سوريا وجامعة الدول العربيَّة وعمليَّة الثورة المُضادة: التطبيع مع نظام بشَّار الأسد
- واجهت السعوديّة تحدّيات حقيقيّة قبل التحوّل الأخير في سياستها الخارجيّة. انخفضت تدفّقات الاستثمار الأجنبي المباشر من زيادة بنسبة 200% بين العامين 2018 و2019 إلى زيادة بنسبة 20% بين العامين 2019 و2020. وتأمل السعوديّة حالياً في عكس هذا الانخفاض من خلال جذب المزيد من المستثمرين على أثر تطبيع علاقاتها مع المنطقة واستقرار أزماتها.
- سوف تحاول دمشق استخدام عمليّة التطبيع لتأمين المساعدات والاستثمار، لكن أي إعادة إعمار في ظلّ نظام الأسد لن تخدم الطبقات الشعبية في البلاد، خصوصاً أن سياسات الإعمار ليست مُصمّمة لمعالجة المشاكل الاقتصادية والتفاوتات الاجتماعية في البلاد، بل تعطي الأولويّة لترسيخ قوّة النظام الاستبداديّة، واستخدام الأموال لتغذية الشبكات الزبائنيّة.
بعد تعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربيّة، بحجّة عزل ديكتاتورية بشَّار الأسد على مدى السنوات الاثنتي عشرة الماضية، صوّتت جامعة الدول العربيّة في 7 أيّار/مايو الماضي على إعادة عضويّة سوريا، ودُعِي بشَّار الأسد للمشاركة في القمّة العربية في مدينة جدّة في 19 أيّار/ مايو.
في افتتاح القمّة، أعلن ولي العهد ورئيس وزراء السعوديّة محمد بن سلمان أنه «سعيد بالترحيب بالرئيس بشَّار الأسد»، وأعرب عن أمله بأن «تسهم (عودة سوريا إلى جامعة الدول العربيّة) في دعم استقرار سوريا، وعودة الأمور إلى طبيعتها، واستئناف دورها الطبيعي في الوطن العربي، بما يعود بالخير لشعبها ويدعم تطلّعاتنا جميعاً نحو مستقبلٍ أفضل لمنطقتنا»، فيما أمِل بشَّار الأسد في الكلمة التي ألقاها أن تشكّل هذه القمّة «بداية عمل عربي للتضامن فيما بيننا، للسلام في منطقتنا، للتنمية والازدهار بدلاً من الحرب والدمار». وفي وقتٍ سابقٍ من اليوم نفسه، صافح الأسد الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، والتقى نظيره التونسي قيس سعيد، وكذلك نائب الرئيس الإماراتي الشيخ منصور بن زايد.
من المؤكّد أن الدول العربية الأخرى لن تمارس أي ضغوط على دمشق لتلبية أي توقّعات بممارسات ديمقراطية، لأنها نفسها ليست «منارات للديمقراطية»، عدا أنها لا تهتم برفاهية الطبقات الشعبية في بلدانها أسوة بسورياوبينما قادت الإمارات العربيّة المتّحدة التطبيع مع دمشق منذ العام 2018، ودعت بشّار الأسد للمشاركة في مؤتمر المناخ «كوب 28»، لعبت المملكة العربيّة السعوديّة الدور الرئيسي في فتح الباب لعودة سوريا إلى الجامعة العربية. تسارع مسار هذه العمليّة بعد الزلزال الذي ضرب شمال البلاد في شباط/فبراير الماضي، وبدء المحادثات السعوديّة مع إيران التي توسّطت فيها الصين، وتوجّت بإعادة العلاقات الدبلوماسيّة بين طهران والرياض. تتخلّى المملكة العربيّة السعوديّة والدول العربيّة الأخرى عن عزل الأسد لتحقيق الاستقرار في المنطقة في ظلّ حكم استبدادي جماعي على المجتمعات التي تسودها لامساواة فاقعة.
لا تنازلات من دمشق
لم تقدِّم دمشق أي تنازلات حقيقيّة في مقابل عودتها إلى جامعة الدول العربيّة. توقّع أعضاء الجامعة من الأسد السماح بعودة اللاجئين السوريين من دون عقاب، وخلق عمليّة سياسيّة ذات صدقية تؤدّي إلى إجراء الانتخابات، فضلاً عن اتخاذ تدابير لوقف تهريب المخدّرات من سوريا إلى دول الجوار.
تدور شكوك حول هذه التوقّعات المُتفائلة، لأنها قد تكون إلى حدّ كبير مجرّد عروض كلاميّة، في حين ليس لدى نظام الأسد أي نيّة لتنفيذ أي منها. ففي الآونة الأخيرة، وثّق مركز وصول لحقوق الإنسان أن النظام السوري دفع لمهرِّبي البشر بين 150 و3 آلاف دولار أميركي على الشخص لإعادة اللاجئين السوريين، الذين رحِّلوا من لبنان الى سوريا، إلى لبنان مجدّداً. ومن المؤكّد أن الدول العربية الأخرى لن تمارس أي ضغوط على دمشق لتلبية أي توقّعات بممارسات ديمقراطية، لأنها نفسها ليست «منارات للديمقراطية»، عدا أنها لا تهتم برفاهية الطبقات الشعبية في بلدانها أسوة بسوريا. هذه الإشارات ليست إلّا محاولة لاسترضاء الولايات المتّحدة والأوروبيين غير الراضين عن عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربيّة.
لقد شجبت الولايات المتّحدة رسمياً عمليّات التطبيع، لكنّها فشلت في منع دول المنطقة من إعادة إحياء العلاقات مع دمشق. ومع ذلك، قدِّم مشروع قانون جديد في أيار/مايو الماضي لمكافحة التطبيع مع نظام الأسد، وتوسيع قائمة أهداف عقوبات قانون قيصر، لتشمل جميع أعضاء البرلمان السوري وكبار أعضاء حزب البعث الحاكم والمسؤولين عن تحويل المساعدات الإنسانيّة الدوليّة. ويستهدف مشروع القانون أيضاً الجهود لإيصال الكهرباء الأردنيّة والغاز المصري إلى لبنان عبر خطّوط عابرة للحدود تمرّ عبر سوريا، والتي سوف تسمح للحكومة السوريّة بتلقّي تعويضات عينيّة، لا نقديّة، على شكل إمدادات غاز، لقاء مشاركتها في مشروع الطاقة المتوقّف في أربع دول. ومن المتوقّع أنّ يعدّل مشروع القانون قانون قيصر لجعل مثل هذه «التعويضات العينية» مع دمشق خاضعة للعقوبات.
على مدى العقد الماضي، نمت عمليّات إنتاج الكبتاغون وتهريبه إلى الخارج، وباتت أحد الأجزاء المُربحة لاقتصاد الحرب في سوريا، وقدّرت قيمة هذه العمليّات بمليارات الدولارات سنوياًأيضاً، تبرز في الاتحاد الأوروبي علامات على معارضة بعض الدول التطبيع ورفع العقوبات وصرف الأموال لإعادة الإعمار قبل الانتقال السياسي. من ناحية أخرى، تؤيّد دول عدّة أخرى، من ضمنها إيطاليا واليونان ورومانيا وقبرص والنمسا التطبيع مع دمشق على أمل إعادة اللاجئين إلى سوريا.
قمع مهرِّبي المخدرات
على نقيض عناد النظام تجاه اللاجئين والديمقراطيّة، فقد أظهر بعض المرونة في اتخاذ إجراءات صارمة ضدّ تهريب الكبتاغون، ولو أن هذه الإجراءات ستواجه مقاومة من داخل النظام. في الواقع، تتحكّم الفرقة الرابعة في الجيش السوري ورجال الأعمال السوريين التابعين لها بالجزء الأكبر من إنتاج الكبتاغون وتوزيعه. على مدى العقد الماضي، نمت عمليّات إنتاج الكبتاغون وتهريبه إلى الخارج، وباتت أحد الأجزاء المربحة لاقتصاد الحرب في سوريا، وقدّرت قيمتها بمليارات الدولارات سنوياً.
لكن السعوديّة عازمة على اتخاذ إجراءات صارمة ضد تجارة المخدّرات. بين العامين 2016 و2022، أحبطت المملكة العربيّة السعوديّة محاولات تهريب أكثر من 600 مليون حبة أمفيتامين من لبنان. حالياً، أبدى الأسد استعداده للتعاون، وبالفعل اتفقت دمشق في اجتماع استضافته الأردن في أيار/مايو الماضي مع السعودية والعراق ومصر على «اتخاذ الخطوات اللازمة لوقف التهريب عبر الحدود مع الأردن والعراق» والعمل على تحديد منتجي المخدّرات وناقليها.
وفي الشهر نفسه، استهدفت غارتان جوّيتان – يرجّح أنهما أردنيتان – عمليات تهريب المخدّرات في سوريا، واغتالت إحداهما تاجر المخدّرات السوري الشهير مرعي الرمثان وعائلته. وكذلك نفّذت دمشق سلسلة اعتقالات استهدفت تجّار المخدّرات في جنوب سوريا. فضلاً عن ذلك، تشير بعض المصادر إلى أن المملكة العربيّة السعوديّة وعدت سوريا بتقديم مساعدات ماليّة تصل إلى 4 مليارات مقابل خفض إنتاج الكبتاغون وتهريبه.
استراتيجيّة السياسة الخارجيّة المُتغيّرة للمملكة العربيّة السعوديّة
تطوّر التقارب بين السعوديّة وسوريا على مدى سنوات عدّة. ففي أيار/مايو 2021، قام وزير السياحة السوري رامي مارتيني بأول زيارة رسميّة إلى المملكة العربيّة السعوديّة منذ اندلاع الانتفاضة قبل أكثر من عشر سنوات. ترتبط أسباب السعوديّة لإعادة العلاقة مع دمشق أو تأهيلها بمصالحها الوطنيّة والديناميكيّات الإقليميّة.
تأتي عمليّة التطبيع كنتاج لإستراتيجيّة المملكة العربيّة السعوديّة السياسيّة في المنطقة، لا سيّما بعد أن فشلت سياسة المواجهة الخارجيّة التي انتهجها محمد بن سلمان، وتجسّدت بحربٍ مميتة ومدمّرة خاضتها المملكة في اليمن وسياسة الضغط القصوى التي تمارسها ضدّ إيران وحلفائها الإقليميين. تشهد سياسة السعوديّة تحوّلات في هذا الاتجاه، فأنهت مواجهتها مع قطر وتركيا. وفي آذار/مارس الماضي، أودعت المملكة السعودية 5 مليارات دولار في البنك المركزي التركي لتعزيز اقتصاد البلاد، وبلغ هذا التطوّر ذروته في نيسان/أبريل بإقامة علاقات دبلوماسيّة مع إيران عبر وساطة الصين.
هدف السعوديّة الرئيس من التنويع الاقتصادي هو تطوير قطاع السياحة، فهي تهدف إلى الوصول إلى 100 مليون زائر سنوياً في العام 2030، وتخطّط لافتتاح 315 ألف غرفة فندقيّة جديدة. وقد أطلقت في آذار/مارس الماضي شركة طيران جديدة، «الرياض للطيران»منذ ذلك الحين، أعربت الدولتان السعوديّة والسوريّة عن استعدادهما للعمل معاً من أجل «أمن واستقرار وازدهار» الشرق الأوسط. ويُعدُّ هذا الاتفاق مهمّ للمملكة العربيّة السعوديّة من أجل تحقيق الاستقرار في اليمن ومنع التهديدات الأمنيّة على حدودها الجنوبيّة، عدا أن هذا التقارب سوف يسمح للبلدين بإعادة فتح سفاراتهما وتنفيذ اتفاقيّات التعاون الاقتصادي والأمني الموقّعة منذ أكثر من 20 عاماً.
الإصلاح الاقتصادي الهدف الأساس والرئيس
هذه التحوّلات في السياسة الخارجيّة السعوديّة مدفوعة بحاجتها إلى التركيز على الإصلاحات الاقتصاديّة والأهداف المنصوص عليها في رؤية 2030، التي تضع ضمن أهدافها إنهاء الاعتماد على الوقود الأحفوري وتأمين 100 مليار دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر السنوي بحلول نهاية العقد.
واجهت السعوديّة تحدّيات حقيقيّة قبل التحوّل الأخير في سياستها الخارجيّة. انخفضت تدفّقات الاستثمار الأجنبي المباشر من زيادة بنسبة 200% بين العامين 2018 و2019 إلى زيادة بنسبة 20% بين العامين 2019 و2020. وتأمل السعوديّة حالياً في عكس هذا الانخفاض من خلال جذب المزيد من المستثمرين على أثر تطبيع علاقاتها مع المنطقة واستقرار أزماتها.
هدف السعوديّة الرئيس من التنويع الاقتصادي هو تطوير قطاع السياحة، فهي تهدف إلى الوصول إلى 100 مليون زائر سنوياً في العام 2030، وتخطّط لافتتاح 315 ألف غرفة فندقيّة جديدة. وقد أطلقت في آذار/مارس الماضي شركة طيران جديدة، «الرياض للطيران»، التي تهدف إلى خدمة 100 وجهة دوليّة. أيضاً تعتزم السعوديّة توجيه الاستثمار إلى المدن الضخمة مثل نيوم ومشروع البحر الأحمر والقدية، التي يتوقّع أن تكون مركزاً ترفيهياً دولياً، وأن تضمّ مدينة ملاهي سيكس فلاغز.
تعتزم الملكيّة الوهابيّة ضخّ تريليون دولار في قطاع السياحة في خلال العقد المقبل. وبالفعل ضخّت أموالاً في موقع العلا الأثري، الذي كان مهجوراً منذ عقود، لجذب الزوار، وتسعى حالياً إلى إنشاء وجهات سياحيّة جديدة مثل مشروع «البحر الأحمر» الفاخر الذي يمتدّ على مساحة 34 ألف كيلومتر مربّع على طول الساحل الغربي، ومنتجع «تروجينا» للتزلج في قلب مدينة نيوم المستقبلية التي سوف تستضيف دورة الألعاب الشتويّة الآسيويّة لعام 2029.
ومن خلال تطوير اقتصادها بهذه الطريقة، تأمل السعودية في التنافس مع دول الخليج الأخرى، التي تبني أيضاً صناعات سياحية هائلة. استضافت قطر بطولة كأس العالم 2022 للمرّة الأولى على المستوى العربي، ونُظِّم «إكسبو 2020» في دبي التي استقبلت أكثر من 12 مليون سائح دولي في خلال العام الماضي.
تنفِّذ الرياض هذه التطويرات بأسلوب نيوليبرالي كلاسيكي. وقد أعلنت عن شراكات بين القطاعين العام والخاص في العديد من الخدمات الحكومية، بما فيها القطاعات التي تديرها الدولة بشكل تقليدي مثل التعليم والإسكان والصحّة. ووصفت صحيفة «فاينانشيال تايمز» الخطط بأنها «تاتشرية سعودية».
في نيسان /أبريل 2023، أطلق محمد بن سلمان أربع مناطق اقتصادية خاصّة جديدة من أجل إنشاء صناعات غير تقليدية مرتبطة بالسياحة وتكنولوجيا المعلومات والطاقة المُتجدّدة والخدمات اللوجستية، مع تقديم معدّلات ضريبيّة تنافسيّة للشركات وإعفائها من الرسوم الجمركية على الواردات ومعدّات الإنتاج والمواد الخام. تضع الاستراتيجية الاقتصادية الجديدة رأس المال الخاص في قلب الاقتصاد السعودي المستقبلي.
التعدّدية القطبيّة والاستقرار الاستبدادي الإقليمي
السبب الأخير لتحوّل المملكة العربيّة السعوديّة وتطبيع علاقاتها مع سوريا هو التصوّر بعدم إمكانيّة الوثوق بواشنطن لتوفير الأمن الإقليمي. لم تعد السعوديّة تنظر إلى الولايات المتّحدة كقوّة مُهيمنة يمكن الاعتماد عليها بعد هزيمتها في العراق، وفشلها في حماية حلفائها من الانتفاضات الشعبيّة، وموقفها النقدي المُتزايد تجاه الرياض.
لم تعد السعوديّة تنظر إلى الولايات المتّحدة كقوّة مُهيمنة يمكن الاعتماد عليها بعد هزيمتها في العراق، وفشلها في حماية حلفائها من الانتفاضات الشعبيّة، وموقفها النقدي المُتزايد تجاه الرياضومع التراجع النسبي لقوّة الولايات المتّحدة في المنطقة، تسعى القوى الإمبرياليّة الأخرى، مثل الصين وروسيا، إلى تعزيز مصالحها الخاصة. وهذا ما فعلته القوى الإقليميّة، مثل إيران وتركيا وقطر والمملكة العربية السعودية، سعياً وراء أهدافها، وتحقيق التوازن بين القوى الإمبرياليّة المُتنافسة، وفي بعض الأحيان تحدّي الولايات المتّحدة علناً. ويُعدُّ قرار القيادة السعودية بخفض إنتاج النفط والمحافظة على أسعار النفط المُرتفعة، على الرغم من آثاره التضخّمية، يُعبِّر عن استقلالها الجديد عن واشنطن.
في خضم هذه الديناميكيّة الجديدة، تبرز القوى الإقليميّة مُصمِّمة على ترسيخ أحد أشكال الاستقرار الاستبدادي. وعلى الرغم من تنافسها المستمرّ، تريد الدول تقليل صراعاتها المفتوحة، وتحسين اقتصاداتها، وبالتالي تعزيز حكمها لتجنّب تكرار انتفاضات الربيع العربي. ولذلك، لم تعترض قطر وسمحت لدمشق بالعودة إلى جامعة الدول العربيّة من أجل تجنّب إغضاب القيادة في الرياض وعواصم عربيّة أخرى. وتعمل قطر أيضاً على إصلاح العلاقات مع المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتّحدة والبحرين.
سوريا وتركيا وتقرير المصير للشعب الكردي
بالمثل، بدأت تركيا التطبيع مع النظام السوري. في أيار/مايو الماضي، اجتمع وزراء خارجيّة روسيا وسوريا وتركيا وإيران في موسكو لإجراء محادثات رفيعة المستوى حول إعادة بناء الروابط بين أنقرة ودمشق. ويُعدُّ تحوّل أنقرة مدفوعاً بهدفين رئيسيين. أولاً، سعي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى كسب تأييد شعبي قبل الانتخابات الرئاسيّة من خلال تسريع الإعادة القسريّة للاجئين السوريين. علماً أنّه على مدى العامين الماضيين، كان هناك ارتفاع في الهجمات العنصريّة والمُعاديّة للأجانب ضد السوريين في تركيا، ورحَّل أردوغان الآلاف منهم.
في خلال الحملة الانتخابيّة، تبنّى مرشّح المعارضة كمال قليغدار أوغلو موقفاً أكثر تشدّداً، ووعد بترحيل المزيد من اللاجئين. في المقابل، كشف أردوغان ووزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو عن وجود خارطة طريق لعودة اللاجئين، أُعدَّت في أعقاب الاجتماع في موسكو (المذكور أعلاه)، وضمنت تعاون النظام السوري.
أمّا الدافع الآخر وراء تطبيع رجب طيب أردوغان مع النظام السوري فهو التصميم التركي-السوري المُشترك على إنكار التطلّعات الكرديّة بالحكم الذاتي. في العام 2022، صرّح رجب طيب أردوغان عن «ضرورة إنهاء ما تم البدء فيه» وتصعيد انتشار الجيش التركي والوكلاء السوريين ضدّ القوّات الكرديّة في سوريا. وبالفعل، أدّت العمليّات التركيّة-السوريّة المُشتركة في منطقة عفرين في العام 2018 إلى انتهاك جسيم لحقوق الإنسان وتهجير قسري لحوالي 137 ألف شخص، معظمهم من السكّان الأكراد. استخدم أردوغان التهديدات بشنّ عمليّات عسكريّة جديدة ضدّ الأكراد في سوريا من أجل إثارة المشاعر القوميّة التركيّة وهزيمة خصمه في انتخابات الإعادة. لكن من غير الواضح حتّى الآن ما إذا كانت سوريا قادرة على تلبية شروط تركيا. فمن جهته، أعلن نظام الأسد أنه لن يُحدث أي تقدّم في العلاقات بين البلدين قبل إنهاء الوجود العسكري التركي في سوريا.
لا تزال تركيا مُحبطة من عجز دمشق عن تلبية مطالبها بعودة اللاجئين السوريين وإنهاء الحكم الذي يقوده الأكراد في شمال شرق سوريا المعروف بـ «روج آفا». فالنظام السوري أضعف من أن يتدخّل سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في شمال البلاد، ويعتبر أن عودة ملايين اللاجئين تهديداً سياسياً وأمنياً له، وثقلاً اقتصادياً إضافياً لا يستطيع تحمّله.
لا أمل بإعادة إعمار سوريا لصالح الطبقات الشعبيّة من خلال التطبيع
في كلّ الأحوال، لن تسهّل عودة الأسد إلى جامعة الدول العربيّة عملية إعادة الإعمار والانتعاش الاقتصادي في سوريا. وأيضاً لا تزال العقوبات تشكّل عقبة كبيرة أمام جذب الاستثمارات الأجنبيّة؛ أولاً، تفتقر سوريا إلى ظروف اقتصاديّة آمنة ومستقرّة ممّا يجعل الاستثمار فيها مخاطرة كبيرة على الشركات المحلّية والأجنبيّة. ثانياً، أثبتت دمشق أنها غير قادرة على منع الانخفاض المستمرّ في قيمة الليرة السورية ممّا زاد من تقويض رغبة المستثمرين في بدء عمليّات استثماريّة. ثالثاً، ليس لدى الدولة بنية تحتيّة عاملة، ولم تستثمر دمشق أموالاً لإعادة بنائها، وبدلاً من ذلك حوّلت معظم نفقاتها، المتراجعة بالأساس، إلى المجهود الحربي وأجور القطاع العام والإعانات. رابعاً، تفتقر البلاد ببساطة إلى الأموال للاستثمار، فقد انخفضت الودائع في البنوك الخاصّة من 13.9 مليار دولار في العام 2010 إلى 1.9 مليار دولار في العام 2022. وأخيراً، تعاني البلاد من نقص العمالة الماهرة، وهي أزمة تفاقمت بسبب ارتفاع معدّلات هجرة الشباب الخريجين.
في بلد يعيش 90 في المئة من سكّانه تحت خط الفقر، سوف يعود عدد قليل من اللاجئين طواعية إلى البلاد، ومن يجد نفسه مجبراً على العودة سوف يعيش في ظروف بائسة وعوز مُدقعمن هنا، سوف تحاول دمشق استخدام عمليّة التطبيع لتأمين المساعدات والاستثمار، لكن أي إعادة إعمار في ظلّ نظام الأسد لن تخدم الطبقات الشعبية في البلاد، خصوصاً أن سياسات الإعمار ليست مُصمّمة لمعالجة المشاكل الاقتصادية والتفاوتات الاجتماعية في البلاد، بل تعطي الأولويّة لترسيخ قوّة النظام الاستبداديّة، واستخدام الأموال لتغذية الشبكات الزبائنيّة.
في الواقع، يُعدّ كلٌّ من اللامساواة والظلم في صميم سياسات النظام السوري. وبالتالي، سوف تستخدم الأموال التي سوف تتأمن من خلال التطبيع لتعزيز سلطة النظام، وتعزيز تلاعبه بأصول الدولة، وتنفيذ عمليّات الخصخصة وفق المحسوبيّات، وإكمال تحرير الاقتصاد النيوليبرالي. وكلّ هذا سوف يحصل على حساب الطبقات الشعبيّة. ففي بلد يعيش 90 في المئة من سكّانه تحت خط الفقر، سوف يعود عدد قليل من اللاجئين طواعية إلى البلاد، ومن يجد نفسه مجبراً على العودة سوف يعيش في ظروف بائسة وعوز مُدقع.
في الخلاصة، إن التطبيع مع سوريا يخدم مصالح بشّار الأسد ونظامه الاستبدادي، لا السوريين. كما أنه يخدم مصالح القادة الاستبداديين في جميع أنحاء المنطقة المُصمّمين على تأمين سلطتهم وسحق آخر بقايا النضال من أجل التحوّل الاجتماعي من أسفل الذي بدأ في العام 2011.
نُشِر هذا المقال على موقع الصفر
اقرأ أيضا