حملة مقاطعة مواد الاستهلاك لعام 2018: الدروس والعبر
بقلم: سامي علام
سياق حملة مقاطعة بعض المواد الاستهلاكية
شهد المغرب سنة 2018 موجة عارمة لمواجهة الغلاء الذي عرفته المواد الغذائية تمثلت في حملة لمقاطعة بعض هذه المواد. إذ عمت مختلف وسائل التواصل الاجتماعي دعوات للامتناع بشكل اختياري ومتعمد عن استخدام أو شراء تلك المنتجات التي تحتكر بعض الشركات الكبرى معظم إنتاجها وتتحكم في أثمانها لإرغامها على تخفيض الأسعار، وهمت المقاطعة أساسا منتجات الحليب والمياه والبنزين.
في 20 أبريل أطلق عدد كبير من المغاربة على شبكات التواصل الاجتماعي “هاشتاغ” (وسم) تحت اسم “خليه يروب” أي (دعه يفسد)، لمقاطعة منتجات “سنترال دانون” شركة مغربية فرنسية، تمتلك شركة دانون 91 بالمائة من أسهمها ويمتلك الهولدينغ الملكي 5 بالمائة من الأسهم في حين تتوزع4 بالمائة من مجموع الأسهم بين صغار المساهمين، وهي أكبر منتج للحليب ومشتقاته فى المغرب، تهيمن على 60% من السوق المحلية.
كما استهدفت المقاطعة احتجاجا على ارتفاع أسعار الوقود، شركة “افريقيا غاز” المحتكرة لتوزيع الوقود بالبلد وتمتلك محطات بيع الوقود، وهي التابعة لشركة أكوا المملوكة لوزير الفلاحة والصيد البحرى أنذاك عزيز،من أغنى أغنياء البلد فاقت ثروته 2.1 مليار دولار. وكانت أسعار الوقود العادي أنداك تقل عن 9 دراهم مغربية (0.9 دولار) قبل رفعها لأكثر من 10 دراهم (دولار واحد)، في حين تغيّر سعر الوقود الممتاز من أقل 10 دراهم إلى أزيد من 11 درهم (1.2 دولار).
واستهدفت المقاطعة شركة المياه المعدنية “سيدى علي” المملوكة من قبل مريم بن صالح الرئيسة السابقة لنقابة أرباب العمل “الاتحاد العام لمقاولات المغرب” وتقترب حصتها في السوق المغربي من 60%. وكان سعر عبوة الماء سعتها لتر ونصف المعبئة من قبل الشركة الشركة 6 دراهم (0.6 دولار) في حين تبلغ نفس العبوة لدى شركات أخرى 5 دراهم (0.5 دولار)
استهدفت الحملة هذه الشركات دون غيرها لأن الشركات الثلاث هي المتحكمة في السوق المغربية ومعظمها مملوكة من قبل حكام البلد أو مرتبطة بنخب اقتصادية وسياسية أو بشركات أجنبية، فهم مصدر المصائب الاجتماعية بالبلد.
لقيت الحملة دعما من صفحات فيسبوك لأكثر من مليوني مستخدم، تعبيرا عن الإحباط الذي شعر به المغاربة بسبب تردي أوضاعهم الاجتماعية، وانضم إليها عدد من الفنانين والإعلاميين والرياضيين، وشهدت العديد من المدن المغربية انتشارا واسعا لفيديوهات مواطنين أرجعوا مادة الحليب للشركة وامتناع عدد كبير من التجار الصغار عن اقتنائها وبيعها، وكانت هذه المنتجات مصدر مستملحات ، وانخرط في الحملة مغاربة المهجر بنشر فيديوهات تكشف مفارقة الأثمان بين المواد الغذائية المرتفعة بالمغرب مقارنة بأثمانها في دول أخرى عبر العالم بما فيها المرتفعة الدخل، مما أبرز أن هذه الشركات لا تراعي القدرة الشرائية لمواطني البلد.
شجع على اتساع رقعة الحملة ما عرفته حملة شبيهة بالجزائر سنة 2018 من نجاح، والتي استهدفت سوق السيارات، حيث كانت أسعار البيع لبعض العلامات تفوق الأسعار المصرح بها لدى الحكومة ب 25 بالمائة، فأطلق ناشطون في مواقع التواصل الاجتماعي حملة وسم “خلّيها تصدّي” أو “دعها للصدأ”، حثت الجزائريين على مقاطعة شراء بعض السيارات ولقيت الحملة تجاوبا كبيرا وسرعان ما استجابت العلامات المعتمدة في الجزائر لضغط حملة المقاطعة وخفّضت أسعار مبيعاته. كما شن الجزائريون حملات مقاطعة للدجاج، تحت وسم “خليه بالريش” (دعه بريشه) فهوت أسعاره إلى قرابة 30 بالمائة، في أقل من أسبوع، وتكرر نفس السيناريو مع بيع السمك.
رد البورجوازية ودولتها على الحملة
تجاهلت الحكومة المغربية حملة المقاطعة في بدايتها واعتبرتها مجرد حملة “افتراضية” وليست واقعية سرعان ما ستخفت، لكن بعد توسعها واستمرارها لثلاث أسابيع سارعت فأصدرت بيانا لتحذر من تداعياتها على الاقتصاد الوطني خصوصا مع اقتراب شهر رمضان الذي يتزايد فيه استهلاك المغاربة للحليب، وطالبت فيه بإنهاء المقاطعة لأنها تلحق أضرارا بتعاونيات الحليب والمنتجين المرتبطين بها، ومن بينهم أغلبية من الفلاحين الصغار، وسيكون لها تأثير سلبي على الاستثمار الوطني والأجنبي، والاقتصاد المغربي. كما دعا وزير الاقتصاد والمالية محمد بوسعيد (التجمع الوطني للأحرار) في كلمة له بمجلس النواب (الغرفة الثانية بالبرلمان)، إلى دعم مقاولات البلاد بدل مقاطعتها، لكونها تدفع الضرائب وتوفر عددا كبيرا من مناصب الشغل، واصفا المقاطعين بـ”المداويخ” أي (مصابون بدوار ولا يفقهون ما يفعلون) واعتبر عزيز أخنوش (التجمع الوطني للأحرار) وزير الفلاحة المغربي وأحد المستهدفين من الحملة أن المقاطعة ستضر بالعديد من المواطنين العاملين بشكل مباشر في هذه القطاعات التي شملتها الحملة، انضم لحسن الداودي (العدالة والتنمية) وزير الشؤون العامة والحكامة لوقفة احتجاجية نظمها عمال في شركة “دانون” تنديدا بالمقاطعة أمام البرلمان، في إشارة لمعارضته للمقاطعة. ووصل الأمر ببعضهم أن اعتبروا الدعوة لمقاطعة منتوجات محلية خيانة للوطن، بل حاولت الحكومة تمرير قانون بالبرلمان يمنع مقاطعة أي منتوج وطني ويجرم الدعوة للمقاطعة، هكذا أعادوا نفس ما قاموا به تجاه حراك الريف من تجريمه واتهامه بالعمالة للخارج.
ولدر الرماد في العيون والمناورة كما جرت العادة فتح تحقيق برلماني حول المنافسة في سوق المحروقات خلص في تقريره إلى ارتفاع أرباح الموزعين منذ إنهاء دعم الوقود في 2015 فتمكنت شركات توزيع الوقود من تحقيق أرباحا وصلت إلى 1.7 مليار دولار منذ تحرير سوق السولار والبنزين. فشركة “توتال المغرب” ثالث موزع للوقود في البلد ارتفعت أرباحها من 289 مليون درهم في السنة 2015 إلى 879 مليون درهم في 2016.
انتهى تقرير مجلس المنافسة إلى سلة المهملات بعد إقالة الملك لرئيسه إدريس الكراوي (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) رحو يوم 21 مارس 2021وتعيين آخر محله هو أحمد. وهذا الأخير تدرج في خدمة الشركات والأبناك منذ سنة 1982 (الخطوط الملكية المغربية، شركة (سيما ميترا)، مصرف المغرب)، قبل أن يعيَّن رئيسا مديرا عاما لشركة (لوسيور كريستال) في مارس 2003 ثم مديرا عاما للقرض العقاري والسياحي سنة 2019. وقد فهم دوره المحدَّد جيدا، إذ صرح عقب تعيينه: “دورنا هو التنظيم فيما يتعلق بالقوانين المتعلقة بحماية المستهلك وتحديد الأسعار وعملية التركيز. وهذا هو الدور المنوط بالمجلس بموجب الدستور والقوانين ذات الصلة، لكنه أيضاً لبنة أساسية في بناء ثقة الفاعلين الاقتصاديين في الاقتصاد المغربي”.
مالذي حققته حملة المقاطعة؟؟
ألحقت حملة المقاطعة خسائر فادحة بالشركات المستهدفة وتأثرت مبيعاتها، وتراجعت أسهمها في البورصة. فسنترال دانون أعلنت أنها خسرت ما بين 25 و30 في المائة من رقم معاملاتها ما كبّدها خسارة وصلت إلى 50 مليون دولار، بعد أرباح في حدود 12 مليون دولار في عام 2017 وقلصت من كميات الحليب التي تجمعها من 120 ألف مزارع بنسبة 30 بالمئة، وأنهت العقود القصيرة الأجل التي تربطها بالعمالة المؤقتة. عقد مدير شركة دانون لقاء مع العديد من الشباب والصحافة ومؤثري وسائل التواصل الاجتماعي، وأرغمت على خفض سعر لتر من الحليب بدرهم واحدا خلال رمضان.
أما شركة “أولماس للمياه المعدنية” المنتجة لمياه سيدي علي عملت بدورها للتخفيف مما لحقها من خسائر على نقل نحو 80 شخصا أسبوعيا بالحافلات لزيارة نبع مياهها في جبال أطلس لمحاولة إقناع المستهلكين بأن أسعارها عادلة.
كما أرغمت الحملة الدولة على إعادة بعث مجلس المنافسة الذي ظل مجمدا لمدة أربعة أعوام.
لماذا لم تحقق الحملة أهم أهدافها؟
شكلت المقاطعة أكبر احتجاج شعبي بعد نضالات 20 فبراير 2011 واحتجاجات الريف 2016، غير أن الحملة وُجهت ضد الشركات وفقط وليس ضد حكومتها وسياستها بشكل مباشر، كما ضلت افتراضية حبيسة وسائل التواصل الاجتماعي، دون أن تترجم لاحتجاجات شعبية فعلية ضد شراهة تلك الشركات وضد سياسة الدولة المسببة بشكل أساسي في ما عرفته تلك المواد من غلاء، فالدولة هي التي ألغت صندوق المقاصة وعومت الدرهم وحررت سوق المواد الطاقية وهي إجراءات أشاد بها صندوق النقد الدولي بل فرضتها تلك المؤسسات الدولية المانحة للقروض لفتح البلد في وجه الشركات الأجنبية والمحلية الكبرى لامتصاص خيراته. وأوهمت الشعب أن من شأن المنافسة أن تخفض الأسعار لكن الذي جرى هو أن سياستها فتحت جيوب الكادحين في وجه شراهة تلك الشركات.
انطلقت الحملة ثلاثة أسابيع قبيل شهر رمضان، الذي ترتفع فيها نسبة الاستهلاك ويزداد الإقبال على تلك المواد، إلى جانب أن مقاطعة تلك المواد كانت لها تأثيرات اجتماعية هامشية كاستغلال تراجع المبيعات لتسريح العمال والتخلص منهم فظهرت مناشدات لوقف الحملة من جانب عمال شركة “سنطرال دانون” الذين احتجوا قبالة مبنى البرلمان وتأثر الفلاحون الصغار حيث أوقفت الشركات التزود بالمواد الأولية منهم.
كما أن الحملة تميزت بعدم انخراط تنظيمات سياسية ونقابات عمالية وجمعيات حماية المستهلك، رغم تبجحها الدائم بالدفاع عن تحسين القدرة الشرائية للسكان، كما أن عدم بروز مطلقي الحملة سهل الاقتناع بأن مصدرها شبيبة حزب العدالة والتنمية لخصومات سياسية، خاصة وأنهم اشتهروا بمدى نشاطهم على هذه الشبكة خاصة أن هاشتاغات ودعوات جديدة لمقاطعة مواد أخرى ارتفعت أسعارها كالزيت… لم تلقى نجاحا مما أبرز أن حملة المقاطعة تلك استهدفت شركات بعينها لخصومات سياسية.
تلقي حملة المقاطعة ضوءا على النقاش الاستراتيجي الذي يهرب الجميع من طرحه: هل يمكن تحسين الوضاع الاجتماعية دون القضاء على الرأسمال ودولته؟ فكل التحسينات التي يجري انتزاعها تتمكن الدولة وأرباب العمل من استعادتها بعد خفوت الاحتجاج. حدث هذا بُعيد ضمور حركة 20 فبراير، وها هو يحدث حاليا، فنفس الشركات التي اضطرت إبان حملة المقاطعة على تخفيض طفيف لأثمان منتوجاتها، تستغل تداعيات حرب روسيا على أوكرانيا لرفع أسعارها مرة أخرى: ارتفعت أسعار الوقود لتبلغ 18 درهما، قبل أن تعود لتستقر في 15 درهما، وقامت شركتي الحليب سانترال والجودة برفع منتوجات الحليب والياغورت.
يحتم هذا ربطا لمطالب النضال الشعبي الآنية بالمطلب المركزي لكل نضال عمالي وشعبي: تدمير أصل كل الشرور: الرأسمالية التابعة ودولتها الاستبدادية.
اقرأ أيضا