سياق تَجَدّد الدعوة لتعديل مدونة الأسرة
بقلم: ماسين
عادت إلى الواجهة نقاشات كثيرة حول إصلاحات مدونة الأسرة سواء من طرف المنظمات النسائية الحزبية أو الجمعوية والإعلامية، بعد إعلانها في خطاب العرش 2022، والتي كانت بديلا عن مدونة الأحوال الشخصية. فمنذ إعلان إصلاحها بداية الألفية، سارعت أقسام من المعارضة سواء الرجعية الدينية أو أطياف الليبراليين المحافظين إلى معارضتها حسب توجهها اليميني أو الاصلاحي. إلا أنه وبعد المصادقة عليها ارتكنت تلك المعارضة للصمت واعتبرتها «ثورة اجتماعية هادئة».
نفس السياق يرافق الآن التعديلات المرتقبة لهذه المدونة. لكن الأساسي هو أن هذا التغيير أو الإصلاح فرضته مجموع التغيرات الطارئة في المجتمع المغربي، والسياق الدولي والتي أثرت على مكانة المرأة والأسرة وفاقمت من ظروف هشاشتهما، ما عمقته بقدر كبير جائحة كوفيد 19، وسياق الحجر الصحي، الذي بين تهافت المدونة وموادها في الفصل في نزاع الأسر التي تستهدف تبعاتها النساء والأطفال بدرجة أكبر، لهذا فالإصلاح المرتقب جاء تبعا لمجموع التغيرات الطارئة على منظومة الأحكام القانونية والاجتماعية والسياسية بالمغرب، نخص بالذكر دستور 2011، ومشروع القانون الجنائي …الخ، التي أجبرت النظام التكيف معها دون المس بجوهره الطبقي والاستبدادي والبطريريكي.
السياق العام
لم يأتِ الاهتمام بتعديل مدونة الأسرة عبثا، بل جاء كجزء مما تقوم به الدولة من سياسات إصلاح نيوليبرالي لا شعبية، وليدة خضوع تام للسياسات الدولية ومؤسساتها المالية. فبعد سياق الثمانينات وآثار ما سميّ بسياسة التقويم الهيكلي سنة 1983، والتي أحدثت تغيرا في القطاعات الحيوية جراء سياسات الدولة في القطاعات الاجتماعية والصحية، والتي مست بدرجة أكبر الأسرة، وخاصة النساء، إضافة إلى سياق دولي فرضته المؤسسات العالمية خاصة مع بروز المسألة النسوية بشكل كبير منذ نهاية الستينيات ما بعد سنوات الثلاثين المجيدة خصوصا ببلدان المركز الامبريالي، بلغ درجة إجبار تلك المؤسسات في سعيها لاحتواء تجذر الحركة النسائية إلى تبني شعاراتها بعد قص جوهرها الجذري، انتهى بها الأمر الى تبني إتفاقية سيداو للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد النساء والبروتوكول الاختياري الموافق لها خاصة نهاية التسعينيات، والتي تحفَّظ النظام المغربي بداية على التوقيع عليها وأرسل تحفظاته للجمعية العامة، ليوقعها بعد ذلك في غشت من سنة 2015.
خطط الدولة لتكريس تخلف أوضاع النساء
روجت الدولة المغربية لما سميّ بـ»الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية»، والتي كانت بدورها تنفيذا لتوصية خارجية من المؤسسات الدولية المانحة للقروض. وقد أثار عرضها جلبة بين معسكر رجعي ديني رافض لها بمبرر خطرها على الاسرة الإسلامية، والثاني معسكر ليبرالي قانع بذاك الفتات القانوني المدسوس في منظور نيوليبرالي أشمل. بعدها تدخل الملك وحسم الامر فأشاد الطرفين بحكمته وبعد نظره. لكن حصيلة هذه الخطة مجرد وعود وأضاليل في ما ظلَّت وضعية المرأة في الحضيض. لاتزال الأمية ترتفع في صفوف النساء بنسب عالية ويمُتن بسبب الحمل والولادة نتيجة تدهور الخدمات الصحية الأساسية بالمستشفيات العمومية، وهن من تسحقهن البطالة على نحو أكبر، وجزء منهن يشتغل بأجور بائسة وفي قطاعات معروفة بفرط الاستغلال. إن شعار إدماج المرأة في التنمية وما تلاه من خطط نيوليبرالية تستهدف النساء ليست إلا أقنعة خادعة لإخفاء واقع البؤس الذي تعيشنه جراء تطبيق وصفات تندرج ضمن منظور نيوليبرالي شامل تسهر على وضعه مؤسسات إمبريالية عالمية وتطبقه الدولة بحذافيره. إنهم يريدون تحميل النساء المنتميات للطبقات الشعبية كلفة فقرهن ودرء خطر إمكان تفجر نضالاتهن ضد جذور ظلمهن الاجتماعي والاقتصادي. وتعد القروض الصغرى خير مثال يكشف حقيقة برامج الدولة التنموية تجاه النساء، والتي جرَّتهن لطاحونة الاستدانة، وأجبرتهن على بيع ممتلكاتهن البسيطة لسداد الأقساط المتراكمة، وزاد فقر النساء وحجم العنف النفسي الذي تعرضن له هن وأسرهن. إن مخططات الدولة تفرضها سياقات ولا تغير من حال النساء بقدر ما تعمق واقع اضطهادهن بصفتهن نساء.
التغيرات الاجتماعية وسياق 20 فبراير2011
صاحب إصدار مدونة الأسرة سنة 2004 عدة تغيرات اجتماعية وقانونية وسياسية خضّت المجتمع والأسرة والنساء خاصة، حيث بدأت تتضح الأثار المدمرة لسياسات التقشف النيوليبرالي في القطاعات الاجتماعية وباتت أشد وقعا. وواصلت الدولة انسحابها في عدد من القطاعات وتركتها مجالا مفتوحا أمام الاستثمار الخاص، وتم الإجهاز على مجانية خدمات حيوية كالتعليم والصحة، إضافة لإلغاء دعم مجموعة من المواد الأساسية. وردا على هذا الهجوم الشرش اندلعت عدة نضالات شعبية في مدن أكثر تهميشا وتفقيرا كبوعرفة وطاطا وسيدي فني… تصدت لها الدولة بقوة القمع المقرون بتنازلات طفيفة، دون تقديم بدائل حقيقية.
انضاف لهذا الوضع المحلي تأثيرات الوضع العالمي المطبوع بعواقب الأزمة الاقتصادية لسنة 2008، ومستتبعاتها على الاقتصاد العالمي، علاوة على سياق إقليمي تميز بانتفاضات في شمال إفريقيا والمنطقة العربية منذ أواخر 2010 وبداية 2011. وحفز الوضع بالمنطقة الواقع الاجتماعي المتفجر على مستوى البلد وانطلقت نضالات حركة 20 فبراير لتعم مدن وقرى عديدة خاصة في بدايات الحركة. لجأت الدولة للقمع أحيانا للجم الاحتجاجات وأحيانا أخرى إلى أساليب الاحتواء باحتواء قيادات النقابات وتوقيع سلم اجتماعي برمي فتات زيادات في الأجور، وضخ 15 مليار سنتيم في صندوق المقاصة. وبذلك التفت سلطة الاستبداد على مطالب الحركة التي عبرت عنها في شعارات حول العدالة والمساواة والحرية، ولم يستثني جهاز الدولة في تدبيره لحراك 20 فبراير إدراج مطالب الحركة النسائية في دستور 2011 حول المساواة.
تتعرض الترسانة القانونية للدولة بين الفينة والأخرى لاهتزازات قوية تكشف عجزها عندما تطفو إلى السطح قضية عنف جنسي كالاغتصاب، أو تتقدم النساءُ النضالاتِ، كما هو حال النساء السلاليات المطالبات بحقهن في الأراضي الجماعية على نحو مساو للرجال، أو كلما صدرت تقارير عن هيئات رسمية تكشف تفشي العنف ضد النساء.
عرت فترة الحجر الصحي بدورها شدة العنف الأسري ما يشهد على أزمة مؤسسة الأسرة خاصة الكادحة التي تعيش ضغوطا متزايدة كلما تأزمت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. ويعمل الاستبداد السياسي على مراجعة الترسانة القانونية القابلة للتأويل والفجة كلما فرضت عليه مصالحه الخاصة وتعهداته الدولية ذلك، وسعيا منه لمجاراة واقع متحول والتحكم فيه في نفس الآن يعطي الضوء الاخضر لإقرار أو تعديل التشريعات ومنها تلك الخاصة بحقوق النساء القانونية، وضمن هذا السياق تندرج دعوة المؤسسة الملكية «لفتح نقاش عمومي» حول تعديل مدونة الاسرة.
تقارير مؤسسات الدولة تعترف بالخلل دون وقع
تقوم الدولة بحملة واسعة عبر عدة آليات غايتها التمهيد لتنفيذ رؤيتها، فعمدت لصياغة ترسانة قانونية وتعديل وتتميم مدونة الأسرة بمراسيم، وإصدار مجموعة من المنشورات الخاصة بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي منذ سنة 2012 عبارة عن تقارير وإحالات ذاتية بهدف الكشف عن واقع النساء بالمغرب اقتصاديا واجتماعيا، وظروف المساواة بين الجنسين في أماكن العمل وخارجه.
أظهرت هذه التقارير أن المساواة منعدمة بين الجنسين في مجالات عدة، مما يؤثر سلبا على وضعية النساء في المجتمع بشكل عام ومكانتهن في الأسرة بشكل خاص، وهذا ما تؤكده تقارير تصدرها مؤسسات رسمية حول الميز القائم على النوع الاجتماعي.
رافقت الدولة هذه التقارير بإصدار مشاريع قوانين كالقانون المتعلق بإحداث هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز، ومشروع قانون إرساء مجلس استشاري يعنى بالأسرة والطفولة سنة 2016. إضافة لتقرير آخر حول المساواة بين النساء والرجال في الجانب الاجتماعي، الذي بيَّن زيف شعارات الدولة وخططها في شعارات عدم التمييز بين الجنسين، في ولوج الخدمات الاجتماعية والاقتصادية، وهذا يتضح كذلك حتى في العلاقات الأجرية حيث تمنح النساء أجرا أدنى.
لم تصدر هذه التقارير من أجل لا شيء، بل هي درء للحرج الذي تجد فيه الدولة نفسها، عقب كل تقرير تصدره المؤسسات الدولية، والتي تعري دائما واقع اللامساواة بالمغرب بغرض الضغط لتسريع تنفيذ سياساتها. تواجه الدولة ما يصدر عن تلك المؤسسات بتصويب ترسانتها الإعلامية نحو تقاريرها التي ترى فيها الدولة بخسا لجهودها، وتقوم جهات رسمية في المقابل بإصدار تقارير مضادة تثمن التقدم الذي أحرزته الدولة في مجال المساواة المرتبطة بالنوع الاجتماعي مع اعتماد خطط لتزيين صورتها أمام هذه المؤسسات. لا التقارير الصادرة عن مؤسسات دولية ولا عن مؤسسات الدولة ستغير واقع تدهور شروط عيش النساء وخير ما يدل على هذا الوضع، ما جاء في التقرير العام للجنة النموذج التنموي سنة 2019، والذي يبين مدى هشاشة برامج الدولة «الاجتماعية» و»الاقتصادية» الموجهة للنساء القوانين التي يتم سنها من طرف الدولة وأثرها المحدودة على تحسن وضع الأسرة والنساء المغربيات.
النساء ومدونة الاسرة
رافق خروج النساء لسوق الشغل رغم استمرار حدة التمايزات بين الجنسين تغيرات عميقة، والتي تثير قضايا جديدة تفرض واقعا مواكبا لها من طرف الدولة، كإنشاء دور الحضانة والرياض حتى يتسنى للنساء العمل بأريحية والمشاركة بفعالية في كل مناحي الحياة، والتحرر مما يقع على كاهلهن من أعمال رعاية اجتماعية والصحية بالأطفال والمسنين. وتتنكر الدولة والمجتمع اليوم لما تساهم به النساء اجتماعيا واقتصاديا على مستوى الأسر، ويجري تغليف ذلك بغطاء إيديولوجي يحبس النساء في القيام بأدوار اجتماعية بخسة القيمة، وتكرس مدونة الأسرة من جهتها دونية وهشاشة أوضاع النساء الاجتماعية والقانونية تحت مبررات رجعية صرفة، فالنساء يقتحمن كل مجالات الحياة العامة رغم قيود المجتمع الذكوري، وقدن على سبيل المثال وليس الحصر حركات اجتماعية وكان لهن أدوار طليعية خاصة في حراك الريف 2016.
تروج الدولة وإعلامها وأحزابها لتعديل مدونة الأسرة من جديد كما هو حال الحماية الاجتماعية الإجبارية قبل أشهر، إلا أن هذا الإصلاح المنتظر لن يكون إلا نسخة مشوهة لسابقاتها. سيظل واقع النساء بالمغرب على حاله ويتفاقم أكثر مما سبق في سياق الهجوم النيوليبرالي المتواتر على حياة الشعب المغربي وعلى حياة النساء بشكل خاص.
لن تتم معالجة إشكالات الأسرة والنساء خاصة إلا بالقطيعة مع النظرة الرجعية للنساء والخلفية الذكورية التي تصاغ بها المدونة، وتحسين كمي وكيفي للأوضاع الاقتصادية التي تتحمل النساء أوزارها.
يجدر بأي قانون يرتبط بمطالب النساء القانونية كمدونة الأسرة القطع مع الفكر الذكوري الرجعي أثناء صياغتها، وإلا فلن تزيد وضع النساء إلا سوء وتفاقم واقعهن المزري، خاصة في ظل علاقات أسرية مؤسسة على تفاوت المكانة الاقتصادية بين النساء والرجال. وهذا ما يفرض بحث سبل بناء تأسيس حركة نسائية مستقلة ضد كل أشكال الاضطهاد الاجتماعي والاقتصادي والذكوري، من طرف المناضلين/ات التقدميين/ات بالانخراط الجاد في أي مبادرة في هذا الاتجاه، وخاصة الحركة العمالية المنظمة (النقابات) في هذا البناء والنضال من أجله، من خلال العمل على نسونة المطالب النقابية وتمتيع النساء بمكانة داخل النقابات توازي وزنهن المتزايد داخل قوة العمل.
اقرأ أيضا