من دروس التجربة، لأجل انتصار حراك فكيك
تسير التعبئة الشعبية بفكيك إلى استكمال شهرها الرابع، متصديةً لسعي فرض شركة لتدبير خدمات الماء فيها. لم يكن يخطر على بال الدولة، وهي تعد إهداء خدمات توزيع الماء والكهرباء (وحتى الإنارة والتطهير السائل) للرأسماليين على طبق من ذهب، أن الرد الشعبي سينبثق من واحة منسية هناك على الحدود الشرقية، لا أحد يتوقع مكان انبعاث عنقاء النضال. وجريا على عادتها، تعاملت الدولة بتجاهل يتوخى إنهاك المحتجين/ات، وبخطاب الطمأنة والوعود، إلى جانب القمع بمحاكمة ناشط وناشطة، ضغطا لإخماد الحراك. يدل كفاح أهالي فكيك على مخزون الاستعداد النضالي الكامن لدى الكادحين، ويعطي مثالا عن إمكان تطوير التصدي للخوصصة الزاحفة لو وجدت قوة النضال العازمة على ذلك.
أراد القائمون على تسيير البلد تمديد مجال الربح أمام رأس المال، فاستصدروا من مؤسسات “ديمقراطية”، لا ينظر إليها سواد الشعب الكادح إلا بازدراء ونقمة مستحقين، قانونا يقضي بإحداث شركات جهوية متعدد الخدمات مفتوح رأسمالها للخواص بنسبة 90%.
ولبلوغ غايات الربح، أتاح ذلك القانون لتلك الشركات “الاستفادة من حق الارتفاق فيما يخص منشآت وقنوات توزيع الماء والكهرباء والتطهير السائل، ومن حق نزع الملكية لأجل المنفعة العامة والاحتلال المؤقت..”، والاستفادة “من جميع الحقوق والامتيازات الواردة في النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل لفائدة المستثمرين أو منعشي المشاريع الصناعية”. وفضلا عن ذلك، ينص القانون ذاك على أن “يضع صاحب المرفق مجانا رهن إشارة الشركة، وطبقا لعقد التدبير، المنقولات والعقارات اللازمة لتدبير المرفق باعتبارها أموال رجوع”… باختصار، إنه تسهيل الأرباح المضمونة بأقل التكاليف على حساب المواطن-ة المقهور-ة.
وهذا ما تحاشى رئيس المجلس الجماعي لفكيك في “ورقته التوضيحية” (23 يناير2024)، لما انتفضت المدينة، أي إشارة إليه؛ لكن كل الأقنعة المستعملة لحجب غايات الربح على ظهر الشعب الكادح تسقط بسؤال: لماذا لا تحدث الدولة مؤسسات عمومية 100% تتيح تلك الخدمات، وتعزز في الآن ذاته ميزانية الدولة بما كان سيصُبُّ في جيوب الرأسماليين، ومن ثمة استعماله لتطوير الخدمات العامة من صحة وتعليم، الخ؟
قطعت الدولة المغربية أشواطا كبيرة على طريق تسهيل أرباح الرأسماليين، بالخوصصة المكتسحة جميع المجالات، وبمقدمتها الخدمات العمومية، حيث نشهد ركضا محموما للاستثمار في الخدمات الصحية، بعد كل ما جرى بقطاع التعليم من اغتناء فاحش على أنقاض المدرسة العمومية. ينقض الرأسماليون، مغاربة وأجانب، على غنائم الخوصصة بشتى صيغها، المباشر منها، وما يتخذ صبغة “تدبير مفوض” و”شراكة قطاع عام-قطاع خاص”، وتنضاف إليها هذه “الشركات الجهوية” المستحدثة. ويقوم هذا الاستيلاء كله على التطفل على القطاع العام وتسخيره لخدمة رأس المال الخاص بمبرر تدبير الخدمات. ويدعون كذبا أنهم يشيدون “الدولة الاجتماعية”.
الدولة برجوازية، تحرص على المصلحة العامة للرأسماليين، مغاربة وأجانب، وتسحق الأغلبية الشعبية مسخرة إياها لتراكم رأس المال ليس إلا. إنه المنطق الطبقي لمن هم في الفوق في أوضح تجلياته، ولن ينقذ ضحاياه غير تفعيل المنطق الطبقي لمن هم في الأسفل: الطبقات الشعبية وفي القلب منها الطبقة العاملة. هجوم الرأسمال الكاسح، واستيلاؤه الزاحف على كل مناحي الحياة لاعتصار الأرباح منها، يستدعي تنظيم ضحاياه وتنوير طريق نضالهم من أجل مصلحتهم الطبقية.
آخر تعبئة شعبية هزت مدينة بكاملها شهدتها أزمور، في أقصى الغرب على المحيط الأطلسي، قبل عام ونصف العام. وقد بلغت الحراكات الشعبية المحلية ذُراها في حراكي الريف وجرادة، بخصائص أساسية مشتركة. إذ يتعبأ ضحايا الرأسمالية، المعززة بالاستبداد السياسي، ضد سوء أحوالهم العامة. وقد يكون فتيل تفجير الغضب هذا الإجراء أو ذاك، لكن الاستياء عام، تعبر عنه مطالب ضد غلاء المعيشة، وتدهور الخدمات العمومية، واستشراء البطالة، وسوء تدبير الشأن العام الخ. وعلى امتداد الحراكات الشعبية المحلية التي شهدها البلد في ربع قرن الأخير، نرى روافد النضال تتبد في صحراء انعدام التنظيم. مشكل الماء وحده هز مدنا عديدة، من زاكورة إلى طنجة مرورا بمراكش، في تعبئات شعبية عارمة. ما كان ينقص، ولا يزال، في كل صنوف التعبئات والحراكات الشعبية، هو التنظيم؛ إذ يتخذ الرد النضالي طابعا ابتدائيا بالانضواء تحت لواء هيئة تمثيلية مرتجلة غير منتخبة، أو حتى تلبيةً لنداء في وسائل التواصل الاجتماعي. فيبقى الفعل الجماعي غير متهيكل تحكمه آليات آنية، تتبخر مع توقف الاحتجاج بفعل استنفاذ طاقته، أو تحطم على جدار القمع، أو انخداع بالوعود.
القوى القادرة على أدوار التنظيم موجودة لكنها تُحرفُ عنها على النحوين التاليين:
- قسم تبتلعه “جمعيات المجتمع المدني”، حيث يشلها هناك وهمُ تحقيق مكاسب بالاندماج في مختلف برامج ترقيع الفقر التي تعدها الدولة بإيعاز من البنك العالمي وسائر أدرع الرأسمال الاستعماري الذي يضخ لنفسه قسما من ثروة البلد.
- قسم آخر ينطوي في منظمات النضال النقابي، حيث تكبله الرؤية المهنية الفئوية، بضيق أفقها. هذا فيما تمثل مطالب الخدمات العمومية الجيدة والمجانية، والتشغيل، رافعات لتضافر النضال العمالي مع نظيره الشعبي.
وتمتاز الحركة النقابية بامتدادها التنظيمي، وبنيتها التحتية، الذين يتيحان النهوض بدور تنظيم وتنسيق النضال الشعبي في فضاءات السكن وتأمين تمفصله مع النضال في أماكن العمل، مع كل ما لهذا الأخير من مقدرة على شل الاقتصاد والدولة البرجوازيين. بيد أن خط القيادات النقابية المغرق في التعاون الطبقي، المسمى بـ “الشراكة الاجتماعية”، يبطل إمكانات نضال يتجاوز الفئوية المهنية إلى كبريات المطالب الموحدة للطبقة العاملة من جهة، وإمكانات تضافر النضالين العمالي والشعبي. ومع أن المفترض في كيان مثل “الجبهة الاجتماعية المغربية” النهوض بدور حفز ذلك التضافر، دلت السنوات المنصرمة منذ إعلانها عن قصور تام، حتى عن تضامن فعلي، في أبسط أشكاله كالقافلة التضامنية، فما بالك بحفز النضال وتوحيده. ليس هذا غير إحدى التعبيرات عن الحالة المُؤسِية لمجمل اليسار، وتأكيدا للحاجة إلى بناء يسار حقيقي، عمالي. مهمة بناء هذا اليسار مقترنة بمهمة حفز التنظيم الذاتي في التعبئات والحراكات الشعبية من أجل المطالب الاجتماعية. فاللجان المنتخبة في أماكن السكن، وجموعها العامة الديمقراطية، وتنسيق عملها بتنسيقية منتخبة، ومد جسور التعاون عبر البلد بقصد هيكلة الحركة النضالية على صعيد وطني، وتوحيد مطالبها، هي كلها أمثلة سبل تجاوز هدر طاقة الكفاح بوجه دولة أكسبتها عقود من التصدي للحراكات الشعبية خبرة ومهارة تطويق بؤر النضال وإطفاءها.
اقرأ أيضا