الشباب عندما تُجهض أحلامه على اعتاب الرأسمالية
يشكل الشباب نسبة كبيرة من سكان كوكبنا، فحوالي 1.2 مليار منهم تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة، يمثلون 16 في المائة من سكان العالم، ومن المتوقع أن يرتفع عدد الشباب بنسبة 7 في المائة بحلول عام 2030 ليصل إلى حوالي 1.3 مليار شاب وشابة. *
تستند الدعاية الأيديولوجية الرأسمالية الكثيفة على إثارة طموحاتهم المشروعة، وتستعمل مخاوفهم الواقعية لتغرس في أذهانهم أنها هنا لتلبية آمانيهم وتحقيق طموحاتهم، سيرا على درب من صعدوا من الأسفل وبلغوا القمة في مجالات عدة (الرياضة، الأعمال، الإعلام، الفن…)، لكن تبعات تناقضات الرأسمالية تخيب تلك الطموحات.
وعدت الرأسمالية المنتصرة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي سنة 1991 ببناء عالم جديد مزدهر يلبي الحاجيات الأساسية للبشرية. انصرمت ثلاث عقود أبانت عن أزمات الرأسمالية العنيفة وعجزها الموضوعي عن تلبية الحاجيات الإنسانية الأساسية، بل إنها تشكل تهديدا وشيكا للحياة فوق كوكب الأرض بتدميرها المجنون للبيئة وبخطر أسلحة الدمار الشامل التي بات التلويح بها كلعبة أطفال مسلية.
تتحطم أحلام الشباب على صخرة الواقع، فالرأسمالية قائمة على تراتبية طبقية صارمة بين أقلية مالكة تمتلك الثروات وغالبية ساحقة ممن لا يملكون إلا قوة عملهم، مع فئات وسطى تتوسع نسبيا لفترة ويتقلص حجمها في أخرى لأنها قربان أزمات دورية تضرب الرأسمالية.
شهدنا في العقود الماضية موجات نضال شبابية كبرى بعضها شمل بلدان عديدة وأخرى ظهر كموجة عالمية.
– حركة النضال ضد البطالة وغلاء المعيشة: البطالة الجماهيرية التي تسحق الشباب في المراكز الرأسمالية واطرافها. ظهرت تنظيمات وطنية وقارية (حركة البيكتروس بالأرجنتين وAC بفرنسا والجمعية الوطنية بالمغرب)، مطلبها الحق في الشغل للجميع، وقد عبأت مئات الآلاف وخاضت نضالات كبيرة خصوصا في القارة الاوربية
– حركة مناهضة العولمة النيوليبرالية: أطلق شرارتها منتدى بورتو اليغري 2001 وسلسلة منتديات اجتماعية وطنية وقارية للحركات الاجتماعية المتنوعة. حركت هذه الدينامية مئات آلاف الرافضين للسيطرة المنفلت للشركات المتعددة الجنسيات والبنوك العالمية والهجوم على الحقوق الأساسية للبشرية لفائدة الأرباح الخاصة. كانت أكبر النضالات الأممية ومخبرا مهما لتفكيك الأيديولوجيا النيوليبرالية التي هيمنة بقوة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي تحت شعار “إن عالما آخر ممكن”.
– النضال ضد الحرب الإمبريالية ولأجل السلم: أثار الغزو الإمبريالي للعراق سنة 2003 وحملات التضامن مع الشعب الفلسطيني واشتداد النزعات العسكرية والتهديدات باستعمال أسلحة الدمار الشامل حركات نضال واسعة لعب فيها الشباب دورا رئيسيا.
– النضال ضد التدمير البيئي: الاحتباس الحراري بسبب الثلوث المنفلت بدفع من رأسمالية نيوليبرالية مستنزفة للثروات الطبيعية ومبدرة بشكل فوضوي خدمة لسعي محموم للأرباح وضعت استمرار الحياة على الأرض محط شك. ضد الكارثة البيئية تعبأت الملايين من سكان الأرض لإجبار الرأسماليين على وقف اندفاعهم نحو جر الإنسانية لمحرقة بيئية بادية للعيان.
– النضال ضد اضطهاد النساء ولأجل المساواة: ضد اضطهاد النساء بأشكالها الموروثة عن حقب ماضية وأوجهه الحديثة، والتناقض بين توفر الإمكانات المادية الجبارة لتحررهن وواقع اضطهاد مزدوج تعززه صعود أيديولوجيات يمينية رجعية تضع العداء لتحرر النساء في صلب دعايتها.
– النضال ضد الديكتاتوريات العميلة ولأجل الديمقراطية الشاملة: الموجة الأولى مطلع التسعينات ضد حكم الحزب الواحد وضد الأنظمة العسكرية، والثانية موجة السيرورة الثورية بمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط. كان الشباب محور الدينامية الثورية تلك وهي تعبير عن إحباط عميق من البؤس الاجتماعي والتخلف الاقتصادي والتبعية الذليلة للمراكز الإمبريالية في ظل أنظمة حكم شديدة الديكتاتورية.
موجات النضال تلك هدفها سعي لإجبار الرأسمالية على تحقيق ما قطعته من عهود وما أشهرته من وعود. بالرغم من الثروة الهائلة التي يملكها كبار الرأسماليين وتزايد قوة الشركات الكبرى لدرجة خيالية لكن مئات الملايين من الشباب عاطل عن العمل ويسحقون يوميا في عالم لا يرحم**. ورغم انتهاء المعسكر السوفياتي لم يحل السلم بل أن التدخلات الامبريالية والنزعات الإقليمية وسباق التسلح وتنافس المعسكرات والتهديدات النووية اشتدت وتنذر بكوارث دمار شامل. ورغم ضخامة الإنتاج الغذائي وكل وسائل العيش إلا أن الفقر يمس ملايين البشر بما فيه في المراكز الإمبريالية وشعوب مهددة دوريا بمجاعة مميتة وتمثل وفيات الأطفال بسبب سوء التغذية من أكثر جرائم النظام الرأسمالي بشاعة. ***
تديم الرأسمالية اليوم التراتبية العالمية الظالمة بين مركز إمبريالي مترف ومحيط تابع بائس عرضة للنهب وخاضع لتراتبية صارمة تشرف على استدامتها مؤسسات الإمبريالية المالية والسياسية والعسكرية، يسير ذلك كله بدعم أنظمة ديكتاتورية فاسدة خادمة ومستفيدة من التبعية للإمبريالية.
تعتبر الأزمات العنيفة التي تصيب الرأسمالية أشد لحظات انبلاج الحقيقة العارية وانكشاف الدعاية الأيديولوجية للرأسمالية. أبانت أزمتي 2008 المالية وأزمة كوفيد 19 حقيقة النظام الرأسمالي وعجزه التام عن تلبية المطامح المشروعة للشباب، ليس لقلة الوسائل والثروات بل بسبب أن الملكية الخاصة والسعي للربح الخاص هو محركه الأساسي وليس تلبية الحاجيات الاجتماعية الأساسية للإنسانية ولا الحفاظ على المحيط البيئي من الاستنزاف.
ليست النضالات الشبيبة الحالية قطيعة مع الرأسمالية وسعي لتجاوزها لبناء الاشتراكية كما حال موجة نهاية الستينات القرن الماضي، بل هي نضال لأجل الاندماج في الرأسمالية وحملها على تنفيذ وعود يتناقض تحقيقها مع روح نظامها الاقتصادي وقوانينه، هذا ما يحكم على النضالات تلك بغض النظر عن زخمها بالدوران في دائرة مغلقة ما لم تعِ أن تلبية طموحاتها يتجاوز نظام المليكة الخاصة لوسائل الإنتاج وأن تخطى الرأسمالية شرط أساس للخروج من دوامة الأزمات الاقتصادية والبيئية ولجم المخاطر المهددة للكوكب كله.
الأجيال الشابة الصاعدة عليها اكتشاف الطريق لتجاوز أزمات النظام الرأسمالي الخطيرة انطلاقا من تجاربها الملموسة وباستخلاص دروس فشل الأجيال السابقة التي خبرت حربيين عالميتين دفعتها دفعا إلى قطيعة ثورية مع الرأسمالية لكنها فشلت في توطيد بديل اشتراكي ديمقراطي وانساني ملهم. الأجيال الصاعدة تتحمل مسؤولية النضال لتحقيق طموحات مشروعة تنسفها الرأسمالية يوميا، وفي الآن نفسه تتحمل على كاهلها مهمة إنقاذ الكائن البشري وكوكب الأرض من البقاء نتيجة الكارثة البيئية وشيكة الانفجار وخطر ترسانة أسلحة الدمار الشامل.
تحوز الرأسمالية اليوم على آلة جبارة للهيمنة الأيديولوجية بشكل لا نضير له في تاريخ البشرية. دفع اختراع الانترنيت وتقنيات التواصل الحديثة هيمنة الأيديولوجيا الرأسمالية إلى مستويات غير مسبوقة، وانزوت المنظورات المناهضة للرأسمالية إلى الهامش. ليست التطورات التقنية سبب ذلك بل انعكاس لميزان قوى طبقي ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وما نتج عنه من فقدان الاشتراكية كبديل للرأسمالية للمصداقية في نظر الطلائع العمالية عالميا.
الدعاية الأيديولوجية السائدة نجحت لحد الساعة في حجب الطلائع الشبابية عن استعادة منظور تغيير جذري وشامل للرأسمالية وبناء مجتمع يلبي الحاجيات الأساسية ويحافظ على البيئة أي الاشتراكية.
الاشتراكية ليست نصوص كتب بل حاجة ملموسة تتسرب في كل مسام حياتنا اليومية وفي كل نفحة هواء نتنفسها. فوضى الرأسمالية وعنف أزماتها وتدميرها المنفلت للبيئة ونزعتها العسكرية والمقامرة بتحويل الأرض لمقبرة جماعيا تضعها دوريا هدفا لضحاياها الطبقيين.
تعصف الأزمات الدورية للرأسمالية بالأوهام المستحكمة بعقول الشباب وتبلبل يقينيات غرست في عقولهم، ويندفعون تحت وقع صدمتهم للنضال الجماعي بدفع مثل عليا وطموحات خاصة مجهضة، دون وعي أن تحقيق تلك المثل والطموحات يتجاوز الرأسمالية. تكمن مهمة الاشتراكيين الثوريين اليوم في أن يجدوا موطئ قدم في قلب النضالات الشبابية، وأن يخصبوها بمنظورات مقنعة بضرورة بديل إجمالي للرأسمالية، انطلاقا من تجربة الأجيال الجديدة وخصائصها وباستعمال التقنيات الحديثة للتواصل والإعلام وأشكال التعبير الجديدة.
المناضل-ة
اقرأ أيضا