20مارس، تأسيس الاتحاد المغربي للشغل: خاتمة ثلاثية ألبير عياش
وقفت ثلاثية الفقيد ألبير عياش عن تاريخ الحركة النقابية المغربية عند ـتأسيس الاتحاد المغربي للشغل. تعريفا بهذا العمل الرائد، وتشجيعا لمناضلي ومناضلات طبقتنا على دراسته، لحفز التفكير في واقع حركتنا النقابية وجذوره التاريخية، ننشر أدناه خاتمة الثلاثية.
إلى هنا تنتهي دراستنا، التي ركزت على الطبقة العاملة المغربية والوسط الاستعماري الذي نشأت وترعرعت وتطورت فيه. إنها كانت أحدث الطبقات العمالية بشمال إفريقيا. وكانت مثلها نتاجا للاستعمار. لكن، نظرا لمنعها من العمل النقابي، كانت الأكثر استغلالا والأكثر معاناة.
إنها بحكم تشكيلها إجمالا من قرويين انتزعت منهم أراضيهم، وتعزيزها من طرف حرفيين حضريين أفلسوا، وفرت العنصر البشري الذي كان يحتاجه نمو أنشطة عصرية متعددة وشجعه تدفق الرساميل الخارجية. اشتغلت في ضيعات المعمرين، في المناجم، في الأوراش الكبرى للأشغال العمومية، وفي المدن حيث ستستقر أخيرا، نظرا لتنوع مناصب الشغل المرغوبة، والتي لا يتم الحصول عليها دائما، ولا الاحتفاظ بها إذا تم ذلك. ومع مرور السنين، تغيرت طبيعة اليد العاملة مع النشاط الممارس، والتجربة المحصلة والعادات المكتسبة.
لقي القرويون والحرفيون مساعدة من نقابيين فرنسيين، موظفين، مستخدمي المصالح العمومية، عمال أو مستخدمي القطاع الخاص، الذين كان مرخصا لهم أن يتجمعوا بنوع من التساهل في البداية، ثم بحكم القانون ابتداء من 1936، ضمن اتحاد، كفرع للكونفدرالية العامة للشغل الفرنسية. هؤلاء النقابيون، ومعظمهم يحمل بأشكال متباينة بصمة إعصار الحرب الكبرى (1914-1918)، من وسط متواضع ومكونين بالمدرسة الابتدائية، استقبلوهم وساعدوهم على الاندماج في حلقة إنتاج جديدة بالنسبة لهم وفي علاقات الشغل، رغم موانع السلطة الاستعمارية.
كان عملهم، مثل عمل أتباعهم، غداة فاصل نظام “فيشي” حيث اختفت الحياة النقابية، أكثر إصرارا. لقد أفشلوا مشروع سلطات الحماية الرامي إلى حصر الشغيلة المغاربة ضمن الإطار العتيق، التعاضدية، أو تحت إدارة “السلطة الوصية العادية”، ودربوهم على النشاط النقابي: دربوهم على التنظيم، واختيار مسؤوليهم، وتحديد مطالبهم، وتولي الدفاع عن مصالحهم. في سنة 1948، كان يضم الاتحاد العام لنقابات المغرب 60000 منخرط، الثلثين مغاربة.
كانت النقابة تقدم إطارا متقدما مقارنة مع المقاولة، حيث كان الأطر أجانب ومتعالون، مما يذكر بالفوارق، كانت إطارا تنمحي فيه الحدود، ويولد شعورا رفاقيا وتضامنيا، وبالتالي شعورا بالمساواة والكرامة.
أول من التحق بمناضلي الـ ك.ع.ش. (13) هم الشيوعيون المغاربة الذين عملوا معهم على تنظيم وتوعية يد عاملة موزعة على مجمل التراب الوطني. أما الاستقلاليون فجاؤوا فيما بعد، فرادى أو جماعات، متحدين النزعة الانعزالية لقادتهم، ثم بأعداد متنامية بعد 1949، حين شعر القادة بالسمعة المتعاظمة التي يجنيها من ذلك الشيوعيون ومناضلو الـ ك.ع.ش.
هؤلاء المناضلون الشيوعيون والاستقلاليون، كانوا في معظمهم أبناء قرويين من أوساط فقيرة أو متواضعة، وإن ازدادوا بالمدن. بعضهم كان أميا، ومعظمهم حصلوا على تعليم أولي إما في الكتاتيب القرآنية، أو في المدارس الابتدائية (المدرسة الفرنسية-الإسلامية أو مدرسة الأعيان)، أو في مدارس التكوين المهني. كان أولائك الذين أكملوا السلك الأولي وحصلوا على الشهادة الابتدائية أو على شهادة الكفاءة المهنية، يتكلمون العربية والفرنسية، و من ضمنهم كان يتم استقطاب المسؤولين النقابيين. لقد قام الشغيلة المتوفرون على شهادة الكفاءة المهنية، الذين تم استقطابهم في قطاعات صناعات السفن، والطيران، والحربية، والبحرية، أو في السكك الحديدية، قاموا بدور هام في التكوين والتأطير. وكان هناك أيضا مستخدمو مصالح السكرتارية. فيما كان مسؤولون نقابيون آخرون لا يتكلمون إلا العربية، العديد منهم تخرج من جامعة بن يوسف بمراكش، وهي جامعة أكثر شعبية وأكثر صرامة من جامعة القرويين بفاس المرموقة.
بعضهم، سواء من المعربين أم المزدوجي اللغة، الذين كانت لديهم عزيمة على المعرفة والتعلم، وسّعوا معارفهم وبلغوا مكانة من شأنها أن تلقي بظلالها على قادة الحركة الوطنية التاريخيين، المنحدرين من بورجوازية عريقة، وذوي ثقافة واسعة، الذين أهملوا الذهاب إلى طبقة عمال الصناعة الجديدة. (14)
هؤلاء المناضلون في الـ كـ.ع.ش.، فرنسيون أو مغاربة، شيوعيون، استقلاليون أم نقابيون فقط كانوا جميعهم يردون تأسيس مركزية نقابية مغربية. وكانوا يريدون نهاية الحماية وتحقيق الاستقلال. لكن بعضهم كان يعتقد أنه يجب الحفاظ على الوعي الطبقي وشحذه، حتى لا يسقط عالم الشغل في التبعية للقوى المناوئة، وهو الذي سيكون مطالبا بتقديم الجهود الأساسية. فيما كان البعض الآخر يعتبر أن انتزاع الاستقلال والحصول من أجل ذلك على دعم دولي فعال، أي دعم شغيلة العالم الغربي، ضرورة ملحة.
إلا أن القمع الذي طال الاتحاد العام لنقابات المغرب المتحدة، والحزب الشيوعي المغربي وحزب الاستقلال، بعد أحداث 1952 وما ترتب عنه من تفكيك لتنظيماتهم وكوادرهم، وضع حدا لهذا النقاش. ثم استؤنف الصراع في سنة 1955 وانتهى بالمصالحة بين الطرفين.
والآن يعود إلى الذهن السؤال الذي طرح في بداية هذه الدراسة، أي في الجزء الأول، صفحة 305؛ “هل العلاقات بين شغيلة من مختلف الجنسيات والظروف ستكون لها نفس طبيعة العلاقات التي أقامها الاحتلال بين الأسياد والمسودين؟”. والجواب بالطبع بالنفي. إلى حدود 1938، كان الحماس المرتبط بالدفاع عن الجماهير العمالية المغربية يتخذ طابعا بعثيا (نسبة للبعثات المسيحية)، لم يخلو من الأبوية. وبعد 1943، وبالتأكيد خلال 1945 و1946، كنا نتوجه إليهم (أي إلى النقابيين المغاربة) كأنداد لنا، تمكنوا من إنشاء نقاباتهم ومكتبهم النقابية بالمقاولات. جرى هذا في أوساط عمال المناجم وبناء السدود والموانئ. كلهم اختاروا مناضليهم، وأعدوا ملفاتهم المطلبية وناضلوا لتحقيقها. لم يتمكنوا من الحصول على الحق النقابي، مما اضطرهم إلى البقاء في إطار الاتحاد العام لنقابات الـ كـ.ع.ش. إلى حدود 1952. أما الفرنسيون الذين لم يوفقوا على هذا فقد انسحبوا في 1948 ثم في 1950، فيما بقي الآخرون.
إن الشغيلة المغاربة الذين تكونوا على هذا النحو في صفوف الاتحاد العام لنقابات المغرب المتحدة، الواعون بكرامتهم والمستعدون للرد السريع، هم الذين ردوا على استفزاز سلطات الاقامة وهم الذين تركزت عليهم نيران القوات العسكرية المستنفرة خلال ليلة 7 و8 كانون الأول/ديسمبر. بهذا، أعطى عمال المصانع، والسككيون، والشغيلة العصريون بـ”كاريان سنطرال” –الحي المحمدي حاليا- انطلاقة الانتفاضة ضد الاضطهاد الاستعماري.
إلا أن هذا الإجماع الجميل لم يستمر بعد الحصول على الاستقلال، حيث كان ضحية الخلافات في صفوف حزب الاستقلال والممارسات التسلطية، المتجاهلة للديمقراطية النقابية، التي تم إقرارها منذ النشأة في صفوف إ.م.ش. (15) مما ترتب عنه انقسام المنظمة العمالية. وإثر معاينته لهذا الواقع، أصدر الحكم ظهير 20 كانون الأول/ديسمبر الذي يشرع التعددية النقابية.
إحالات:
13-راجع “الحركة النقابية…”، الجزء 1، ص ص. 239-243.
14-راجع: أ.عياش: “المناضلون المغاربة بالاتحاد العام لنقابات المغرب المتحدة، م.س.
15-راجع كتاب الذكريات الذي أصدره مؤخرا الطيب بن بوعزة: “ولادة الحركة النقابية العمالية الحرة بالمغرب”، تمهيد محمد اليازغي، المنشورات المغربية، الدار البيضاء، ص. 158، 1992، وأعلاه ص ص .168-171.
اقرأ أيضا