المغرب: استدانةٌ مكثفة، وأزمةٌ مستفحلة، وتبعيةٌ تتعمق أكثر
بقلم: سليم نعمان
لجأت الدولة في السنوات الأخيرة إلى عقد اتفاقات ديون كثيفة، وطبعا لا شك أنها ستستخدمها ذريعة لتبرير خططها التقشفية الحالية والمستقبلية. حلقة مفرغة تستنزف الميزانية العامة. زاد الدين كثيرا نسبة إلى الناتج الداخلي الخام قبيل الأزمة الصحية وأثناءها، ويستمر تفاقمه بعدها لاسيما مع الركود الذي يطال الاقتصاد العالمي وتبعاته على اقتصاد البلد التابع والمتخلف، علاوة على الجفاف والتضخم وإجراءات محاربته…
بعد خروج المغرب من “اللائحة الرمادية” لمجموعة العمل المالي، جرى التطبيل مجددا لثقة الامبريالية ومؤسساتها في البلاد “الاستثناء”، “المستقر سياسيا”، وترجمة تلك الثقة في سهولة ولوج المغرب إلى السوق المالية الدولية، وقروض الدول الثنائية والمتعددة الأطراف.
حصل المغرب، بفضل هذا الاستقرار السياسي تحت الاستبداد القمعي لكل حركة نضال عمالية وشعبية، في السنوات القليلة الماضية على قروض من البنك العالمي (يمول البنك العالمي حاليا 23 مشروعا في المغرب، يبلغ حجمها الإجمالي 6.01 مليار دولار (62 مليار درهم) وصندوق النقد العربي والبنك الأوروبي للاستثمار وبنك التنمية الألماني والبنك الإفريقي للتنمية وعلى قروض ثنائية…
وأصدر المغرب بداية السنة الجارية سندات اقتراض دولية بقيمة 2.5 مليارات دولار مباشرة بعد خروج البلاد من “اللائحة الرمادية” لمجموعة العمل المالي، وحصل لدى صندوق النقد الدولي على “خط ائتمان مرن” بـ 5 مليارات دولار. وبحسب بيان لوزارة الاقتصاد والمالية، انقسمت سندات الاقتراض المطروحة إلى شريحتين؛ الأولى بـ 1.25 مليار دولار بأجل استحقاق 5 سنوات وبعائد 6.22%، والثانية 1.25 مليار دولار أيضا، بأجل استحقاق 10 سنوات وبعائد 6.6%.
ويوجد المغرب، حسب البنك العالمي، ضمن الدول العشرة الأوائل المثقلة بالديون في إفريقيا سنة 2022، وجاء في الرتبة الخامسة من بين الدول المثقلة بالديون في القارة الإفريقية، وتخطت ديونه الخارجية 65.41 مليار دولار؛ في حين كانت قيمتها تناهز 65,72 مليار دولار سنة 2020، وفي حدود 54,37 مليار دولار سنة 2019.
على الأرجح أن التبعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذا اللجوء المفرط للاستدانة لا تؤخذ بالاعتبار، والأهم بالنسبة للدولة هو أن تجد المال بوفرة وبسرعة. بالتالي اختارت الدولة اتخاذ طريق الديون بأي ثمن رغم عواقبها الكارثية الأكيدة على الطبقات الشعبية الكادحة بصورة خاصة.
تعاني الأسر الفقيرة والشرائح الاجتماعية الهشة أشد المعاناة من آثار ارتفاع أسعار المواد الغذائية وغيرها من الأسعار بسبب التضخم. ووفق البنك العالمي، كان معدل التضخم السنوي أعلى بنسبة الثلث تقريبا بالنسبة لأفقر 10%من السكان، بالمقارنة مع أغنى 10% من السكان، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى آثار زيادة أسعار الغذاء التي تستحوذ على نسبة أعلى من إنفاق الأسر الأكثر فقرا.
وأكد آخر تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي حول “المخاطر العالمية لسنة 2023″، أن أزمة تكلفة المعيشة هي أكبر الأخطار المحدقة بالمغرب خلال السنتين المقبلتين، مبرزا آثارها السلبية على شريحة كبيرة من المجتمع المغربي وامكانية أن تؤدي إلى اضطرابات سياسية وعدم استقرار وارتفاع نسب الهجرة. وأشار التقرير إلى أن تكلفة المعيشة تأتي على رأس أكثر خمسة أخطار تواجه المغرب متبوعة بمخاطر أخرى ذات علاقة تتعلق بالتضخم السريع والمستمر و”الصدمات الشديدة” في أسعار السلع الأساسية والأزمات الحادة في المعروض من السلع الأساسية بالأسواق. وجاءت أزمات الديون في المرتبة الخامسة من الأخطار المحدقة بالاقتصاد المغربي بسبب ما يمكن أن يحدث من أزمات سيولة أو تخلف عن السداد بما لذلك من تبعات اجتماعية سلبية.
في المحصلة، يستدين المغرب ليسدد ديونا حان أجل استحقاقها، مستحوذة على حصة كبيرة من ميزانية الدولة (زهاء 50% من الإيرادات الجبائية للدولة سنة 2022). وعلى سبيل المثال، لولا تعبئة موارد عبر الهبات ومساهمات الشركات والموظفين والمواطنين من أجل ضخ إيرادات في صندوق مكافحة جائحة كورونا، لكانت نسبة المديونية أكبر بكثير مما هي عليه حاليا.
ليس البدائل ما ينقص، بل حكومات عمالية وشعبية مسنودة بحركة نضال اجتماعي جبارة تفرض تنفيذها. يمكن التبرؤ من الديون وتعليق سدادها، ونهج سبيل تدقيقها الشعبي الذي من شأنه كشف حصتها غير الشرعية وإلغاؤها، وفضلا عن ذلك يمكن تبني استراتيجية إنماء اقتصادي واجتماعي طويلة الأجل بوقف سداد الديون وكل اشتراطاتها النيوليبرالية.
لنتذكر أن الدولة قلصت الإنفاق الاجتماعي زهاء أربعة عقود، ونفذت خططا تقشفية قاسية، وقامت بخصخصة قطاعات عمومية مهمة، وفتحت الاقتصاد على مصراعيه على السوق العالمية الرأسمالية… كل ذلك من أجل مواصلة سداد ديون تتحمل الطبقة العاملة والكادحين- ات أعبائها. أتى التقشف على الجزء اليسير من الخدمة العمومية المتوفرة، وصار التعليم والصحة رديئين للغاية يعانيان خصاصا مهولا في الموارد المالية والأطر الصحية والتعليمية…
العجز الموازناتي المزدوج (عجز الميزانية العامة وعجز الميزان التجاري) هو المبرر الأساس للحجم المهول من الديون المتعاقد عليها في السنوات الأخيرة، قبيل كوفيد وإبانه وبعده، ومواعيد السداد رغم طولها النسبي إلا أنها لا تلغي صعوبة الوفاء بالسداد. إنه أمر يصعب التنبؤ به بدقة، لكن المؤشرات تؤكد احتمال حدوثه كما في سنوات 1980. لاسيما أن تبعات الأزمة الرأسمالية العالمية تحبل بآثار تعصف بقدرة البلدان المدينة على الوفاء باستحقاقات ديونها.
هكذا، من المرجح أن يشتد خضوع المغرب لمطالب دائنيه في السنوات المقبلة، وبالتالي ستحيل الدولة المطالب الشعبية على الرف، بل ستسعى لتقليص الميزانيات العمومية بينما تتعزز خصخصة السلع الأساسية والخدمات العمومية، وتتدهور حالة الحقوق الإنسانية الأساسية بحجة “الجهد الجماعي الضروري لمواجهة الأزمة”.
لم تفد الديون في أي وقت مضى تنمية البلد الاقتصادية والاجتماعية، بل أعاقتها جنبا إلى جنب مع الاستبداد السياسي القائم، واتفاقات التبادل الحر… لذا ينبغي وضع الاستجابة للمطالب الشعبية الأساسية على رأس قائمة المطالب الاستعجالية التي بدونها يدوم الوضع القائم المأساوي، بل ويتفاقم. إن الديون هي أولا وقبل كل شيء أداة لنزع الثروة من الفقراء ونقلها إلى الأغنياء، من أولئك الذين تحملوا دوما أعباء الأزمات لصالح من استفادوا منها على الدوام.
إقدام الدولة على الاستدانة بكثافة مثير للقلق. دامت السياسات التقشفية الصارمة عقودا دون أن تظهر بوادر التعافي والازدهار الموعودين، بل ضاعت السيادة الوطنية والشعبية على اختيارات إنماء البلد ورفاهيته. فرض الدائنون سياسات مفرطة الليبرالية مقابل مساعدات زائفة سمحت في الواقع بمواصلة سداد ديون لا شرعية، أي بعبارة أخرى، دعمت رسوخ الاستبداد خدمة لسداد الديون العمومية ومصالح الرأسمال الأجنبي والمحلي المهيمن.
البلد المدين خاسر لا محالة في هذه المعركة غير المتكافئة مع المانحين الدوليين والطبقات السائدة المحلية، فهو يفقد ثروات هائلة وتعاق تنميته. أجور زهيدة، ومعاشات تقاعد جد منخفضة، وانخفاض حاد في تمويل الصحة والتعليم، وبيع الملك المشترك في سوق نخاسة تسمى الخصخصة، وارتفاع الأسعار جراء تحريرها، وتعمق أزمة السكن، وتفشي البطالة الجماهيرية، وتدهور الحالة البيئية، وتفاقم انعكاسات التغير المناخي… الخ؟
فقط حركة نضال عمالية شعبية حازمة وجيدة التنظيم وواعية بإمكانها خوض هذه المعركة والذهاب بها حتى النهاية: التحرر من نير الامبريالية ونهبها برسم الديون والاتفاقات الاستعمارية الجديدة المسماة تبادلا حرا… الخ، ومن استبداد الطبقات المالكة المحلية وجشعها وقمعها…
تحرص المؤسسات المالية العالمية على طمأنة الدائنين، فهؤلاء أكبر من أن يقلقوا على مصير أموالهم المستثمرة في الديون. ستجبر المؤسسات المتعددة الأطراف، والدائنون الثنائيون والخواص البلد المدين على السداد حماية لمصالح رأس المال المالي على حساب مصالح البشر (الأجراء وصغار المنتجين). لذا من السهل توقع أي تقشف سيجري فرضه جراء الديون الهائلة التي تعاقدت عليها الدولة أثناء الأزمة المرتبطة بفيروس كورونا وقبيلها وبعدها، كما صار شبه مؤكد أن يجري اللجوء مجددا لبيع اليسير الهام المتبقي من أصول عمومية.
اقرأ أيضا