من أجل ديمقراطية فعلية في النقابات
موافقة قيادات نقابات التعليم الأربع على التعاون مع الدولة لوضع نظام أساسي قاهر لشغيلة القطاع ، والتزام تلك القيادات بما طُلب منها من سرية، دفعا إلى الواجهة وبقوة سؤال مدى ديمقراطية النقابات. فالموافقة على ما تضمن النظام الأساسي فيه تعارض على طول الخط مع إرادة الشغيلة، و انتهاك لأبسط قواعد الديمقراطية. هذا مع أن القوانين الأساسية لتلك النقابات لا تخلو من جمل جميلة عن الديمقراطية، ومنها ما يحمل هذه الصفة المحمودة في اسمه. تصرفت تلك القيادات بمبرر أنها ذات تمثيلية، والحال أن عيب تلك التمثيلية الرئيس أنها بعيدة كليا عن الطابع الديمقراطي بفعل طريقة الانتخاب التي لا تعكس بأمانة إرادة القاعدة العريضة من الشغيلة حيث تبالغ في تمثيل فئات صغيرة على حساب السواد الأعظم. هذا فضلا على أن عدم قابلية إقالة المنتخبين إلى تلك اللجان، أي لزوم بقائهم طيلة خمس سنوات حتى إذا اخلوا بالواجب، هو أيضا إحدى أوجه لا ديمقراطيتها.
كما أن النقابات الأربع المتعاونة مع الدولة في صنع النظام الأساسي تضم مناضلين ومناضلات في موقع معارضة لسياسة القيادات لكنها صوتهم مخنوق، وحتى إذا جرى التعبير عنه فهو لا يصل سائر قواعد النقابة لانعدام آليات و إعلام نقابي يؤمن ذلك.
وأخيراً، كل النقابات بدون استثناء غير ديمقراطية من ناحية مكانة النساء فيها، فبرغم المزاعم المُرصِّعة للأدبيات، لا تزال النساء في النقابات في منزلة دونية لا تقل عن دونيتها في المجتمع المفترض أن النقابات تناضل لتغييره.
تجمع القوانين الأساسية لمختلف النقابات على مبدأ الديمقراطية في تسيير الشأن الداخلي، لكنها تختزلها في انتخاب الهياكل المسيرة بدورية معينة. وجل ما يجري عبارة عن حبك من يمسكون بزمام الجهاز لعمليات تصون المظاهر قدر الممكن، وتقتل جوهر الديمقراطية. ويظل الأمر طي كتمان متفاهم عليه إلى أن يفجر شنآن بين أفراد داخل الجهاز، غالبا ما يتعلق بتنافس على المزايا والمواقع، الحقيقة أمام الملأ.
نورد على سبيل المثال ما كشفه قيادي في الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، قدم استقالته إلى كاتبها العام سنة 2008. فمن جملة ما فجره هذا البيروقراطي (عبد المالك افرياط) في وجه إخوته في الجهاز، ضمن حملة على كاتبها العام الحالي، تعريته لواقع الديمقراطية في المنظمة. قال أفرياط في رسالة استقالته: “لقد كان من أهم مبادئ منظمتنا الديمقراطية، ونتساءل اليوم هل فعلا تمارس الديمقراطية داخل الجهاز؟. ما مستوى النقاش ، سواء أثناء انعقاد المجالس الكونفدرالية أو المجلس الوطني، نقاش حل بدله التصفيق وتسخير بعضهم قبل انعقاد الاجتماعات لتوجيه أشغالها” ….” كيف تفسرون فبركة بعض الاتحادات المحلية وتعيين الموالين بدل إعمال… وهذا طبعا يدخل في إطار إستراتيجية مُسطرة تهدف إلى الوصول بأكثر عدد من الموالين إلى المؤتمر الوطني المقبل للمنظمة .”
ثم أورد أفرياط مثال النقابة الوطنية للسكك الحديدية بقول :” ألم يتدخل المكتب التنفيذي في انتخاب أجهزتها إبان المؤتمر الأخير ضد على إرادة القواعد وإرضاء لأحد أعضاء المكتب التنفيذي ولانتمائه السياسي؟”.
ولا يقتصر الاستبداد البيروقراطي على تغييب النقاش وصنع الهياكل، بل يتعداهما إلى كبح النضالات. سجل أفرياط في رسالة استقالته “التراجع التنظيمي العميق للعديد من النقابات الوطنية بسبب منع المكتب التنفيذي خوض إضرابات احتجاجية تتعلق بعدم تلبية مطالب الطبقة العاملة” ويضيف مخاطبا الأموي:” ألم يكن تدخلكم ليلية الإضراب العام لسنة 2006 لإلغائه سببا فيما آلت إليه الأوضاع داخل هذه النقابة، تدخل أربك القواعد وترك انعكاسا كبيرا على الوضع التنظيمي لهذه النقابة حيث تعرف اليوم تشتتا وتشرذما لم يسبق لهما مثيل” . وضاف مثال ” رفض الترخيص لعمال ومستخدمي الطرق السيارة حوض إضراب عام للدفاع عن حقوقهم ومكتسباتهم”.
ليس ما ساقه البيروقراطي عبد المالك أفرياط من أمثلة، لأغراضه غير البريئة، سوى رأس جبل الجليد. ليس تاريخ الديمقراطية في منظمات الطبقة العاملة غير تاريخ انتهاك الديمقراطية منذ اليوم الأول لتأسيس أول نقابة مغربية سنة 1955.
نفس الوضع يسود في الاتحاد المغربي للشغل، وسيكلف سرد الأمثلة عنه تخصيص موسوعة كاملة لكافة أوجه انتهاك أبسط قواعد الديمقراطية في هذا الاتحاد.
وإن كانت ممارسات صنع الأجهزة مغلفة بجمل ديمقراطية في القوانين الأساسية، فذلك أيضا شأن حرية التعبير. فهذه الحرية معلنة دون إتاحة آلية تحدد كيفية ممارستها.
يجري الحديث عن التعبير الحر بصيغ عامة، نعطي عنها أمثلة. جاء في الفصل الرابع من القانون الأساسي للجامعة الوطنية للتعليم-التوجه الديمقراطي أنها (أي الجامعة) تضمن لكافة المنخرطين دون تمييز لأي سبب من الأسباب الحق في التعبير والدفاع عن آرائهم المتعلقة بتنمية وتطوير النشاط النقابي. وعلى هذا المنوال، ينص القانون الداخلي للنقابة الوطنية للتعليم –ك.د.ش على أن النقابة تضمن للمنخرط الحق في التعبير عن آرائه وفي النقاش والنقد في ظل الضوابط التنظيمية.
وفي ديباجة القانون الأساسي للاتحاد المغربي للشغل: إن الاتحاد يعمل على تسييد الديمقراطية النقابية في العلاقات الداخلية للمركزية، مما يضمن حرية الرأي والتعبير لجميع المنخرطين/ات.
لم يعرض أي من القوانين الأمثلة أعلاه كيف تضمن حرية التعبير لمن يفترض أن تضمن لهم، أي ذوي الرأي المغاير.
الاختلاف في الرأي لا يمكن أن ينعدم سوى في منظمة حيث استبداد الرأي الأوحد، بينما النقابة بطبعها تعددية وبالتالي يتطلب طابعها الجماهيري اشتغالا يضمن التعبير عن الاختلاف.
إن مقياس حرية التعبير هو إتاحتها لمن له رأي مغاير، معارض للرأي السائد. وإلا باتت مجرد آلية تصفيق. لا نجد في القانون الأساسي لأي من النقابات، بوجه الإطلاق، ما يضمن للرأي المخالف حرية التعبير. النقاش الحر والديمقراطي يتطلب إتاحة أداة تواصل لنشر مختلف الآراء وإيصالها إلى الجميع. الأداة هذه هي نشرات النقاش والصحافة النقابية. الأولى منعدمة والثانية اسم بلا مسمى، مجرد واجهة لنشر البيانات والبلاغات. وحتى عند التحضير للمؤتمرات الوطنية لا نقاش مكتوب، وغالبا ما تصاغ مشاريع أدبيات لمجرد احترام الشكليات.
إدارة النقاش في الإعلام النقابي يستدعي إتاحة تجمع المدافعين عن وجهة نظر مشتركة في
تيار، وتمكينهم من نشر رأيهم في الإعلام النقابي ليصل الجميع، بغاية الإقناع. وبهذا النحو يكون الانتخاب إلى هياكل النقابة قائما على اختيار بين لوائح تمثل وجهات نظر في تسيير النقابة والنضال وليس بين أشخاص. وهذا الانتخاب إلى هيئات تسيير النقابة بناء على برامج يكون باعتماد قاعدة التمثيل النسبي لمختلف اللوائح. ما يتيح احتراما تاما لأراء الأقليات، وإمكان تغيير الأغلبية، وتناوبا برنامجيا على تسيير النقابة وقيادتها.
بدون هكذا قواعد لا مجال للحديث عن الديمقراطية، بدونها تستمر المهازل المُقرفة التي كثيرا ما أبعدت طاقات نضالية عديدة عن النضال النقابي.
إن نمط الاشتغال السائد في منظماتنا النقابية يعكس نوع العلاقات بينها وبين الشغيلة. فما دام قوام هذه العلاقة هو تقديم خدمات و تفويض سلطة فلا حاجة الى حياة ديمقراطية نشيطة. وبالعكس النقابة التي تسعى إلى مشاركة الشغيلة بفعالية سيكون لها اشتغال بوتيرة وحيوية أفضل. وهذا ما يجب أن نسعى إليه ونبذل من أجله قصارى الجهد.
بقلم، م.ب
اقرأ أيضا