حراك شغيلة التعليم 2023: تقييم ودروس للمستقبل

بقلم؛ شادية الشريف

بدءً من أكتوبر 2023 انطلقت أكبر موجة نضال عمالي شهدها تاريخ المغرب. استمرت تلك الموجة حتى الأسبوع الأول من يناير 2024، حيث تفككت تحت التنازلات الجزئية للدولة وضرباتها العقابية (الإدارية بوجه الخصوص)، وتعاون كل القيادات النقابية معها من أجل إطفاء هذه الموجة القادمة أعماق المجتمع.

بعد مرور أكثر من 3 أشهر على انطفاء تلك الموجة النضالية العظيمة، تُطرح على عاتق المناضلين- ات العماليين- ات مهمةُ تقييمها واستنتاج دروسها. فبعد انتهاء موجة نضال تكون المهمة الرئيسية هي استنتاج دروسها والإعداد البرنامجي والتنظيمي لانطلاق موجة أخرى. هذه المهمة التي لم يتصدَّ لها لحدود الساعة أي طرف نقابي أو يساري.

أولا- سياق انطلاق الحراك

للسياق دوره الحاكم. فلا يمكن تفسير مآلات النضالات بمجرياتها فحسب، بل لا بد من استحضار السياق وموازين قواه.

شهد قطاع التعليم تحولا جذريا في بنية قواه العاملة. منذ 2016 أُغرق القطاع بأجيال شابة جرى توظيفها بصيغ مرنة من التوظيف؛ أُطلِق عليها بداية “توظيفا بموجب عقود”، وبعد ذلك “توظيفا جهويا”. هذه الأجيال الشابة نشأت في سياق تفكك الحركة النقابية التقليدية واندماج قممها شبه الكلي في الدولة وقبولها التام باستراتيجية رأس المال: تدبير المسألة الاجتماعية بما يخدم تراكم رأس المال في طوره الجديد، المسمى نموذجا تنموي جديدا. وهو ما حكم على الحركة النقابية في قطاع التعليم بالتفرج على موجات نضال الأجيال الجديدة دون الإقدام على أبسط واجبات النقابة تجاهها، بل أسهمت إلى جانب الدولة في إطفاء نضالاتها، وهو ما عمق أزمة الحركة النقابية.

تصدت هذه الأجيال الشابة للمهمة التي تخلت عنها تلك القيادات النقابية: الدفاع عن شروط عمل شغيلة القطاع. وانطلقت موجة أولى مع فوج الأساتذة- ات المتدربين- ات (2015- 2016). لكن الموجة الأكثر توسعا وقتالية ابتدأت بعد عامين من فرض التوظيف بموجب عقود. انطلق نضال أساتذة- ات التعاقد المفروض سنة 2018، ردا على طرد أستاذين. وبعد ذلك توسعت للمطالبة بتوظيفهم- هن بنفس طريقة طريقة الأفواج السابقة: الإدماج في أسلاك الوظيفة العمومية.

تمكنت الدولة من إطفاء تلك الموجة، ليس فقط عبر القمع (وكان شرسا أسفر عن مقتل الشهيد حجيلي) ولا عبر التنازلات (وكانت مهمة ومفروضة بالنضال: مطابقة الأوضاع الإدارية لهذه الأفواج مع سابقتها)، ولكن أيضا بتعاون مكشوف من طرف كل القيادات النقابية التي تدخلت عبر آلية “الوساطة”، لرد الموجة الإضرابية الممتدة التي شهدتها سنة 2019 (مارس- أبريل).

سياسيا، تميز الوضع باستمرار الملكية في تدبير القنبلة الاجتماعية (خصوصا إثر رد حراك الريف على أعقابه)، عبر تنويع طاقم واجهتها الحكومية. فبعد إلحاق هزيمة انتخابية ساحقة بحزب العدالة والتنمية الذي أشرف على تنفيذ الهجمات وضمنها التوظيف بموجب عقود، جاءت الملكية بحزب التجمع الوطني للأحرار، الذي استمر في تطبيق نفس السياسات والهجمات، بتعاون مستمر من طرف القيادات النقابية، التي وقعت “اتفاقا اجتماعيا” في 30 أبريل 2022، تضمن فتاتا (زيادات في الأجور) مقابل تنازل عن جوهر العمل النقابي والتزام قيادات المركزيات بالبصم على هجمات شرسة ستلحق الطبقة العاملة (إصلاح مدونة الشغل، قانون الإضراب، تخريب التقاعد) وانضباطا للسلم الاجتماعي سُميَّ “حرصا على العلاقات المهنية السليمة داخل المقاولة”.

عرف قطاع التعليم نفس المسار. وقعت القيادات النقابية الخمس الأكثر تمثيلية اتفاقا مرحليا مع الوزارة بتاريخ 18 يناير 2022، التزمت من خلاله بالتعاون (ما يسمى شراكة اجتماعية) مع الوزارة من أجل إصدار نظام أساسي جديد ينظم علاقات الشغل بين أجراء القطاع والمشغلين الجدد فيه (الأكاديميات الجهوية) بدل الوزارة كما كان معمولا به سابقا، وفي نفس الوقت تعهدت تلك القيادات بالتزام السلم الاجتماعي وهو ما وفت به طيلة أشغال اللجنة التقنية المكلفة بصياغة ذلك النظام.

انتهت تلك الأشغال بتوقيع قيادات أربع نقابات على محضر 14 يناير 2023، وامتنعت قيادة جامعة التوجه الديمقراطي عن توقيعه بمبررات شكلية (توقيت عرضه) وأخرى متعلقة بالمضمون (عدم التزام الوزارة بتنفيذ ما اتُفِق عليه كمقابل لقبول إصدار نظام أساسي جديد: زيادات في الأجور وتسوية ملفات متعلقة بتسوية وضعيات إدارية ومالية). وقد تصادف هذا التوقيع مع إلحاق هزيمة أخرى بنضال تنسيقية التعاقد المفروض المتمثل في مقاطعة تسليم النقط[1]، وما وازاها من إجراءات عقابية (توقيفات ومجالس تأديبية).

بعد نصف عام من ذلك المحضر، صادق المجلس الحكومي في سبتمبر على النظام الأساسي الجديد لموظفي قطاع التعليم وأصدره في الجريدة الرسمية، ممثلا تلك ضربة المطرقة التي أيقظت شغيلة التعليم من انتظارية وأوهام بأن ذاك النظام الجديد حابل بتحقيق مطالب أوهمتها كل القيادات النقابية بقرب تحقيقها.

بهذا يكون حراك شغيلة التعليم أكتوبر 2023 نضالا ضد نتائج هجوم وليس استباقا لرده، فقد بُدِّدت طاقة نضالية هائلة في مناوشات جزئية وفئوية، بينما جمَّدت القيادات النقابية طاقة أقسام الشغيلة النظاميين بأوهام تحقيق المطالب عبر “الحوار القطاعي”.

ثانيا- أكتوبر 2023: مكاسب ونقاط قصور

بعد إصدار الصيغة الأولى من النظام الجديد، انطلقت الموجة النضالية بإضرابات جزئية ووقفات داخل المدارس، ودعوة إلى مسيرة 5 أكتوبر 2023. بدأ الإضراب والاحتجاج مثل كرة ثلج على حافة شديدة الانحدار، وبلغت أوجها في مسيرة 7 ديسمبر 2023 واستمرار الإضراب الذي ذكَّر بالإضراب البطولي لشغيلة التعاقد المفروض مارس- أبريل 2019.

  • مكاسب الحراك
  1. تنازلات مادية

معتقِدة أن القيادات النقابية ضمنت لها سلما اجتماعيا في القطاع، عولت الدولة على تمرير النظام الأساسي الجديد دون الوفاء بما التزمت به من وعود متعلقة بفتات مادي (زيادات في الأجور، وتسويات إدارية ومالية). لكن للقاعدة العمالية منطقها الخاص مهما بلغ عمق تعاون قيادات نقاباتها مع الدولة.

فوجئت القيادات النقابية الأربع ذاتها بحجم تلك الموجة، وأصدرت بيانات تتبرءُ من فعل الوزارة، مشيرة إلى أن صيغة النظام الأساسي الجديد المصادَق عليها لم تأخذ بعين الاعتبار ملاحظاتها وإغناءاتها. أما قيادة جامعة التوجه الديمقراطي التي ضيعت نصف عام محاولة الرجوع إلى “حوار قطاعي” حُرمت منه بعد امتناعها على توقيع محضر 14 يناير 2023، فقد بادرت إلى الدعوة لتأسيس تنسيق فوقي سُمي “التنسيق الوطني لقطاع التعليم”.

اضطرت الدولة تحت وقع حجم الحراك إلى التراجع خطوات إلى الوراء، بإعلان تجميد النظام الأساسي الجديد، ثم تجميده. وبعد ذلك أعلنت زيادة مهمة في الأجور؛ 1500 درهم ستنفَّذ على دفعتين فضلا عن تعويضات عن المهام، وتسوية وضعيات بعض الفئات على رأسها أساتذة- ات التعاقد المفروض، فضلا عن إسقاط بنود خاصة بالعقوبات وتعويضها بالمعمول بها في النظام الأساسي للوظيفة العمومية (1958).

تمكن أساتذة- ان التعاقد المفروض بواسطة نضال شمل كل القطاع تحقيق ما لم يستطيعوا تحقيقه طيلة خمس سنوات من نضال فئوي معزول. اضطرت الدولة إلى اعتماد آلية مركزية لتسوية أجورهم- ات من الخزينة العمومية وجرى إقرار ترسيم الأفواج السابقة دون الحاجة إلى اجتياز التأهيل المهني بوالتالي تسوية رتب ترقيتهم. وفي نفس الوقت أصبح لتوظيفهم صيغة نظامية مع الأكاديميات الجهوية، بدل الصيغة القديمة القائمة على أنظمة أساسية تفتقد إلى إطار تشريعي. لكن كل هذا لم يستجب لمطلبهم- هن الرئيس: التوظيف بالصيغة القديمة مع وزارة التربية الوطنية وليس مع الأكاديميات الجهوية. هذه أول مرة- منذ ترسيم شغيلة شركات المناولة في قطاع الفوسفاط مع المجمع الشريف إبان حراك 20 فبراير- تتمكن فيه فئة واسعة من الشغيلة على فرض مطلب “الترسيم” على مشغِّلها. وهذا مكسب مهم للنضال ذو النفس الوحدوي الذي انطلق في أكتوبر 2023، وسيشكل قاعدة مزيد المكاسب مستقبلا.

لكن يجب على الشغيلة فهم منطق التنازلات. فبعد تراجع الدولة انتشرت في صفوف الشغيلة فكرة أن الدولة “في مأزق” وأنها “مرتبكة”، وكان ذلك حافزا على الاستمرار في التصعيد. شهدنا نفس الآلية في إضراب تنسيقية التعاقد المفروض سنة 2019، وفي مقاطعتها لتسليم النقط نهاية سنة 2022.

لكن ما يجب أن نفهمه هو أن أي نظام يظهر ضعفه في أزمة كبرى يستطيع دائما أن يكيف نفسه مع مقتضيات هذه الأزمة إذا كان أعداؤه منقسمين وكان لا يهمه الثمن الذي يدفعه. وكان أسلوب التكيف ديدنَ الطبقات السائدة عندما تواجه نضالا جبارا أو ثورة: أن تتنازل ظرفيا عما هو مستحيل الاحتفاظ به مع تركيز كل قوتها على تنظيم المراكز التي ما يزال الدفاع عنها ممكنا. تنازلت الدولة عن الجزئي (الكلفة المالية) الذي يمكن استرداده عبر التضخم وتكثيف الاستغلال[2]، بينما أصرت على جوهر الهجوم: إلغاء النظام الأساسي القديم (2003) المنظم للتوظيف المركزي، وتعويضه بنظام أساسي جديد المنظِّم للتوظيف الجهوي. وكان ذلك الفتات هو جوهر التفاوض بين الوزارة وقيادات النقابات الخمس طيلة عام من اشتغال اللجنة التقنية، وكان أيضا السبب الجوهري وراء امتناع قيادة جامعة التوجه الديمقراطي توقيع محضر 14 يناير 2023، في حين افتقت القيادات الخمس مع الدولة على هدم النظام الأساسي القديم وتعويضه بنظام جديد يشرعن التوظيف الجهوي الذي يشكل وعاء تفكيك الخدمة العمومية وتسليعها وإضفاء المرونة على علاقات الشغل بالقطاع.

  1. مكاسب معنوية وسياسية

لكن الشغيلة لا يقيِّمون مكاسبهم بالدراهم المضافة إلى الأجور فقط. فمكاسب الحراك الأعظم هي سياسية ومعنوية فضلا عن التجربة المراكَمة والتي ستكون زاد نضالات المستقبل.

أكبر مكسب للحراك هو الحراك ذاته[3]. وضع هذا الحراك مجمل استراتيجية القيادات النقابية على المحك؛ تلك الاستراتيجية القائمة على التماس “الحوار”. وأثبتت قتالية الشغيلة جدوى النضال، ونقلت نفسها الكفاحي إلى قطاعات أخرى (الجماعات المحلية، الصحة…).

وفي غمار الحراك أعاد الشغيلة اكتشاف ما ردمته البيروقراطية تحت أنقاض تعاونها الطبقي مع الدولة والبرجوازية. وعلى عجل أُسِّست “التنسيقية الموحِّدة”، وكانت عبارة عن هيكل تنظيمي لتدبير الصعود النضالي انطلاقا من المدارس. لأول مرة أحس الشغيلة بأنهم ينفذون قرارات يتخذونها بأنفسهم، وليس استجابة لبيان آتٍ من علٍ، من جهاز مركزي يُعلَّقُ على سبورة نقابية. انتشرت لقاءات المدارس والجموع العامة لتشكل آلية تحكم الشغيلة في مصير نضالاتهم. وكانت بذلك التنسيقية الموحدة نقيض ما اعتادته القيادات من آساليب تفويض اتخاذ القرار إلى الأجهزة الوطنية، وهو ما حافظ عليه “التنسيق الوطني لقطاع التعليم”.

أثبت الحراك مرة أخرى، ما شهدناه في موجات حراك شعبية سابقة: حرية التظاهر تُنتَزع وتُفرَض، ولا تُطلب. شهدت مدن المغرب ومراكزه (البيضاء والرباط) تظاهرات جماهيرية، لم نشهدها منذ سنة 2011 إبان حراك 20 فبراير. وشكلت النساء جزءا مهما من تلك الحشود التي ملأت الشوارع وأبنَّ عن صمود قل نظيره.

ومن تقاليد الحركة العمالية التي أعيد اكتشافها (وإن كانت تنسيقية التعاقد المفروض سباقة إليه)، التضامن العمالي خصوصا بعد لجوء الدولة إلى إجراء التوقيف عن العمل ووقف الأجور. اعتادت القيادات النقابية ترك المسرَّحين- ات من العمل لأسباب نقابية لحال سبيلهم- ات. لكن موجة التضامن تجاه الموقوفة أجورهم- هن فاقت كل التوقعات. جرى ضمان الأجور كاملة للموقوفين- ات؛ ما أثبت أن شغيلة القطاع (كغيرهم) لا يهمهم المال، بقدر ما يهمهم الحفاظ على حس التلاحم والتضامن الذي اكتشفوه في غمرة الكفاح.

لقد كانت صفحة مجيدة ستضاف إلى صفحات أخرى سابقة لها، وستكون نبراسا للقادم من نضالات شعبنا وشغيلتنا ضد الاستبداد والرأسمالية.

يتبع

[1]https://www.almounadila.info/archives/11780.

[2] – نبه إلى هذا الكاتب الوطني لجامعة التوجه الديمقراطي: “الحكومة واعية بأنها ستمنح باليد اليمنى ما ستنزعه منك غدا باليد اليسرى. ستنمحك زيادات في الأجور والتعويضت، لكنها ستفرض زيادات في الأسعار وفي الخدمات، وبالتالي يجري إبطال مفعول هذه الزيادات بشكل أوتوماتيكي.. وبالتالي فالرابح من هذه العملية هو الرأسمال والدولة”. [07- 04- 2024؛ https://web.facebook.com/nahjcom/videos/404579435539074].

[3]https://www.almounadila.info/archives/12491.

شارك المقالة

اقرأ أيضا