حملة “محاربة فساد” جديدة، أي دلالة؟
يعيش المغرب أجواءَ حملة “محاربة فسادٍ”، بدأت تتضح معالمها بقوة منذ العام الماضي عند اعتقال برلمانيين ووزراء سابقين، وإدانتهم بالسجن النافذ؛ كان أبرزهم الوزير السابق محمد مبديع. وفي متم العام ذاته، شهدت الحملة وثبةً باعتقال سعيد الناصري، النائبِ البرلماني ورئيس نادي الوداد البيضاوي لكرة القدم، مع عبد النبي البعيوي رئيس جهة الشرق، وهما من حزب الأصالة والمعاصرة، فيما بات يسمى قضية إسكوبار الصحراء. وقد بلغ عدد البرلمانيين المتابعين ثلاثينا، أي نسبة 5% من أعضاء هذه المؤسسة.
في العقدين الأخيرين، بلغت الظواهرُ التي تُصنف ضمن الفساد مستوياتٍ جعلتها موضوعَ استياء شعبي عارم، لدرجة أَن أقوى حَراك سياسي شهده البلد قبل 12 سنة كان تحت شعار مزدوج، أحد طرفيه ضد الفساد، عنينا حراك 20 فبراير المطالب بإسقاط الفساد والاستبداد.
كانت “ضرباتٌ ضد الفساد” ملازمةً لمسار النظام السياسي المغربي، بشدة وكثافة بين فينة وأخرى، حسب السياقات والأغراض السياسية. فقد شهدت بدايةُ عهد ما بعد الحسن الثاني جملةَ محاكمات لطيِّ صفحة بؤرِ فساد في مؤسسات الدولة، منها محاكمة مسؤولين في بنوك (القرض العقاري والسياحي والقرض الفلاحي) والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ورجلي السلطة البارزين السليماني (صهر البصري إدريس) والعفورة، مثالا لا حصرا.
وقبل ذلك في منتصف التسعينات، اهتز عالمُ الأعمال بما أُشتهر بـ «حملة التطهير” بقيادة وزير داخلية الحسن الثاني، بمؤاخذة العديد من البرجوازيين بجريرة تهريب الأموال إلى الخارج وتجارة المخدرات. كان ذلك في سياق ارتعاب الحسن الثاني من “سكتة قلبية” تهدد نظامه، والتحضير لتوريث العرش، وما سُمي حكومة “تناوب توافقي”، وشكل من ترتيب علاقة النظام بالبرجوازية ذاتها. كما اشتهرت في تاريخ البلد محاكمة عدد من الوزراء والموظفين السامين السابقين بتهم الفساد والرشوة والاختلاس واستغلال النفوذ، وذلك في الظرف السياسي المتوتر الذي تلا محاولة الانقلاب الأولى على الحسن الثاني (1971).
بهذا النحو كانت “محاربة الفساد” إحدى أدوات تدخل الملكية في الوضع السياسي، سواء لغاية امتصاص نقمة الشعب الذي يعزو وعييه الأولى كلَّ عللِ وضعه الاجتماعي البائس إلى “الفساد واللصوصية” في المقام الأول، أو بغية ترويض من يشاء من الرأسماليين.
الواقع أن محاربة الفساد باتت موضوعا مركزيا في الحياة السياسية المعاصرة، إذ نجد البنك العالمي وحتى الرئيسين الأمريكيين، الحالي «الديمقراطي” وسابقه “الجمهوري”، وكل أنظمة العالم المتقدم منه والمتخلف، الجميع يؤكد على ضرورة تطهير مستنقع الفساد واستبعاد مقترفيه من أي مستوى كانوا.
يرى الكادحون في الفساد مصدرَ هذر للثروة الوطنية، ونيلا من حقوقهم الاجتماعية، حيث تتضرر مكاسبهم على صعيد الخدمات الاجتماعية، كما ونوعا، بفعل اختلاس من ميزانياتها، في الصفقات وبصنوف متنوعة من التدليس، وسببا لتدمير موارد البلد وبيئته بفعل شراء ذمم مسولين عنها، وهضما لحقوق الأجراء بنخر مؤسسات من قبيل الضمان الاجتماعي، واختلاسا لموارد مالية عمومية بالغش والتهرب الضريبيين من جراء فساد المؤسسات، الخ.
وينظر قسم من الرأسماليين إلى استحواذ قسم آخر على الموارد وفرص المراكمة، مستعملا آليات فساد، باستياء وخوف، بما هو خرق لقواعد المنافسة، يتهددهم بالفناء. ونجد جُلَّ برامج اليسار الليبرالي مركزا على انتقاد الفساد، وعلى اعتبار الحكم الفردي مصدرا كبيرا للفساد في العلاقات بين الدولة ورأس المال، ومطالبا بالشفافية وبإصلاح القضاء، توخيا للمساواة في الإفادة من فرص الاغتناء. وبلغ الأمر ببعض كبار رجال الأعمال إلى تأييد حراك 20 فبراير بفعل مكانة إسقاط الفساد في خطابه.
لا أحد يدافع عن الفساد، لكن فهما صائبا لمصادره وأسباب استمراره وحدَه يتيح تناوله كمشكل سياسي. نجد منظور منظمات نضال الكادحين للفساد، شأنه شأن منظور رجال الأعمال المتضررين منه، يختزل الأمر في أفعال تنتهك القوانين والبرتوكولات الدولية؛ وهو اختزال يخفي جذور الفساد المنظومي. ويؤدي التركيز على المقاربات التقنية والقانونية لمحاربة الفساد إلى إخفاء الطريقة التي يشتغل بها الفساد فعليا. بل إن هوَسَ الفساد، الفعليِّ او المتخيلِ، يدفع إلى جهل التفسيرات الهيكلية للوضع السياسي، أي المبنية على تحليل اقتصادي-اجتماعي، ويترتب عن ذلك قصور الحلول والبدائل، باقتصارها على معاقبة “الأشرار”، واستبعاد تغيير سياسي واقتصادي-اجتماعي جذري.
الحقيقة المتجاهلةُ في التفسير السائد للفساد هي كونه ملازما للنظام الرأسمالي، وأنه ليس مجرد تؤلول على وجه الرأسمالية، بل وجهُها. فالعتمة المفروضة في النظام المالي باسم السر البنكي، والفراديس الضريبية، والابتكارات المالية المسهِلة للتلاعبات وللتدليس، كلها آليات لاستشراء الفساد وصنوف الأنشطة الاقتصادية الإجرامية، كشكل لتراكم رأس المال.
قد يبدو الحكمُ الفردي، وسائرُ صنوف الديكتاتوريات السافرة، عاملا مفاقما للفساد، حيث لا آليات “ديمقراطية” على الطريقة الغربية؛ والحقيقة أن أعرق الديمقراطيات لا تقل فسادا عن أنظمة البلدان المتخلفة، حيث تقنيات الفساد في المركز أشد تطورا وعلى نطاق امبريالي، وما استعمال المؤسسات المالية الدولية لمعايير «محاربة الفساد” سوى لتطويع أنظمة بلدان تابعة تمهيدا لطريق الرأسمال الامبريالي لنهب تلك البلدان.
ليست محاربة الفساد شأنا تقنيا حياديا، بل هي سياسية دوما، لا سيما عندما تُعرض تحت غطاء الحكامة الجيدة والشفافية والمسؤولية. المحاربة السائدة لا تنفذ إلى جذور الفساد لأنها لا تضع النظام الرأسمالي موضع سؤال. لذا سيستمر الفساد و”محاربة الفساد” وجهان لعملة واحدة.
يستشري الفساد حيث لا مقدرة لدى الحركات الجماهيرية لإجبار النخب على تقديم حسابات. هذا ما يجعل الفساد يعمُّ مختلفَ المجتمعات الرأسمالية بتفاوت حسب ميزان القوى الطبقي. ومن ثمة سيظل الفسادُ و”محاربة الفساد” مجالَ صراع يتوجب على الشغيلة وعامة المقهورين التسلح فيه بمنظورهم الطبقي الخاص في محاربة الفساد، بما هو آلية ملازمة للنظام الرأسمالي. يجب تنوير ضحايا الرأسمالية بحقيقة جذور الفساد المتأصلة في نظام الاستغلال، نظام الملكية الخاصة وتراكم رأس المال. كما يلزمُ تبديد الأضاليل البرجوازية بشأن “تخليق الحياة العامة”، هذه الأضاليل التي يُجمع عليها اليسار الليبرالي، وقوى الإسلام السياسي، ويندرج ضمنها أيضا شعار بعض اليسار الجذري المنادي بالقضاء على “المافيا المخزنية” متغاضيا عن ملازمة الفساد لكل نظام رأسمالي. يجب جعل التحريض ضد الفساد رافعة لإنماء الوعي المناهض للرأسمالية، بشعاري الرقابة العمالية والشعبية وإلغاء السر التجاري والبنكي، فلن يجفف مستنقع الفساد غير البديل المناهض للرأسمالية، البديل الاشتراكي الايكولوجي.
إن مهمة التطهير الحقيقية للمجتمع الذي يسيطر فيه الاوليغارشيون، أصحاب الملايير، والساسة الفاسدون ورجال الأعمال المجرمون، تقتضي بناء حركة اشتراكية للطبقة العاملة متعارضة مع النظام الاجتماعي القائم. تلك المهمة هي ما يسعى أنصار جريدة المناضل-ة ونصيراتها للنهوض بها يدا في يد مع طلائع النضال العمالي والشعبي.
افتتاحية المناضل-ة 22 فبراير 2024
اقرأ أيضا