القوى السياسية في ضوء حراك التعليم (2023)
بقلم: شادية الشريف
يشكل الموقف من النضالات العمالية والشعبية مرآة حقيقية لكشف حقيقة القوى السياسية، بعيدا عما تصرح به تلك القوى، أو ما تتزين به من أوصاف ديمقراطية وشعبية، وحتى ثورية. فما يهم هنا هو ما تفعله تلك الأحزاب، وليس فقط ما تقول.
شكل حراك شغيلة التعليم الأخير (أكتوبر 2023- يناير 2024) مختبرا حقيقيا للقوى السياسية بالبلد، كشف عن مواقفها الفعلية تجاه قطبي الصراع: الدولة من جهة، والشغيلة من جهة أخرى.
لدى الطيف السياسي القائم بالبلد، باختلاف توجهاته الأيديولوجية (معارضة ليبرالية، معارضة دينية، يسارية) قاسم مشترك أساسي: الخوف من كل قوة تغيير قادمة من أسفل، والسعي من أجل تصريفها في القنوات الرسمية. ويشكل “الحوار الاجتماعي الممأسس”، تلك القناة في حالة نضال شغيلة قطاع الوظيفة العمومية، وعلى رأسها شغيلة التعليم.
ارتعبت القوى السياسية من حراك التعليم نظرا لأهميته التاريخية سواء بحجمه أو بكونه خارج البنيات النقابية القاتلة للديمقراطية وكفاحيته، ولكونه مواجهة مباشرة لتفاهمات وراء ظهر الشغيلة أبرمتها القيادات النقابية والدولة. وبذلك كان الحراك سياسيا وليس مطلبيا مهنيا فقط، كما تصر تلك القوى السياسية.
ولدرء قوة التغيير من أسفل هذه، تقوض تلك القوى السياسية كل إمكانية لتطورها تنظيميا وسياسيا، عبر ضرب أسس الديمقراطية في اتخاذ القرارات، وقمع الرأي الآخر، وكبح أي دينامية ذاتية من القواعد .
قسم من هذه القوى السياسية التي عبأت قواها الدعائية من أجل الظهور كمناصِرة لمطالب الشغيلة، يتبنى حرفيا ما تنفذه الدولة من هجمات تستهدف شروط العمل في الوظيفة العمومية، ويطالب فقط بما يجعل تلك الهجمات مقبولة من طرف المستهدفين- ات بها.
“الأحزاب الإسلامية”
أ. العدل والإحسان
تشكل جماعة العدل والإحسان قوة تنظيمية كبيرة، ما يمنحها قوة السطوة التنظيمية على الهبَّات النضالية العمالية والشعبية. وقد تأكد هذا في نضالات شغيلة قطاع التعليم وطلبة معاهد الطب والهندسة والتمريض طيلة العقد الأخير.
لكن هذه القوة السياسية تتبنى بالمجمل مشروع الدولة الاستراتيجي القاضي بتفكيك الوظيفة العمومية المركزية، ومضمونه القاضي بنقل علاقات الشغل القائمة بالقطاع الخاص إلى القطاع العمومية.
خصصت الوثيقة السياسية للعدل والإحسان فقرة كبيرة عنونتها بـ”دولة اللامركزية”، مفصِّلة فيها مطالبها التي تسير في نفس اتجاه استراتيجية الدولة القاضية بإعادة هيكلة الإدارات العمومية، بما يجعلها مساهمة في الطور الجديد من النموذج التنموي، وإصلاح منظومة الأجور عبر تبني نظام تحفيزي فعال يعتمد الاستحقاق والكفاءة والمردودية، مع جعل هذه الأخيرة معيارا للاستقرار الوظيفي، وإصلاح أنظمة التقاعد (الرسملة).
كيف ستساهم، إذا، هذه الجماعة في نضال شغيلة ضد هجوم تتبناه هذه الجماعة؟
لم يخرج موقف الجماعة من حراك شغيلة التعليم عن المألوف من تنبيه الدولة إلى ضرورة تبني “المقاربة التشاركية” وتحذيرها من وخائم الانفراد بتدبير موضوع النظام الأساسي الجديد. أشار بيان المكتب الوطني لقطاعها النقابي (5 أكتوبر 2023) إلى أن هذا الانفراد “يضرب في العمق المقاربة التشاركية التي تحكمت في هذا المشروع منذ اتفاق 18 يناير 2022 ثم اتفاق 14 يناير 2023″، وهما الاتفاقين الذين مَهَّدا الطريق لتدمير النظام الأساسي القديم (2003) وتعويضه بنظام أساسي جديد، أطلق عليه الشغيلة “نظام المآسي”.
تتخوف الجماعة- كونها قوة سياسية برجوازية- من النتائج السياسية لحراك الشغيلة القادم من أسفل، واعتبرت ما قامت به الوزارة من تجاهل لشركائها الاجتماعيين تهديدا لـ “ما تبقى من جسور الثقة في الخطاب الرسمي لدى نساء ورجال التربية والتعليم، ويدعو إلى مزيد من تأجيج مشاعر الغضب، واستئناف موجة جديدة من الاحتجاج”.
تنتهي جذرية الجماعة عندما يتجاوز نضال الشغيلة للحدود التي سطرتها هذه الجماعة للعمل النقابي: “الإسهام في تحقيق السلم الاجتماعي والتعبئة الاقتصادية، والحفاظ على التوازن بين قوة العمل والقوة الضاغطة للمشغل”. الواجب بنظر الجماعة هو أن تمد الدولة يد التعاون لشركائها الاجتماعيين من أجل تفادي “تأجيج مشاعر الغضب” ودرء “استئناف موجة جديدة من الاحتجاج”… أي تكرار نفس الخط النقابي الذي أدى إلى كوارث في عالم الشغل.
ولما لم تستجب الدولة لذلك وانطلق الحراك، قفزت الجماعة لتمسك ما استطاعت بالمقود، ولكن بنفس المنظور، مبدية حرصا جازما على أن مطالب المحتجين “مهنية صرفة ولا يريدون لا مواجهة الدولة ولا تخويفها ولا لي ذراعها”، مكملة بذلك دور كتيبة الأكاديميين الذين سخرتهم الدولة لنفس الدور. واعتبرت “اعترافَ الحكومة بأنها فهمت الرسالة.. مؤشرا ينبغي التقاطه”، وأعلنت نهاية “الشوط الأول من المعركة بإعادة مرسوم النظام الأساسي الانفرادي إلى طاولة الحوار وفتح النقاش من جديد حوله”.
وعندما بدأت الإجراءات العقابية (التوقيفات)، عادت الجماعة مرة أخرى إلى لغة التحذير والتنبيه بأن تلك الإجراءات ستؤجج “الأوضاع في الوقت الذي بدأت تلوح بوادر انتهاء الأزمة”، مطالبة بـ”تغليب صوت العقل والحكمة من أجل حلحلة الأزمة بدل تأجيج الأوضاع، وإلى المبادرة إلى اتخاذ قرارات جادة ومسؤولة من شأنها استرجاع الثقة”.
لا يسعى الحزب الجذري بمنظور وفيٍّ لمصلحة الشغيلة إلى استعادة الشغيلة للثقة في مؤسسات دولة تستغلهم وتضطهدهم وتعاقبهم حينما يقومون للنضال ضدها، بل يعمل بجد من أجل توسيع هوة عدم الثقة تلك وإنماء ثقة الشغيلة في قواهم ووحدتهم.
ب. حزب العدالة والتنمية
كما فعل في حراك الريف، استغل حزب العدالة والتنمية فرصة الاحتجاجات للنيل من غريمه الحكومي (حزب الأحرار)، مركزا في مقالٍ لمثقفه بلال التليدي، على أن المشكل قائم في الطابع التكنوقراطي لوزير القطاع (شكيب بنموسى) متسائلا عن سبب “عدم إقالة الوزير الذي تسبب في هذا الاحتقان الذي لم يعرف له المغرب مثيلا”.
تحسر التليدي عن أكبر مكاسب الحراك، وهو أن شغيلة التعليم يقدمون نموذجا يُحتذى به لباقي الشغيلة: “في الواقع ثمة كلفة أكبر من كلفة تحمل استمرار وزير، وبالتالي إنقاذ سمعة “نموذج تنموي”. فالقطاعات الأخرى التي كانت تراقب عن كثب دينامية الحراك الذي يشكله الأساتذة، التقطت الرسالة بشكل جيد… ولا تأبه بتعطيل الخدمات الحيوية في البلاد من أجل تحقيق المطالب .
ما يهم العدالة والتنمية هو إنقاذ سمعة “النموذج التنموي الجديد” المهدَّد بتعميم نضال شغيلة التعليم على باقي شغيلة القطاعات الأخرى؛ أي في التحديد الأخير، يقدم الحزب نفسه كبديل قادر على تمرير هجمات الدولة بأقل كلفة سياسية واجتماعية.
اليسار الجذري
أ. النهج الديمقراطي العمالي
اليسار الجذري عمليا شبه منعدم، باسثناء المستقوي منه بمواقع تنظيمية منحته صفة تمثيلية لمفاوضة الدولة. لم يحمل اليسار (النهج الديمقراطي العمالي أساسا) أي منظور لتطوير الحراك والارتقاء به سياسيا، لا بل قام حزب النهج الديمقراطي العمالي، عبر كوادره النقابية في قطاع التعليم [في قيادتي ن.و.ت- ك.د.ش وجامعة التوجه الديمقراطي] بنفس دور اليسار التقليدي. أبان معظم اليسار عن قصوره سياسيا، حيث لا يرى في الحراك عاملا سياسيا ذي وقع على الوضع العام، يستوجب تدخلا سياسيا، بل مجرد نضال مطلبي يستوجب “الدعم” ضمن “الانحياز إلى الطبقة العاملة”، وهاجس “تمثيلية” جامعة التوجه الديمقراطي حيث يمارس تأثيرا وازنا في جهازها.
ساهم مناضلو- ات الجامعة الوطنية للتعليم في حراك التعليم الأخير بقتالية وكفاحية شهد بها الجميع، ولكن قيادة الجامعة كانت لها حساباتها الخاصة. فرغم اعتبار نقابيي- ات حزب النهج النقابةَ مدرسة للصراع الطبقي ، إلا أن هاجس الحفاظ على مقعد على طاولة “الحوار الاجتماعي الممأسس” ظل متحكما في تدخلها طيلة المعركة. بل لم يتورع المكتب التنفيذي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وأغلب طاقمه القيادي من نفس الحزب، عن مطالبة الحكومة بـ”وضع حد للاحتقان الاجتماعي في قطاع التعليم” عبر “إجراء حوار جدي ومسؤول مع النقابات التعليمية الأكثر تمثيلية… ووضع حد لإقصاء جامعة التوجه الديمقراطي من الحوار القطاعي”. وهو نفس ما ورد في بيان المكتب السياسي للحزب (10 يناير 2024) الذي طالب بـ”الإنصات لمظلومية العديد من الفئات التعليمية، والاستمرار في التفاوض البناء والتفاعل الإيجابي”.
إن حزبا يساريا جذريا لا يطالب حكومة أرباب العمل بـ”وضع حد للاحتقان الاجتماعي”، بل ينفخ- مستعملا قواه التنظيمية والإعلامية- في نار ذلك الاحتقان ليتعمم ويحرق مجمل مجتمع الاستغلال الطبقي والاضطهاد السياسي.
بعد توقيع اتفاق 26 ديسمبر 2023، انخرط نقابيو النهج في حملة دعائية لإقناع شغيلة القطاع بجدوى ما انتُزع، وفي نفس الوقت حملة هجومية ضد التنسيقيات، بلغت عند بعضهم حد التجريح. وعملت جريدة الحزب على توفير غطاء سياسي لما قامت به قيادة جامعة التوجه الديمقراطي، متذرعة بانتفاء “الشروط الذاتية والموضوعية لتحول حراك قطاع التعليم إلى حراك شعبي”.
كغيرها من قوى سياسية تتبنى قيادة جامعة التوجه الديمقراطي “المقاربة التشاركية” و”مأسسة الحوار الاجتماعي”، وهو ما يعني تجميد قوى النضال طيلة فترة “الحوار”، وهو ما أدى سابقا إلى توقيع قيادة الجامعة على اتفاق 18 يناير 2022.
ب. جريدة المناضل-ة
تدخل أنصار جريدة المناضل-ة ونصيراتها بما يتيحه تواجدهم- هن داخل إطارات النضال (النقابات والتنسيقيات). وعملوا كما درجوا، منذ سنوات وبشكل خاص في معركة شغيلة التعاقد المفروض، على التشهير بسياسة الدولة في القطاع- ومجمل الوظيفة العمومية- واضعين- ات هذه السياسة في إطار الخطة الاستراتيجية للدولة القائمة على إعادة هيكلة تشريعات الشغل لتطابق الطور الجديد للتراكم الرأسمالي بالبلد. وغاية ذلك هي التنبيه إلى خطورة الخط النقابي (وداخل التنسيقيات أيضا) القائم على المطالبة بتنازلات فئوية لا تضرب جوهر الاستراتيجية الهجومية للدولة ورأس المال.
عملت جريدة المناضل- ة على إتاحة بوصلة للنضال النقابي، مركزة على حق الشغيلة الحصري توجيه معاركهم- هن (تقريرا وتنفيذا ومحاسبة)، ودافعت على الديمقراطية الداخلية وحرية التعبير، منبهة إلى مخاطر استئثار الأجهزة والقيادات بالقرار. منافحةً في الآن ذاته باستماتة عن ضرورة النضال الوحدوي مبينة مخاطر النزوع الفئوي والعقلية القطاعية. وهذا ضمن منظور توسيع المعركة لتشمل قطاعات أخرى، على طريق الاستنهاض الشامل من أجل إضراب عام عمالي وشعبي.
إلا إن حجم قوى أنصار الجريدة ومحدودية انتشارهم- هن الجغرافي، حدَّ كثيرا من إمكانية إيصال تلك الترسانة الفكرية والنظرية إلى قطاع عريض من الشغيلة.
هذا ما يضفي على الجهود التنويرية للجريدة طابعا دعاويا؛ لا شك ستنفذ مضامينها بالمواظبة ورسوخ الاقتناع بحاجة طلائع النضال اليها.
أحزاب المعارضة الليبرالية
ليس لهذه الأحزاب قوة تنظيمية فعلية تستطيع معها التدخل في الحراك، باستثناء ما تتيحه الكونفدرالية الديمقراطية للشغل عبر النقابة الوطنية للتعليم. وقد أسهمت قيادة هذه النقابة (إلى جانب القيادات الأخرى) في المسار التشاركي الذي أدى إلى إصدار نظام المآسي (اتفاقي 18 يناير 2022 و14 يناير 2023).
تتبنى هذه الأحزاب نفس المنظور المرتعب من النضالات القادمة من أسفل والمهددة بتكون قوة طبقية مستقلة عن التيارات السياسية البرجوازية.
أصدرت اللجنة الوطنية لقطاع التعليم- الحزب الاشتراكي الموحد بيانا (17 ديسمبر 2023) تعيد فيه نفس ما أدى إلى الوضع النقابي الراهن وتمرير الهجمات على حقوق شغيلة القطاع:
– تحميل الدولة مسؤولية إضعاف التنظيمات الجادة والشركاء الاجتماعيين، في إشارة إلى أن هذا أدى إلى ظهور تنظيمات غير جادة انتزعت حق ممارسة الإضراب والاحتجاج من أيدي بيروقراطيات نقابية تعتبره “أبغض الحلال”.
– المطالبة بفتح حوار جدي تشارك فيه كل الفئات المعنية.
وعند انتهاء الحراك قامت برلمانية الحزب (نبيلة منيب) بتنظيم يوم دراسي داخل البرلمان يوم 9 يناير 2023، كمبادرة لإطفاء جمرة الاحتجاج بمبرر “ما لا يُؤخذ كله لا يُترك جله”. مطالبة الوزارة بـ”إعادة بناء الثقة المفقودة بينها وبين الشغيلة التعليمية” ، وهو نفس موقف جماعة العدل والإحسان.
وطيلة الحراك ظلت “الجبهة الاجتماعية” مشلولة، وبعد انطفائه بشهر أصدرت الجبهة نداء لتخليد ذكرى حراك 20 فبراير. وكان تخليد هذه الذكرى ستقوم خارج النضالات الاجتماعية والعمالية، التي ظلت تلك الجبهة تتفرج فيها وهي تنطفئ تحت ضربات القمع والمناورة.
من أجل استقلالية سياسية للشغيلة
تستطيع الأحزاب المرعوبة من قوى التغيير القادمة من أسفل، تحريف نضالات الشغيلة واستغلالها سياسيا، لسبب بسيط هو غياب القوة السياسية المعبرة عن المصالح الطبقية للشغيلة.
لم تتمكن المحاولات السابقة والحالية من اجتراح طريق سياسي مستقل لتحرر الشغيلة من نير سطوة تيارات سياسية معبِّرة عن مصالح طبقية برجوازية، وكل التنظيمات النقابية القائمة حاليا في المغرب عبارة أذرع وقنوات لأحزاب برجوازية أو موالية مباشرة للقصر. أما اليسار الجذري داخل هذه النقابات، فقسم منه مهادن للبيروقراطيات متخوفا على مواقعه التنظيمية، أو قسمٌ آخر بدون منظور سياسي ويدفع نضالات الشغيلة إلى مآزق وهزائم.
لا يمكن أن يحرز الشغيلة تحرهم- هن الناجز من نظام الاستغلال عبر مراكمة جزئية لمطالب مادية وديمقراطية، وإنما بجعل النضالات من أجل تلك المطالب الجزئية جسرا ينقلهم- هن من النظام الاقتصادي والاجتماعي القائم إلى نظام مغاير طبقيا. وبداية هذا ستكون بإحراز شغيلة المغرب لاستقلالهم- هن السياسي عبر بناء حزبهم- هن الاشتراكي الثوري.
اقرأ أيضا