأحيان على تدبير المشاكل اليومية مع الوزارة ومصالحها الجهوية والإقليمية، وهي مشاكل مرتبطة بتكثيف الاستغلال وقلة الموظفين والاكتظاظ في الأقسام ونقص البنيات والتجهيزات.

في نفس الآن، تعمق خط الشراكة من موقع الضعف والخضوع بين النقابات التعليمية الست، والخمس لاحقا، والدولة التي بدأت تستعمل قيادات النقابات بشكل سافر كأدوات مساعدة لتمرير مشروع تفكيك الوظيفة العمومية بالتعليم. وتعمق خضوع أغلب القيادات النقابية على امتداد الفترة الممتدة من أكتوبر 2021 إلى شتنبر 2023 من خلال المشاركة في جولات “حوار” كانت البيانات الصادرة عن أطرافه تكشف خواءه، وتنذر بمقايضة قوامها تبني تلك القيادات لاستراتيجية الدولة في التعليم بما تمثله من إدخال أشكال تدبيرية مستقدمة من القطاع الخاص وفي خدمته، وما يستتبعه ذلك من إجهاز على مكاسب جوهرية لشغيلة التعليم مقابل فتات من المكاسب لا تعدو أن تكون ترضيات عبارة عن سم في عسل.

وكان توقيع اتفاق 18 يناير 2022 من طرف الخماسي النقابي حيث تعهدت بالتكتم على مجريات عمل اللجنة التقنية الخاصة بإعداد النظام الأساسي، بمثابة القشة التي قسمت ظهر ما تبقى من مصداقية محدودة لهاته القيادات لدى جزء من الشغيلة، التي خاضت نضالات متعددة نهاية عام 2022، حاولت الدولة وشركاؤها الالتفاف عليها بتوقيع اتفاق 14 يناير لسنة 2023. ذلك الاتفاق الذي فسح المجال لبروز تنسيقية الثانوي التأهيلي، ضد ما رأى شغيلته أنه نيل من هوية إطارهم وتبخيس له، مما زاد من تعميق الفئوية، رغم محاولات خجولة لتجاوزها كان أبرزها تشكيل تنسيق وطني جمع الجامعة الوطنية للتعليم – ت د  مع المفروض عليهم التعاقد والمقصيين وحاملي الشهادات وتنزيقية الزنزانة 10 …. لكنه تنسيق بقي فوقيا وحبيس هياكل جلها صدف فارغة. لقد كانت نتيجة كل تلك السيرورة السريعة المزيد من تفتيت الملف المطلبي إلى جزر متناثرة لا تعكس وحدة الشغيلة الموضوعية رغم وحدة هجوم الدولة واستهدافها للجميع.

  • الخطوط العامة لمرحلة الربع الأخير من سنة 2023

بعد مصادقة الحكومة على مشروع النظام الأساسي الجديد، تدفقت مشاعر الغضب في مواقع التواصل الاجتماعي، سرعان ما تطورت مع مطلع أكتوبر إلى نقاش في المؤسسات التعليمية ووقفات احتجاج، ليتوج ذلك بمسيرة غير مسبوقة في اليوم العالمي للمدرس 5 أكتوبر بالرباط، دعت لها أطراف متعددة من نقابات وتنسيقيات وفروع نقابية وشاركت فيها أقسام واسعة من الشغيلة الساخطة على من شارك في اتفاق 14 يناير 2023، غير أن الحكومة نشرت نظامها الأساسي بالجريدة الرسمية يوم 6 أكتوبر 2023 معلنة بذلك حربها على الشغيلة، وهو ما ردت عليه الأخيرة بنسب إضراب غير مسبوقة في تاريخ القطاع  ووقفات ونقاشات بالمؤسسات التعليمية.

بالإضافة للتنظيمات النقابية والتنسيقيات التي كانت متواجدة قبل فاتح أكتوبر، تشكلت تنسيقية موحدة حظيت بانتشار واسع وسريع بعدة مناطق وأقاليم، ونمت وتوسعت تنسيقية الثانوي التأهيلي في العديد من المناطق مع انتشار جموع عامة للمضربين والمضربات تعقد بالمؤسسات. في الآن ذاته، زاد توسع التنسيق الوطني جغرافيا دون قدرته على فرز بنية تنظيمية له على مستوى الأقاليم وبالمؤسسات التعليمية (دفع ذلك عددا مهما من منتسبي تنظيمات التنسيق الوطني إلى الانخراط على الصعيد المحلي في التنسيقية الموحدة). كما انخرط في التنسيقيات قسم واسع من مناضلي النقابات وجزء كبير من الشغيلة، كان هناك تطلع لتوحيد جهود الشغيلة بالقاعدة بينما قمم البيروقراطيات ممتنعة عن اتخاذ ما يلزم لتحقيق ذلك. كما شهدت تلك الفترة بروز الجموع العامة في العديد المؤسسات التعليمية، لكنها لم تستطيع التحول للجان إضراب محلية وإقليمية ووطنية، تدقق الملف المطلبي وأولوياته وتحين خطط النضال حسب مناورات الدولة وأجهزتها.لقد تم خنق الجموع العامة بالمؤسسات والجموع الإقليمية المنتدب اليها من المؤسسات ببعض الأقاليم وهو خنق لعبت فيه عناصر نقابية موالية للبيروقراطية وعناصر جماعة العدل والإحسان وعناصر قيادية بالتنسيقيات دورا رئيسا، حيث جرى استبدال الجموع العامة الحضورية باستبيانات بغرف واتساب متلاعب بها أعدمت كل نقاش حر. لا شك أن تلك الأطراف لعبت دورا كابحا لطاقة الشغيلة المنبعثة من أسفل، بغرض التحكم في مجريات الحالة النضالية ودفعها في اتجاهات لا تخدمها، متحملة بذلك مسؤولية تاريخية جسيمة.

ساهم رباعي القيادات النقابية، الموقع على اتفاق 14 يناير 2023، في مناورة الدولة لتفتيت الإضرابات من خلال سياسة فرق تسد، وكذا عبر نزع أي طابع سياسي عن الحراك. حيث عملت الدولة من خلال أدواتها الإعلامية والبيروقراطيات النقابية المتعاونة معها، على تركيز النقاش حول الزيادة في الأجور وتغيير بعض مواد النظام الأساسي والابتعاد عن جوهر المسألة، أي تفكيك الوظيفة العمومية بقطاع التعليم والإجهاز على ما تبقى من مجانيةالتعليم العمومي بالتبعية.

كان حوار الرباعي النقابي مع الوزارة يتم على قاعدة جدول أعمال حددت سقفه الدولة. وسعى الرباعي لفرض مخرجات ذاك “الحوار” على قاعدة مضربة بشكل جماهيري وهو ما حوله إلى كاسر إضراب بشكل سافر بعد اتفاق 10 دجنبر 2023.

بعد رفض اتفاق 10 دجنبر بشكل كبير وسط الشغيلة، ناورت الدولة لجر قيادة الجامعة الوطنية للتعليم-التوجه الديمقراطي للعب نفس دور الرباعي وخاصة أن الأولى نالت تعاطف الشغيلة نظرا لموقفها من اتفاق 14 يناير وتواجد عدد من مناضليها بشكل نشط وسط الحراك. هذا الجر تم ابتداء من 10 دجنبر، لكن تيقظ القواعد عرقله.  لكن القيادة، أي المكتب الوطني، حسمت أمرها وارتمت في أحضان الوزارة يوم الجمعة 22 دجنبر مصدرة قرارها بتعليق الاحتجاجات مما سدد ضرب كبيرة لجامعة التوجه الديمقراطي كنقابة تقول عن نفسها أنها ديمقراطية.فقرار التعليق لم يقرر فيه أي منخرط في النقابة ولم يتم الاتفاق عليه في التنسيق الوطني وقواعده التي تشمل قسما من المفروض عليهم التعاقد ومكونات أخرى، فما بالك بعموم الشغيلة المضربة.

تغيرت المعطيات المحيطة بالحراك التعليمي المديد، لأسباب ذاتية من قبيل استمرار التفكك بين تنظيمات الشغيلة، الذي وصل للتطاحن بين قياداتها فضلا عن ضعفها التنظيمي والسياسي، فهي في أغلبها تشجع الفئوية ولا ترى الهجوم على التعليم إلا من منظار ضيق لا يتجاوز حدود مطالبها الخاصة، ولأسباب موضوعية تمثلت في مناورات الدولة: التنازلات الطفيفة والترهيب والتشهير وضرب الفئات ببعضها. ثم إلى استهداف جزء من القاعدة المتورطة في العمل في القطاع الخاص بدون ترخيص وكذا محترفي الدروس الخصوصية، وزبائن صغار البيروقراطيين الفاسدين فيبعض المكاتب النقابية، وتحويلهم إلى كاسري إضرابات من خلال الانسحاب والترويج لتحقيق مكاسب.

  • الخطوط العريضة لآفاق مرحلة ما بعد فاتح يناير 2024

لقد كشف الحراك الكبير بالقطاع التعليم العمومي عدة أعطاب تعاني منها الحركة النقابية ومجمل الحالة النضالية بالقطاع يمكن تركيزها فيما يلي:

  • ضعف وحتى انعدام الإنتاج الأدبي النقابي المواكب لما تبثه الدولة البورجوازية ضد الشغيلة ومن ورائها مؤسسات مالية دولية، والمتاح لا يرقى لمستوى التحديات.
  • ضعف النقاش حول التضخم والغلاء والأجور والعلاقة بينهما. أضف على ذلك انعدام النقاش حول جوهر النضال: تقاسم فائض القيمة المنتجة بالبلاد بين العمل والرأسمال.
  • عمل الدولة من خلال جنودها في الإعلام بمختلف حوامله على تسفيه قادة الحراك من خلال الحوارات والنقاشات التي تديرها أو من خلال البرامج التي تنشطها المنابر التابعة أو الخاضعة لها. تجلى ذلك عند جل قادة الحراك في ضعف الإلمام بالحالة النقابية بالبلاد ومساراتها وكذا ضعف الإلمام بتجارب النضال في قطاع التعليم داخل البلاد وخارجها، بينما ساد الخطاب التضليلي لأغلب القيادات النقابية فيما يخص جوهر هجوم الدولة على الوظيفة العمومية.
  • اكتفاء الوقفات والمسيرات بالشعارات في الغالب دون القدرة على اغتنام الفرصة للتواصل مع الشغيلة حول جوهر النظام الأساسي، من خلال كلمات تلامس معظم مشاكل الشغيلة والشعب بلغة مفهومة وطبقية.
  • عدم التضامن بين القطاعات داخل نفس المركزية النقابية حول نفس المشكل، تفكيك الوظيفة العمومية وتدهور القدرة الشرائية للغالبية من الشعب العامل.
  • مشاركة واسعة للنساء في الاحتجاجات دون انعكاس ذلك في البنية القيادية للإضراب التعليمي. هذه المشاركة تكشف المعاناة الكبيرة من فرط الاستغلال الذي يجعل يوم عملهن طويلا ويمتد من البيت إلى الفصول الدراسية.

أوقفت الدولة مئات المضربين عن العمل، بعد أن ضمنت اتفاق القيادات النقابية معها، هذه القيادات التي حاولت استغلال التوقيفات لإيجاد دور متجدد لها كوسيط معتمد. لقد اختارت الدولة لحظة التوقيفات بعناية استنادا على خبرة طبقية مديدة، إنها لحظة استنزاف الحراك التعليمي ووصوله لمحطة لم يعد فيها قادرا على مواجهة المناورات والأحابيل بفعل ضعف عامله الذاتي.

لم يتم وضع الحراك الطويل للتعليم في قلب النقاش المجتمعي، رغم الاهتمام الواسع به في الأوساط الشعبية، وهو تجل لضعف المنظور الطبقي للموضوع وطغيان الخطاب الليبرالي، هذا الطغيان هو نتاج عدم وجود منظمة نقابية عمالية ذات تطلع تحرري من الرأسمال وكذا عدم وجود حزب عمالي اشتراكي معادي للرأسمالية ويسعى لإنهاء نظام الاستغلال والقهر الطبقي.

إن عدم وجود منظمات نضال عمالية طبقية متحررة من الهيمنة الإيديولوجية والسياسية للبورجوازية جعل نجاح الحراك من حيث الحجم والنوع لا يفضي للنتائج المرجوة، بل جعله يهزم سياسيا بسبب طبيعة الرؤية القائدة له، رؤية تقع تحت سقف الحفاظ على منظومة الاستغلال الرأسمالي وسعي للاندماج فيها.

سيكون من الصعب توقع تطورات الوضع النقابي بقطاع التعليم بعد الحراك غير المسبوق، فهذاالأخير لم ينجح في انتزاع أهم مكاسبه ألا وهو الحفاظ على الوظيفة العمومية من خلال إدماج المفروض عليهم-ن التعاقد، بينما الدولة رغم نجاحها في تمرير التوظيف الجهوي والترقية على طريقة المقاولات الرأسمالية بالمردودية وما تسميه مدرسة الريادة، اضطرت لتقديم تنازلات مادية تحت ضغط تحرك نضالي غير مسبوق.

إن التنازلات المادية المحققة بالنضال، يمكن أن تلعب دورا متناقضا، فمن جهة يمكن أن تعزز ثقة الشغيلة في جدوى النضال وضرورته، مثلما يمكن أن تكون وسيلة لزرع الإحباط في صفوفها. ويتوقف ذلك على عمل الجزء الأكثر وعيا، الذين تقع عليهم مهمة تقييم الحراك من زاوية المصالح الكلية للشغيلة، مع إبراز الأوجه المشرقة فيه، التي بينت خلاصة مجربة سابقا: طاقة كفاح الشغيلة موجودة دائما في وضعية كمون، إنها مرجل يغلي تحت رماد الاستغلال وأبخرة المستفيدين من استمراره من بيروقراطية نقابية وقوى سياسية بورجوازية، وحالما تتوفر كوة ما يتدفق النضال كما تتدفق مياه سد عبر شقوقه. لكن التقييم يجب أن يتوقف طويلا عند أزمة عاملنا الذاتي: أزمة العمل النقابي وكيفيات حلها، وأزمة مشروع تجاوز نظام الاستغلال نحو بديل له وكيف نشق الطريق بالاستناد على النضالات المشتتة الحالية.

سيكون تطور النقاش في صفوف الشغيلة الشباب، داخل تنسيقية التعاقد المفروض وفي صفوف من مر من تجربة المتدربين وشباب باقي التنسيقيات وداخل النقابات بين كل الساخطين على تدبير القيادات للمعركة دورا حاسما في تشكل وعي جديد في شغيلة القطاع.

الجمرة لازالت متقدة، وستنفخ فيها إجراءات الدولة القادمة بمرافقة شركاءها، سواء في القطاع أو ضد عموم الأجراء، بغية إطفاءها، فليعمل أنصار النضال على النفخ فيها بالشكل الذي يجعلها أكثر اتقادا.

شارك المقالة

اقرأ أيضا