أسعار البنزين: تحميل الكلفة للمستهلك النهائي
بقلم: وائل.م
هكذا صرح رشيد بلحسن صاحب شركة النقل الدولي للبضائع: “إذا لم يجري تخفيض ثمن البنزين فسنكون مجبَرين على تحميل الزيادة للمواطن… سنكون مجبَرين على زيادة 10 دراهم على كل كليوغرام لتصبح 30 درهما بدل 20، وهذا هو الحد الأدنى لما يمكن زيادته”. [تصريح لقناة الغد، 6 أبريل 2022].
شهدت أثمان البيع النهائي للمحروقات في محطات التوزيع ارتفاعا كبيرا اكتوت بها جيوب المستهلك النهائي (الشغيلة وجمهور صغار المنتجين بالقرى والمدن). حامت الأسعار بين 15 و16 درهم، وَقُدِمت صدمة النفط الناتجة عن حرب روسيا على أوكرانيا مبررا أساسيا لتلك الزيادة. لكن هل الأمر كذلك؟ أم للأمر علاقة بأمور هيكلية تتعدى آثار هذه الصدمات الظرفية؟
بداية ليست الصدمات النفطية أمرا حديث الوقوع. فطيلة الخمسين سنة السابقة تواترت هذه الصدمات من أولاها سنة 1973، إلى ما قبل الأخير؛ صدمة سنتي 2012- 2013. كانت الصدمات السابقة أقسى من الناتجة عن حرب روسيا على أوكرانيا، لكن لم يُسجَّل قط أن حلقت الأسعار إلى المستوى القياسي الذي بلغته حاليا، والمرجح أن تتجاوزه مستقبَلا إن لم يوقفها النضال العمالي والشعبي.
طرح الاقتصادي نجيب أقصبي سؤالا يضع الأصبع في عمق الجرح: “السؤال الكبير هو ما الذي تغير حتى انتقلنا من وضع سابق كانت فيه إمكانيات لمواجهة الصدمات وإبقاء سعر البنزين المستهلَك من طرف المواطن لا يتعدى إلا نادرا 10 دراهم للتر. لكنه لم يصل قط إلى 15 درهم؛ هذه حالة استثنائية جديدة. ما الذي تغير إذن حتى وصلنا إلى الوضع الحالي؟”.
طبعا، لا تُعزى هذه الزيادة إلى أمور خارجية وخارج إرادة المستفيدين المباشرين من تضخم أسعار الوقود: الرأسماليين بمراكتهم الأرباح الخيالية، والدولة بمواصلة سياسة تحرير سوق المحروقات و”إصلاح” نظام الدعم.
يُعزى الأمر إلى خيارات سياسية واعية تخدم مصالح طبقية/ اجتماعية نوعية، خيارات اتُخذت وطُبقت طيلة ربع القرن الأخير، انتهت بنزع صمامات الأمان التي كانت يوفرها “دور الدولة في تنظيم سوق المحروقات” لصالح منظور نيوليبرالي يقوم على انسحاب الدولة وترك الأمر للقطاع الخاص:
* خوصصة شركة لاسامير ذات القدرة التحويلية والتخزينية المشهود بها سنة 1997. وفي سنة 2002 عملت الدولة بمبدأ “رب أزمة نافعة”، اذ استغلت حريق المنشأة في نوفمبر 2002 لمنح الموزعين الخواص صلاحية استيراد النفط دون ضرائب. لتنتهي المأساة بإعلان إفلاس الشركة سنة 2015.
* التخلي النهائي عن آلية ضبط الأسعار في نوفمبر 2015، التي كانت الدولة تُحدد بواسطتها سعر البيع النهائي للمحروقات، إذ كانت الدولة تتدخل اعتمادا على المالية العمومية لتحافظ على مستوى الأسعار الداخلية في مستوى مناسب. وفي سنة 2015 وقع تحرير القطاع وترك الأمر لعلاقات السوق والمقايسة مع السوق الدولية.
وبدل خرافة أن تحرير السوق وتنافس الشركات سيكون فائدة للمستهلك عبر تخفيض الأسعار، اتفقت الموزعين الكبار على تحديد “سعر غير تنافسي”، تحول هو أيضا إلى آلية لنقل الثروة من المنتجين الحقيقيين إلى جيوب رأسماليي القطاع، وعبرهم نقلُ جزء من هذه الثروة إلى الخارج عبر الاستيراد.
هذه هي المتغيرات الأساسية، إذا أُضيفت إلى الثابت البنيوي في تاريخ المغرب، وهو أنه بلد غير منتج للنفط وتابع للسوق الدولية عبر الاستيراد، كلها هي المسؤولة عن الارتفاع التراكمي لأسعار المحروقات منذ سنة 2015 حتى الآن.
لن تستطيع إجراءات تقنية معالجة أمر بنيوي عميق الجذور. لن تصمد الإجراءات التقنية أمام منظور طبقي واضح الأهداف: تمكين القطاع الخاص من أكبر فرص مراكمة الأرباح وتحميل الشغيلة والكادحين- ات كُلفة ذلك النموذج من تنمية الأرباح.
ولا يتعلق الأمر طبعا بقطاع الطاقة لوحده، فمنطق الرأسمال والدولة شامل لكل قطاعات الحياة التي أُدخلت بعنف في دورة تراكم رأس المال وأرباحه: من الطاقة إلى الزراعة والخدمات العمومية والأرض والماء وكل ثروات الأرض.
يقوم هذا المنطق على فكرة أن “التنمية” ملقاة على القطاع الخاص الذي يجب على الدولة رعايته بشكل دائم مثل “خديج غير مكتمل” عبر ضخ المالية العمومية في شرايينه وتسخير البشر (ما يُطلق عليه موارد بشرية) وثروات الطبيعة لمساعدته كي يكون قادرا على قيادة تنمية ستساب ثمارها مستقبلا (مستقبل بعيد قد يكون مؤجلا إلى يوم القيامة) على الجميع… إنه منطق “اشتراكية للأغنياء ورأسمالية للفقراء” الذي يعبر عنه الشعار المعروف: “خوصصة الأرباح وتشريك الخسائر”.
دون قلب جذري لهذا المنطق لن تستطيع مطالب مدققة مثل تسقيف الأسعار وضبط السوق ومحاربة الاحتكار، أو توقف الدينامية الجهنمية لأسعار مواد الاستهلاك الأساسية وعلى رأسها المحروقات.
لكن يحتاج الأمر إلى مطالب آنية توقف هذه الدوامة وعلى رأسها:
* تسقيف الأسعار مع تحميل فرق الكلفة بين السعر الداخلي وسعر السوق الدولية لشركات التوزيع التي راكمت من الأرباح الطائل.
* حصر استيراد النفط في يد الدولة ومنع الموزعين الخواص من ذلك.
* إعادة تشغيل مصفاة لاسامير مع محاسبة المسؤولين عن مآلها المأساوي وعلى رأسها المالك السعودي والأبناك المتورطة في إغراقها الديون.
* مطلب السلم المتحرك للأسعار وأجور شغيلة القطاع الخاص والعام.
* وقف كل أشكال دعم شركات توزيع الوقود من المالية العمومية، مع توجيه هذه الأخيرة نحو المنتج الصغير خاصة في المجال الزراعي.
لن تتحقق هذه المطالب بإبراز فوائدها الاقتصادية للدولة واستدرار “الحس المواطني” لدى أرباب العمل، كما يفعل الاقتصاديون الليبراليون. يحتاج الأمر إلى نضال عمالي وشعبي. إن القوة الاقتصادية لأرباب العمل تسند قوتهم السياسية التي تشكل الدولة تعبيرها الملموس. وهذه الأخيرة لن تقوم بإجراءات تناقض مصالحهم إن لك تكن مجبرة على ذلك، كما وقع سنة 2011 حين اضطرت تحت وقع انتفاضة ثورية إقليمية امتدت إلى المغرب تحت عنوان “حركة 20 فبراير” إلى ضخ ملايير الدراهم في صندوق المقاصة وتشغيل آلاف ضحايا البطالة وزيادات في الأجور.
يحتاج الأمر إذن إلى نضال عمالي وشعبي يضع مسألة السيادة في المقدمة: السيادة الطاقية والغذائية… وفي التحديد الأخير مسألة الديمقراطية والسيادة الشعبية، أي الحق الأصيل للشعب في أن يقرر خياراته الاقتصادية والاجتماعي، بدل تركها للآلية العمياء والتلقائية لاقتصاد سوق يخدم الأقلية القليلة من أرباب العمل وموظفيهم السامين الجاثمين على صدر الشعب.
تشكل مبادرات “الجبهة الاجتماعية” للاحتجاج ضد غلاء الأسعار نقطة بدء رئيسية. لكن علينا الوعي أن النضال ضد غلاء المعيشة، لن يستقيم مع منظور أهم مكونات الجبهة القائم على التوافق مع الدولة في الهجوم على التقاعد والوظيفة العمومية ومدونة الشغل وإصدار قانون الإضراب، و”ادعاء” النضال ضد غلاء المعيشة. إما هذا أو ذلك، ولا يمكن الجلوس بين كرسيين: كرسي الرأسماليين ودولتهم، وكرسي الشعب بشغيلته وصغار منتجيه ونسائه وشبابه وطلابه.
اقرأ أيضا