الإمبراطوريّة والمقاومة.. الاختزال القاتل!
بقلم : علي شلق
لمفهوم الهيمنة (Hegemony) عند أنطونيو غرامشي فضلٌ كبيرٌ في تجاوز الماركسيّة لقالبها الإقتصادويّ الضيّق. فقد فتح هذا المفهوم آفاق النظريّة الماركسيّة خاصّةً، والإجتماعيّة عامّةً، على مسائل السياسة والثقافة، وذلك في سعيه للإجابة على سؤال تشكّل السلطة الطبقيّة في الدول الوطنيّة. في التفاصيل أنّه في المجتمعات المتقدّمة، قد تفوز الطبقات المتنفّذة والمُصطلح على تسميتها “البرجوازيّة” بالسلطة الإقتصاديّة والسياسيّة عن طريق القسر والعنف لتدجين الطبقات والفئات المحكومة. ولكن دوام هذه السلطة واستقرارها لا يتمّ من دون تحويل السيطرة البرجوازيّة إلى هيمنةٍ فكريّةٍ وأخلاقيّةٍ تبسطها على معظم القوى المجتمعيّة الأخرى في الدولة، إن لم نقل كلّها. أما نجاح هذه المهمّة فيعتمد على كفاءة البرجوازيّة الواعية لموقعها الطبقيّ في صوغ عناوين وأفكار شعبيّةٍ-وطنيةٍ تتجاوز مصالحها الماديّة الضيّقة، وتؤمّن لها إجماع الطبقات المحكومة. وغالباً ما يكون انخراط المحكومين الإيديولوجيّ في هذا الإجماع متناقضاً مع مصالحهم الطبقيّة. وما يزال مفهوم الهيمنة محلّ جدلٍ فكريٍّ لم يخفت وهجه برغم انقضاء ما يناهز القرن على كتابات غرامشي عنها في دفاتر سجنه الغنيّة عن التعريف. وإذا كانت غاية غرامشي من خلال هذا المفهوم الإضاءة على أسباب انتظام السلطة البرجوازيّة في إطار الدولة الوطنيّة، لم يلتزم الكتّاب اللاحقون بالضرورة بهذا الإطار. فقد تخطّاه العديد منهم في محاولتهم التنظير للإمبرياليّة الأميركية، ولا سيّما في أوجّ بريقها في العقود الثلاثة من الرخاء الاقتصادي الّتي تلت الحرب العالميّة الثانية، فزعموا أنّ هذه الإمبرياليّة هي هيمنةٌ على النظام الدوليّ تُؤسّس لما سمّي “السلام الأميركيّ” (Pax Americana). لم يطل الأمر قبل أن يتنبّه آخرون إلى أنّ هذه الهيمنة المزعومة لم تترافق مع الأمن والسلام الموعودين. لا بل بدا وكأنّ منسوب العنف والحرب قد ارتفعا في ظلّ هذه الهيمنة، لا سيّما في بلدان العالم الثالث.
الثورة الخضراء!
هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا العنف لم يقتصر على حروب التحرّر الوطنيّ الّتي استعر جُلّها بين بلدان المركز المستعمِرة والأطراف المستعمَرة عشيّة الحرب العالميّة الثانية حتّى منتصف ستينيّات القرن الماضي. فقد تحوّل هذا العنف في المرحلة التالية إلى داخل دول الجنوب الوطنيّة على شكل صراعاتٍ دمويّةٍ ذات خلفيّاتٍ غالبها طبقيّ. والأدهى من ذلك أنّ العديد من هذه الصراعات كان في مواجهة أدوات الهيمنة ذاتها. ومثالٌ على ذلك “الثورة الخضراء” الّتي روّجت لها الإدارة الأميركيّة لدى حكومات العالم الثالث كالمكسيك والهند والفيليبّين، وهدفها المعلن تعزيز إنتاجية صغار المزارعين والفلاحين من خلال اعتماد أصناف المحاصيل عالية الإنتاجية وتقنيّات الزراعة الحديثة. وكانت الغاية الاستراتيجية من ذلك تحسين معيشة الفلّاحين ومن ثمّ حرفهم عن المسار الثوريّ الّذي كان خطره داهماً في النصف الثاني من القرن العشرين. إلّا أنّ النتيجة كثيراً ما جانبت تمنّيات هذا الخطاب المهيمن السائد. إذ أدّت الثورة الخضراء في أغلب الأحيان إلى إفقار صغار الفلّاحين بدل اغتنائهم، وخسارة العديد منهم لأراضيهم، وتفاقم الفوارق الطبقية بشكلٍ عامٍّ في الأرياف. وقد أدّى ذلك بدوره إلى تزايد منسوب العنف الطبقيّ بشكلٍ حدا بالسلطات الوطنيّة إلى الاعتماد المتزايد على أدوات القمع سعياً منها لإعادة الانتظام الاجتماعي.
إنّ الغاية ممّا سلف أعلاه هي الدعوة إلى التأمّل في طرائق بسط الإمبرياليّة لهيمنتها، وفي المجال العربيّ تحديداً. لا مناصّ هنا من إعادة النظر في التباسات علاقة الإمبراطوريّة بالقوى المناهضة لها، بدءاً بحركات التحرّر الوطنيّ وانتهاءً بسليلتها حركات المقاومة من قوميّةٍ ويساريّةٍ وإسلاميّة. هل هي دوماً علاقة تناقضٍ بين بدائل كما توحي النعوت الّتي تستعمل في توصيف هذه المقاومات على أنّها مناهضةٌ للهيمنة (counter-hegemonic) أو النظام العالميّ (anti-systemic)؟ أم أنّ الباب مفتوحٌ على احتمالات التكامل البنيويّ ولو اقترن بالصراع الإيديولوجي والعسكريّ؟ بمعنىً آخر، هل بالإمكان الزعم أنّ التطوّر التاريخيّ لهيمنة الإمبراطوريّة الأميركيّة على الوطن العربيّ، لا سيّما مشرقه، لم يتناقض بالضرورة مع أشكال المقاومات الّتي نهضت وتبلورت في مواجهته، لا بل اقتات عليها بدلاً من بذل المساعي الجادّة لاجتراح اجماعاتٍ ولو زائفةٍ مع المجتمعات العربيّة كما أنبأنا غرامشي؟ وما ماهيّة الدور الّذي لعبه قيام إسرائيل دولةً مستعمرةً على أنقاض فلسطين وأشلاء أهلها، في حين كانت سائر أقطار العالم الثالث تسير بخطىً حثيثةٍ نحو التحرّر من الاستعمار المباشر؟
حروب التحرر الوطني
في محاولة الإجابة على الأسئلة أعلاه، لنعد في خطوةٍ أولى إلى زمن الاستعمار المباشر وما رافقه من حروب تحرّرٍ وطنيّ. من الممكن أن نقترح هنا ما يلي مع شيءٍ من التبسيط: الاستعمار المباشر إن هو إلّا تقسيم عملٍ دولتيٌّ للرأسماليّة العالميّة يتزيّا بلبوسٍ وطنيّ، بمعنى أنّ الاستغلال الطبقيّ فيه يتظهّر بشكلٍ رئيسٍ على أنّه طغيان دولةٍ أو قوميّةٍ على أخرى. وفيه تصادر عصب السلطة في دول المركز ثروات ومقدّرات المجتمعات المستعمَرة، تعاونها على ذلك فئاتٌ محلّيّةٌ متنفّذة ككبار ملّاكي الأراضي في الأرياف وكبار التجّار في المدن. أمّا السواد الأعظم من هذه المجتمعات بفلّاحيه وطبقاته العاملة الناشئة، فقد خسر وافتقر حكماً في هذه المرحلة التاريخيّة. إلّا أنّ الحكم على المفاعيل الطبقيّة للاستغلال الاستعماريّ لا يكتمل من دون إدراج الطبقات الوسطى الناشئة بين جمهرة الخاسرين. إذ أنّ هذه الطبقات الّتي تلقّت تعليمها وتدريبها في مؤسّسات الاستعمار وجدت نفسها على هامش مراكز القوّة ودوائر تراكم رأس المال الواقعة في قبضة المركز الإمبراطوريّ وزبائنه المحلّيّين. إنّ حروب التحرّر الوطنيّ هي بجوهرها التركة التاريخيّة لالتحام هاتين الكتلتين المجتمعيّتين الّلتين همّشهما تقسيم العمل الاجتماعي للإمبرياليّة: من جهةٍ المجموعات البشريّة الكبرى من الفلّاحين والعمّال الّذين كفروا بأزمة الإنتاج والتنشئة الاجتماعية الجاثمة على صدورهم، ومن جهةٍ أخرى الطبقات الوسطى الطريّة العود والباحثة عن دورٍ سياسيّ واقتصاديٍّ لها تلعبه في إطار دولٍ وطنيّةٍ رسمت حدودها دول المركز الإمبراطوريّ. الطبقات الوسطى ومن نافلة القول إنّ الطبقات الوسطى هي من أنتجت معظم قيادات هذه المواجهة التاريخيّة مع الاستعمار واحتكرت صياغة أدبيّاتها المتمحورة حول الكفاح الوطنيّ لانتزاع الاستقلال من المستعمر الغاصب، في حين لم تتوانَ طبقات الفلّاحين والعمّال برفدها بجنودٍ بذلوا أرواحهم في أرض المعركة. في معركة التحرّر الوطنيّ، تطابقت المسألة الوطنيّة مع تلك الدولتيّة والطبقيّة. إذ من المفترض أن تؤول حروب التحرّر الوطنيّ إلى استقلالٍ يحمل إمكانيّة بناء مقدّرات الدولة الوطنيّة لكي تخرج من التبعيّة المفروضة عليها من جانب تقسيم العمل الدوليّ للإمبرياليّة. كما أنّ الاستقلال عن المستعمِر شرطٌ ضروريٌّ، وإن لم يكن كافياً، لصدّ علاقات الاستغلال الكولونياليّة الرازح تحتها الفلّاحون والعمّال في المستعمرات، إن لم نقل الطبقات الوسطى نفسها، والسير في خطىً ثابتةٍ لإحقاق العدالة الاجتماعية في دولة ما بعد الاستقلال ذات السيادة. هذان احتمالان مستقبليّان يستلزمان، بعيد الاستقلال والإمساك بزمام السلطة، جهوداً عملاقةً ومحفوفةً بالمخاطر من جانب قيادات حركات التحرّر الوطنيّ. إلّا أنّ هذه الأخيرة كثيراً ما تحدّثت عنهما كحتميّتين تاريخيّتين، ثمّ أعقبت أنّ هاتين الحتميّتين متلازمتان، على الرغم من أنّ النجاح في المسألة الدولتيّة لا ينسحب تلقائيّاً على المسألة الطبقيّة. وبالفعل فقد ذهب الكثير من المفكّرين الماركسيّين والفوضويّين إلى القول بتناقض المسألتين، ما قد يستدعي إمّا إلغاء الدولة كشرطٍ لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، وإمّا الاعتماد عليها مرحليّاً بعد الثورة الاشتراكية، على أمل تحقيق مجتمعٍ شيوعيٍّ تنتفي فيه الحاجة إلى الدولة، فتتلاشى تلقائيّاً. كلّ ذلك يشير إلى تبدّلٍ عميق في الأولويّات بعيد الاستقلال، وبالتالي ضرورة الارتفاع بالوعي السياسيّ لقوى التحرّر الوطنيّ بشكلٍ بتناسب مع هذا الظرف التاريخيّ الجديد.
تهميش المسألة الوطنية
بالعودة إلى الوطن العربيّ، فقد يصحّ القول إنّ الظروف التاريخيّة الّتي أحاطت بدول العالم الثالث ومكّنت القيادات السياسيّة والنخب الفكريّة فيها إلى العبور الذهنيّ إلى مرحلة ما بعد الاستقلال لم تنسحب على الأقطار العربيّة. فالاستقلال يستدعي تهميش المسألة الوطنيّة لصالح التصدّي لمسألتي الدولة والطبقة. لا يعني ذلك انتفاء هذه المسألة بقدر ما هو ذوبانها في مسألتي الدولة والطبقة.
بالتأكيد لم تفلح كلّ هذه الدول في النهوض باقتصاداتها والخروج من تبعيّتها الاقتصادية والسياسيّة لدول المركز، وفشل الكثير منها في إحقاق ولو حدٍّ أدنى من العدالة الاجتماعية. لكنّ الاحتمال كان موجوداً على الأقلّ. أمّا في الوطن العربيّ، فلم تقتصر المسألة بعد الاستقلال على المواجهة غير المتكافئة مع الولايات المتّحدة وهيمنتها المستجدّة على النظام العالميّ، بل أضيف إلى ذلك زرع دولة إسرائيل كياناً استعماريّاً جديداً في صلب المشرق العربيّ. كان لذلك كلّه أثرٌ مدمّرٌ في الوعي العربيّ يمكن تلخيصه كالتالي: ثبات ورسوخ المسألة الوطنيّة في العقل السياسيّ والفكريّ العربيّ، وترحيل مسألة الدولة والمسألة الطبقية إلى ما بعد تحرير فلسطين؛ أي عمليّاً إلى أجلٍ غير مسمّى. وقد جعلت الهيمنة الرأسماليّة الأميركيّة من المجال العربيّ عامّةً ومشرقه خاصّةً موضوعاً دائماً لمغامراتها الإمبرياليّة، ففرضت عليه المواجهة مع إسرائيل أداةً إقليميّةً دائمةً لها. وانخرطت أقطارٌ وأحزابٌ وحركاتٌ وفصائلٌ عربيّةٌ انخراطا كبيراً في هذا الصراع، كما أنّ النخب الثقافيّة والفكريّة لم تتوانَ في التصدّي لهذه الهيمنة كتابةً وتنظيراً إيديولوجيّاً. إلّا أنّ المواجهة أتت قاصرةً في المجمل. ذلك أنّ اختزال المسألة كصراع تحرّرٍ وطنيٍّ من إمبرياليّةٍ متغطرسةٍ أهمل الطبيعة الرأسماليّة والمركّبة لهذه الأخيرة، فكان ذلك الاختزال قاتلاً.
وماذا عن الطبقة؟
تماهى عموم العرب مع فلسطين وفهموا المواجهة على أنّها مواجهةٌ عسكريّةٌ صرفةٌ من نمط حرب العصابات لا مكان للدولة فيها، ولا سيّما بعد النكسة سنة 1967، وذلك بالرغم من انتظامهم في دولٍ مستقلّةٍ -باستثناء فلسطين -تتناقض بنيويّاً مع مفهوم وممارسات التحرّر الوطنيّ. إنّ تجربتي الأردن ولبنان مع حركات المقاومة الفلسطينيّة في سبعينيّات القرن الماضي هي مثال حيٌّ على هذا التناقض، وقد تحدّثت عنه الأدبيّات السياسيّة العربيّة حصراً بمفردات الخيانة والعمالة من دون التطرّق إلى موازين القوى والبنى السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية الّتي تحكّمت بمسار الأحداث، فاستعصى الاستخلاص العقلانيّ للعبر. أضف إلى ذلك أنّ المضيّ في ذهنيّةٍ تُعلي شأن المقاومة العسكريّة على كلّ ما سواها بعد الاستقلال أحال المواجهة إلى عملٍ عصبويٍّ يقتصر على زمرٍ ضيّقةٍ من المقاتلين، ما أغلق إمكانيّات تعميمها من خلال بذل الجهود لتطوير القدرات الإنتاجيّة للمجتمع بكلّ شرائحه ـ ومن ضمنه الجيوش النظاميّة ـ بريادة الدولة.
وماذا عن الطبقة؟
لا شكّ أنّ أولويّة المقاومة في الوعي العربيّ جعل من إمكانيّة ولوج المسألة الطبقيّة فهماً وممارسةً شبه استحالة. ذلك أنّ اليسار العربيّ لم يهتمّ بما فيه الكفاية لتحوّلات هذه المسألة وانفكاكها عن تلك الوطنيّة بعد الاستقلال وتحوّلها بشكلٍ كبير إلى داخل الدول الوطنيّة، لا سيّما بعد إمساك قوى التحرّر الوطنيّ بزمام السلطة السياسيّة والشروع في ترجمتها إلى سلطة اقتصاديّة غالباً ما حاكت استغلاليّة وجشع سلفها المستعمِر. مضى عوضاً عن ذلك بمماهاة المسألتين، ما عنى عمليّاً الإعراض عن التحليل الطبقيّ والتفرّد لخطابات الصمود والتصدّي بوجه الاستعمار. لم يؤدِّ ذلك إلى مساهمة اليسار في ضرب مفهوم الدولة وانتظامها فحسب، بل إلى فشله أيضاً في استيلاد رؤية للنهوض بالمجتمع وتطوير قواه الإنتاجيّة بشكل يسهم في تعزيز العدالة الاجتماعية ويجعل من مواجهة الاستعمار وتحرير فلسطين احتمالاً قائماً. سار اليسار العربي ولم يزل بملء إرادته في دربٍ من اللاعقلانيّة والألفيّة كان فيها مقتله. ذلك أنّ هذا المسار من الإعراض عن الخوض في شؤون الدولة والصراعات الطبقيّة القائمة والتفرّغ لـ”المعركة” تناغم بشدّة مع البنية الذهنيّة الخلاصيّة للإسلام السياسيّ. وبالفعل، وابتداءً من ثمانينيّات القرن الماضي، أزاح الإسلام السياسيّ اليسار العربيّ، ومعه أدبيّات الصراع الطبقيّ المتنافرة مع النيوليبراليّة الصاعدة، من ساحة المقاومة والسياسة حتّى كادت تخلو له بشكلٍ تامّ.
خُلاصات سريعة
في مُحصّلة هذه الصيرورة التاريخيّة الّتي حاولنا رسم خطوطها العريضة أعلاه، لا بدّ من الاستخلاص أنّ الهيمنة الإمبراطوريّة نجحت نجاحاً باهراً في تشويه الوعي السياسي العربيّ بعد الاستقلال من خلال مسخ منطقه ليستحيل جيوسياسيّاّ (geopolitical) بالممارسة والفكر، ومعرضاً عن أسئلة والتباسات الدولة والطبقة. ولا شكّ أنّ العربدة الإمبرياليّة في أرض العرب وغرس إسرائيل في أرض فلسطين بالحديد والدم ضغطاً عظيماً في سبيل دفع العرب ومنظومتهم السياسيّة في هذا الاتجاه. لكن المأساة كانت في استدماج (internalization) النخب العربيّة لهذه الحالة. من جهة، تماهى اليسار العربيّ مع فلسطين فانخرط في مقاومةٍ لاعقلانيّةٍ للهيمنة الإمبرياليّة والصهيونيّة سرعان ما آلت قيادتها إلى الإسلام السياسيّ. ومن جهةٍ أخرى، أدّى تأجيل اليسار للمسألتين الدولتيّة والطبقيّة، ودفن الإسلام السياسيّ لهما، إلى ترك الساحة خاليةً للأنظمة العربيّة ولسياسة الدولة والتحكيم بين فئاتها المجتمعيّة. والنتيجة كما هو معلوم كانت ولم تزل غايةً في البؤس، ولا سيّما بعد نكسة 1967 وقبلها ولادة أسطورة الكفاح المسلّح وبندقيّته المستقلّة. تزامناً، تباطأ الاقتصاد العالميّ تمهيداً لقدوم النيوليبراليّة وتبشيرها بأفول دور الدولة الوطنيّة التنمويّ، وبالتالي، أدركت الأنظمة العربيّة والطغم الاقتصادية المتحلّقة حولها أنّه مع تفرّغ الوعي السياسيّ العربيّ للشأن الوطنيّ المقاوم خلت الساحة لها لتُعرض عن الأسئلة الشائكة للدولة من إنتاج الثروة والتقدّم إلى العدالة الاجتماعية. انبرت عوضاً عن ذلك لدمج اقتصادات أقطارها دمجاً طرفيّاً وتبعيّاً في الاقتصاد العالمي، لا لشيءٍ إلّا لأنّ البرجوازيّة تختار دوماً الطريق الأسهل لمراكمة رأس المال. بمعنىً آخر، أفسح قصور الوعي السياسيّ العربي المجال أمام البورجوازيّات العربيّة للسير في نهجٍ كومبرادوريّ لمراكمة رأس المال من دون معارضةٍ تذكر. هو تناقضٌ كبير تتساكن فيه مقاومةٌ ضروسٌ للإمبرياليّة مع موادعةٍ للرأسماليّة العالميّة الحاضنة لهذه الإمبرياليّة. صراعٌ لامتكافىءٌ متحنّطٌ في قالبٍ وطنيٍّ كان من المفترض أن يعفو عليه الزمن، إلّا أنّ قوى المقاومة ارتضته سقفاً أبديّاً لوعيها وعملها السياسيّين. كأنّما وجدت فيه حجّة غيابها عن الخوض في سبل النهوض بالدولة والمجتمع أملاً في تعديل ميزان القوى وبلوغ التكافؤ الّذي به وحده تتاح إمكانيّة عقلنة الصراع وبلوغ النصر فيه. ليس في كلّ ما سلف أيّ نيّةٍ للانتقاصٍ من التضحيات الجسام الّتي بذلتها أجيالٌ من الفدائيّين والمناضلين والمجاهدين في سبيل الذود عن ديار العرب، وفي مقدّمها فلسطين، تماماً كما هي الحال الآن في غزّة الّتي يبدو أنّ إسرائيل والإمبراطوريّة من ورائها ارتأوا إبادتها من على وجه المعمورة. لكنّ المأساة تكمن في أنّ هذا الشكل من المواجهة أتت نتائجه التاريخيّة عكسيّة، إذ سمح للبرجوازيّات العربيّة بالتملّص من السير في درب التقدّم العسيرة، وبالتالي سلوك طريقٍ من التبعيّة الاقتصادية والسياسيّة والثقافيّة للإمبراطوريّة. لذلك لا بدّ من التسليم بمكر الهيمنة الإمبراطوريّة الّتي جعلت من مقاوماتها في الوطن العربيّ أداةً لتوطيد دعائمها في أقطاره. ولتكن العبرة في ذلك أنّه في فكرة المقاومة ثمة سذاجة مفهوميّة قوامها الإشاحة بالنظر عن التباسات الهيمنة والدولة والطبقة والهتاف بالنصر عند سقوطٍ أي صاروخٍ في تل أبيب. على أن يلي ذلك البحث الجادّ عن مكرٍ مضادٍّ يُسلّم جهاراً بهزيمة العرب وعقم أشكال مقاومتهم، وينتقل سريعاً إلى تعديل أولويّة السياسة لمصلحة النهوض بالدولة والمجتمع بطبقاته. أخيراً وليس آخراً، فليأتِ تحرير فلسطين ثمرةً لمسارٍ عربيٍّ نهضويٍّ، بدلاً من أن يكون جوهراً لقضيّةٍ عربيّةٍ مستحيلة، عسى ألا يُردّد البعض أن هذا النقاش ليس هذا هو أوانه المناسب!
علي شلق: كاتب وأستاذ جامعي، لبنان
مصدر: https://180post.com/archives/41465
اقرأ أيضا