«دولة فلسطين» بين تصفية القضية ومواصلة النضال
بقلم: جلبير الأشقر
9 – أبريل – 2024
إزاء انحطاط الحالة الفلسطينية إلى أسوأ مما عرفته خلال ما يزيد عن 75 عاماً من الشقاء والاضطهاد، أي منذ أن استولت الحركة الصهيونية على معظم أرض فلسطين بين البحر والنهر، مستكملة الأمر باحتلالها ما تبقى بعد أقل من عشرين عاماً، إزاء الكارثة الراهنة التي تعدّت نكبة 1948 بشاعة وفظاعة وفتكاً وتدميراً وتهجيراً، طلعت علينا «السلطة الفلسطينية» من رام الله بمبادرة من شأنها التعويض عن كافة ما تعرّض له شعب فلسطين من عذاب، ألا وهي المبادرة إلى مطالبة مجلس الأمن لدى الأمم المتحدة بالاعتراف بها، أي بسلطة رام الله، دولة عضو في المنظمة الدولية على قدم وساق مع سائر الدول الأعضاء.
هللوا، يا أهل فلسطين، فلم تذهب مشقتكم الهائلة سُدىً، بل هي في طريقها إلى إنجاب مكسب عظيم على درب «حل» قضيتكم، ذلك «الحل» (والحلّ هنا بمعنى التصفية) الذي أكد جو بايدن، شريك الحكومة الصهيونية في خوض حرب الإبادة الجماعية الجارية على أرض فلسطين، أكد منذ أولى أيام الحملة المسعورة التي انطلقت قبل ستة أشهر ونيف، أنه بات ملحاً من أجل إخماد بركان القضية الذي ما برح ينفجر لا محال بصورة متقطعة، لكن بوتيرة متسارعة خلال السنوات الأخيرة. والحقيقة أن بايدن، إثر عودته إلى البيت الأبيض رئيساً، بحث عن «إنجاز» سهل في الملف الإقليمي بالسعي وراء إلحاق المملكة السعودية بقطار «التطبيع» الذي دشّن سلفه الرئاسي دونالد ترامب سكة حديد جديدة أمامه من خلال «اتفاقيات أبراهام» بمعونة الإمارات المتحدة.
وقد أدرك بايدن أن محاولة الدفع بما يسمّى «حل الدولتين» سوف يتسبب له بمواجهة مع «صديقه العزيز» بنيامين نتنياهو، آثر تجنبها لأسباب انتهازية وبسبب ولعه بالصهيونية الذي حداه على إعلان ولائه الشخصي لها جهاراً. فتركّزت جهود إدارته على ملف «التطبيع» مهملاً ملف «الحل» إلى أن انفجر البركان من جديد من خلال العملية التي شنتها «حماس» وما لحقها من حرب إبادة لا نظير لها من حيث الجنون وكثافة التدمير منذ نصف قرن على الأقل، ليس في الشرق الأوسط وحسب، بل في العالم أجمع. فعاد موضوع «الحل» (التصفية) على البساط، وطالب الرئيس الأمريكي بإعادة «إحياء» سلطة رام الله التي ما لبثت أن انصاعت، مفسرة الإحياء على هواها، ليس استبدالاً لرأسها الهرم والفاقد لأي مشروعية من خلال انتخابات ديمقراطية، بل استبدالاً لرئيس وزرائها بآخر أقل طموحاً وبصورة لم تنطل على أحد.
وها أنهم تشجعوا على المطالبة رسمياً بمنحهم كرسيا عاديا في الأمم المتحدة، بدل القرار الوحيد الذي كان يمكن أن يشفع بهم أمام التاريخ، ألا وهو إعلان عصيان «سلطتهم» التي لا سلطة لها سوى في خدمة مرامي الاحتلال والتي تتفرج عاجزة ليس على إبادة غزة وحسب، بل على الإبادة الزاحفة في الضفة الغربية ذاتها. ولو عجزوا عن إنهاء علاقاتهم بالدولة الصهيونية، فمن الأحرى بهم أن يعلنوا حل «سلطتهم» بدل مواصلتها في المشاركة في تصفية القضية. والحال أنهم أقرب إلى الحصول على الكرسي المنشود مما في أي وقت مضى، ليس بسبب نشاطهم الدبلوماسي، بل فقط لأن منح «دولة فلسطين» عضوية كاملة في الأمم المتحدة بات أبخس السبل أمام الحكومات الغربية كي تتظاهر بالتعويض بعض الشيء عن دعمها غير المشروط لحرب الإبادة الجارية والتي طال أمدها وتفاقمت بشاعتها، وصولاً إلى حرب التجويع الراهنة.
فحتى بريطانيا بلسان وزير خارجيتها، ورئيس وزرائها السابق، أعلنت عن استعدادها للنظر في الاعتراف بدولة «السلطة» بينما بدأت دول أوروبية أخرى، منها إسبانيا تلحقها فرنسا، في الاستعداد لاعتراف مماثل. والجدير بالذكر أن الحكومة البريطانية ذاتها التي تبدي استعداداً لذلك الاعتراف، ترفض الدعوة الصادرة عن أوساط قانونية بريطانية رسمية وغير رسمية إلى وقف مدّ دولة إسرائيل بالأسلحة لما يمثله ذلك من خرق للقانون الدولي من حيث المشاركة في مسؤولية حرب تطعن بأبسط قواعد ذلك القانون بما يتعلق بخوض الحروب. لذا فإن مسعاهم إلى منح «السلطة» كرسيا عاديا في الأمم المتحدة بات من المؤكد أنه لن يصطدم بنقض فرنسي أو بريطاني، ولم يبق عالقاً سوى سؤال عمّا سوف تفعله الإدارة الأمريكية. فهي أول المطالبين بقيام «دولة فلسطينية» لكنها لا تريد أن تقطع شعرة معاوية مع نتنياهو، بل مع المؤسسة الصهيونية بمعظمها الذي يعارض مثل ذاك التحرك. كما تخشى أن يمنح موقفها دعماً لمكانة نتنياهو بإظهاره مدافعاً عنيداً عن المصلحة الصهيونية في وجه كافة الضغوطات، بما فيها ضغط الشقيق الأكبر والشريك في الجرم. وقد تلجأ إدارة بايدن مرة أخرى بجبن عميق إلى الامتناع تحت ذريعة ما.
أما المحصلة، فسوف تكون من قبيل تمخض الجبل الذي ولّد فأراً، ذلك أن منح «فلسطين» (أي ما يناهز عشرة في المئة من أراضيها التاريخية) كرسياً عادياً في الأمم المتحدة إنما هو حقاً فأرٌ، ليس إلّا، بالمقارنة مع جبل المحنة العظيمة التي اجتازها وما زال يجتازها شعب فلسطين. وأي قيمة، يا ترى، لدويلة قائمة على أراض مجزأة خاضعة لسيطرة الدولة الصهيونية الكاملة بحيث يكون لديها من السيادة ما يجعلها تحسد دويلات «بانتوستان» التي أقامها في الماضي نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا؟
أما التقدم الوحيد الذي يمكن أن ينجزه اعتراف دولي بدولة فلسطين فهو لو تضمن أول إعلان لها إثر الاعتراف بها إصراراً على وقف فوري للعدوان الجاري وفرض التعويض على الدولة الصهيونية عما اقترفته من جرائم، والإفراج عن كافة المعتقلين لديها، وانسحاب كافة قواتها وجميع مستوطنيها من كافة الأراضي التي احتلت في عام 1967، بما فيها القدس العربية، وفسح المجتمع الدولي للمجال أمام عودة من يشاء من فلسطينيي الشتات وإسكانهم في المستوطنات التي أقامها الصهاينة بعد إخلائها، مثلما أقام المستوطنون الصهاينة في المدن والقرى التي استولوا عليها إثر نكبة 1948 بعد إفراغها من سكانها الأصليين. بمثل هذا الموقف فقط يمكن لاعتراف دولي بدولة فلسطين أن يشكل محطة من محطات النضال طويل الأمد ضد الصهيونية، وليس خطوة على درب تصفية القضية.
كاتب وأكاديمي من لبنان
اقرأ أيضا