انتفاضة التعليم المجيدة والتعليم التجاري، ما الموقف الصائب
في سياق المعركة الكبرى لشغيلة التعليم، وفي سياق النقاش البرنامجي والمطلبي الذي أيقظته في صفوف أغلب الشغيلة، بعد أن ظل كامنا- بل ومكبوحا- لفترة طويلة، لا بد من الوقوف قليلا عند أحد أهم مظاهر الهجوم الذي استهدف التعليم العمومي، بل إحدى أخطر حلقات هذا الهجوم: إنها الخوصصة الزاحفة للقطاع.
دولة تدعي إصلاح التعليم العمومي تدعم التعليم التجاري
لم يعد خافيا الآن، في سياق المعركة الكبرى الجارية، أن أحد أهم محاور هجوم الدولة على المدرسة العمومية متمثل في رفع نسبة “قطاع التعليم التجاري” ليصل لنسبة تفوق 25 بالمئة. وهو موضوع المشروع السابع من حافظة مشاريع القانون الإطار، حيث أُدرِج ضمن المشاريع التي تستهدف “الانصاف وتكافؤ الفرص” بشكل يبين بشكل جلي مضمون الإنصاف وتكافؤ الفرص الذي تعمل عليهما الدولة. هكذا ترى حافظة المشاريع أن “هذا المشروع يهدف إلى تطوير وتنويع العرض المدرسي الخصوصي، وجعل التعليم الخاص شريكا للتعليم العمومي في إطار من التفاعل والتكامل مع باقي مكونات المنظومة في تحقيق أهداف الإصلاح. وحتى يتسنى لمؤسسات التربية والتعليم والتكوين التابعة للقطاع الخاص الاضطلاع بدورها كطرف فاعل في الإصلاح، ومن الوفاء بالتزاماتها. يتعين اتخاذ مجموعة من التدابير لتحفيزها وتشجيعها وضبط معايير جودتها في نطاق تكافؤ الفرص، أخذا بعين الاعتبار الصعوبات والإكراهات التي يعرفها هذا النوع من التعليم”[1]. يتعلق الأمر إذن بركن أساس من أركان منظور الدولة وخطتها، لكن هذا المنظور يطرح سؤالا إشكاليا: كيف لدولة تريد إصلاح المدرسة العمومية، وهي تضع هدفا لها دعم المدرسة الخصوصية؟ ألن يكون لأي تطوير للمدارس العمومية انعكاس على جاذبية قطاع التعليم التجاري، الذي تعلن الدولة انها داعمة له؟ هل ستصنع الدولة منافسا خطيرا لرأس المال الذي تبحث له عن فرص للربح عبر التجارة في كافة الخدمات العمومية وعلى رأسها التعليم؟ إن ذلك يفضح نفاق منظور الدولة “الإصلاحي”: على المدرسة العمومية أن لا تتفوق على أسوأ مدرسة خاصة.
من هم “زبناء” المدارس الخاصة؟
تنعكس كذلك في التعليم التجاري بنية المجتمع الطبقية، فالتعليم الخاص له مستويات “جودة” متباينة، من المدارس من فئة النجوم الخمس إلى مدارس خاصة ذات مستوى جودة متدني، وزبناء المدارس الخاصة يلجون له وفق قدرتهم على الدفع، وضمن هؤلاء نجد فئة عريضة جدا من أبناء وبنات العمال- ات وصغار المنتجين- ات وضمنهم- هن جزء من شغيلة التعليم، الذين لظروف ما يضطرون لتسجيل أبناءهم في هاته المدارس، ولعل أهمها، الضعف الحاد في خدمات التعليم العمومي، خاصة على مستويات الحراسة والنظافة والاستقبال والاكتظاظ ومرونة استعمالات الزمن وكذلك لاستنكاف الدولة عن بناء مدارس عمومية في التركزات السكنية الجديدة التي تقطنها القطاعات الجديدة والشابة من الطبقة العاملة، وليس لسبب مرتبط بالأساتذة أو بالإدارة التربوية أو التأطير التربوي.
حمَّل تقرير صادر سنة 2017 عن منظمة “اليونيسكو” الدولةَ مسؤولية ما آلت إليه وضعية التعليم العمومي؛ إذ تشجع الدولة التعليم الخصوصي/ التجاري عبر آليات “التساهل الضريبي والتشريعي والرقابي مع المؤسسات التعليمية الخاصة”، وهو ما اعتبرته المنظمة “تهديدا مباشرا لحظوظ تمدرس أبناء الطبقات الفقيرة، وتقليصا لفرص حصولهم على تعليم جيد، ومجاني، وتوسيعا للهوة بين التلاميذ من مختلف الطبقات الاجتماعية”.
كما أن الاضطرار إلى اللجوء للتعليم التجاري، يرفع بشكل كبير من الضغط على أجور ومداخيل العمال/ات وصغار المنتجين/ات، ويساهم في إفقارهم/ن. واقع أشارت إليه مساهمة المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي صدرت سنة 2019 تحت عنوان “النموذج التنموي الجديد للمغرب” بقول: “الاختلالات التي تعاني منها الخدمات العمومية تؤدي إلى إضعاف القدرة الشرائية للأجراء”، وإن كان المجلس حريصا على تنافسية المقاولات أكثر من حرصه على دخل الأجراء وحقهم في خدمات عمومية مجانية وجيدة، إذ أكد على أن “تعزيز الولوج لهذه الخدمات العمومية سيمكن من المحافظة على القدرة الشرائية للعاملين دون الإضرار بتنافسية المقاولات، على اعتبار أن الدولة ستتحمل نفقات هذه التكاليف الاجتماعية، مما سيقلل من المطالبة بزيادة الأجور أوو سيخفف من وتيرة هذه المطالبة”.
الانتفاضة التعليمية والتعليم الخاص
إن أحد أهم شعارات الانتفاضة التعليمية التي فجرها تمرير النظام الأساسي، هو الدفاع عن المدرسة العمومية. ولعل أحد رافعات جرأة الدولة على شغيلة القطاع موجود في استشراء التعليم الخاص، خاصة في الوسط الحضري، فالتعليم العمومي في المدن لا يتطور كميا من حيث عدد التلاميذ، حيث لم يتطور التعليم العمومي في الابتدائي بين 2010 و2018 إلا بنسبة: 1,54% ، وفي الإعدادي بنسبة : 0,17% ، بل سجل تراجعا في التعليم الثانوي: بناقص 0,74%، بينما تطور التعليم الخصوصي بمعدلات مرتفعة جدا: في الابتدائي بنسبة 63,26% والإعدادي بـ 87,62%، وفي الثانوي بـ 37,19%[2]. وإذا كان تطور التلاميذ سائر في هذا الاتجاه، فكذلك تطور العاملين- ات: أساتذة وأستاذات وإدارة تربوية وعمال وعاملات الحراسة والنظافة والنقل…، هؤلاء جميعا يشتغلون بأجور بؤس، دون أدنى احترام لقانون الشغل. تقوم الدولة بهجومها الشرس على أوضاع شغيلة التعليم العمومي لأنها تعتبر أن القطاع التجاري يقدم “الخدمة التعليمية” بكتلة أجور مخفضة، لم لا يجرب ذلك مع أجراء العمومي؟ كيف لا وهي الانتقاد العزيز على قلب البنك الدولي الذي انتقد في تقريره الصادر سنة 2017 “المغرب في أفق 2040” الذي اعتبر أن “رواتب الموظفين تفوق أكثر من مرتين الأجور في القطاع الخاص… مما يجعل المغرب أحد البلدان ذات كتلة الأجور الأعلى من بين الدول الناشئة المنافسة له”، مشيرا إلى أنه رغم “كلفة الأجور المرتفعة تلك” فإن “جودة الخدمات العمومية غير مرضية وأكد على انطباع السيء عنها لدى الساكنة”. الحل الذي وجدوه إذن هو تشجيع التعليم الخصوصي ومساواة ظروف عمل موظفي- ات التعليم العمومي مع تلك التي يشتغل ضمنها زملاؤهم- هن في القطاع الخاص.
إن الانتفاضة الحالية مطالبة بتقديم الجواب الحاسم على هاته القضايا. يكمن ذلك الجواب في المطالبة بشكل فوري بتأميم قطاع التعليم التجاري، ونقل العاملين- ات به للوظيفة العمومية. إن دولة قادرة على تفويض موظفيها إلى مؤسسات دنيا (أكاديميات جهوية) قادرة في نفس الوقت على تحويل شغيلة قطاع التعليم الخصوصي إلى موظفين لديها، لكن الأمر لا يتعلق بالقدرة، بل بالمصالح المادية التي تدافع عنها تلك الدولة.
إن مطلب تأميم مؤسسات التعليم الخصوصي سيلف عليه كل الأسر المكتوية بأسعار المؤسسات الخاصة وتفاوت مستوياتها، وسيلف عليه أسر تلاميذ المدرسة العمومية الذين يعتبرون وجود التعليم الخاص علامة كبرى لانعدام تكافؤ الفرص، وسيلف عليه كل أنصار المدرسة العمومية باعتبار أنه لا ارتقاء بالتعليم العمومي يمكن أن يكون في وجود تعليم خاص تجاري ومستويات جودة متباينة.
ولأن هذا المطلب يحتاج إلى قوة اجتماعية جبارة ليست متحصلة حاليا، فيمكن طرح مطالب آنية تستطيع كبح القوة التنافسية لقطاع التعليم التجاري، وعلى رأسها إلغاء كل التحفيزات الضريبية وكل أشكال الدعم العمومي لها؛ منع اشتغال أساتذة- ات التعليم العمومي داخل مؤسسات التعليم الخصوصي، تطبيق مبدأ “نفس الواجبات، نفس الحقوق” لتحقيق المساواة بين شغيلة القطاع الخاص والقطاع العمومي (رواتب، ترقيات، عطل، رخص، حماية اجتماعية… إلخ)؛ وفي الأساس مطلب تدعيم المدرسة العمومية عبرت توظيفات واسعة وتمويل قادر على توفير البنية التحتية الملائمة.
تمويل التعليم يجب أن يقع على راس المال وليس على الاجور
إن التعليم في دولة راس المال، هو تعليم يخدم في النهاية حاجات هذا الأخير، من عمال مهرة ومستهلكين لهم مستوى معين يؤهلهم للاختيار، إنه القطاع الدي يغذي “جيش الاحتياط” الدي تعتمد عله البورجوازية في الضغط على الأجور، مثلما هو القطاع الذي ينتج لهم عمالا طيعين قابلين بقوانين الاستغلال ومتكيفين معها. هكذا باختصار ترى الطبقات السائدة المدرسة والتعليم العمومي، لكنها في نفس الوقت تسعى للتنصل من تكاليفه ورميها على حصة الطبقة العاملة، أي على الأجور. إن مطلب كل الطبقة العاملة وفي قلبها شغيلة التعليم العمومي هو أن تمويل التعليم يجب أن يقع على البورجوازيين أساسا عبر ضريبة تصاعدية على الرساميل الكبرى، ومحاربة كل تهرب أو غش ضريبي أو تهريب للأرباح والرساميل للخارج. مثلما يجب أن يسير هذا المطلب جنبا إلى جنب مع إنهاء كل التعليم التجاري عبر تأميمه ومع مواجهة سيطرة الطبقات السائدة على مضامين التعليم ومدى تلبيته للحاجات الحقيقية منه، في اتجاه جعله أداة لتحرير الشعب وليس أداة لإدامة الاستغلال.
بقلم: فاتح رضوان
==============
[1] حافظة مشاريع تفعيل مضامين القانون الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي. صيغة 20 فبراير 2020. ص 29
[2]” سيرورة إرساء وتطور السياسات التعليمية بالمغرب” – كتاب من إصدار جمعية أطاك المغرب.
اقرأ أيضا