مدونة الأسرة أغلالٌ لن يكسرها غير كفاح النّساء الجَماهيري
عاد النقاش حول تعديل مدونة الأسرة ليحتل واجهة التناول الرسمي للحالة النسائية بالمغرب؛ ذلك عقب دعوة الملك، في خطاب مناسبة رسمية في يوليوز2022، إلى ضرورة تجاوز ما أسماه ” الاختلالات والسلبيات” التي شابت التطبيق الصحيح للمدونة و”مراجعة بعض البنود التي تم الانحراف بها عن أهدافها، إذا اقتضى الحال ذلك”. يتعلق الأمر بتغيير جزئي لبعض بنود مدونة الأسرة بمنطق الحفاظ وتعزيز الأسس الكبرى لاضطهاد النساء: الرأسمالية والذكورية
تبقي مدونة الأسرة في جوهرها على الجذور الاقتصادية والاجتماعية لاضطهاد النساء، وتحافظ كل موادها المقننة للعلاقات الأسرية على التقسيم الجنسي والاجتماعي للأدوار بين الرجال والنساء، وتشيء النساء من خلال الحفاظ على تعدد الزوجات، وتمنح فصولها الخاصة بالطلاق والولاية على الأبناء امتيازات للرجال، كما تكرس الميز في الميراث بين الجنسين، وتسمح بتزويج القاصرات وهو عنف قانوني ينجم عنه تحميل الفتيات في سن مبكرة أعباء الأسرة وحرمانهن من حقهن في استكمال دراستهن وتأهيل مستواهن العلمي والمهني. ويحرم القانون الجنائي بدوره النساء من التحكم في حياتهن الجنسية والإنجابية بتجريمه الحق في الوقف الإرادي للحمل والعلاقات الرضائية.
يؤدى تكاثر سكان المدن وتوسع العمل المأجور إلى تحولات كبيرة، في بنية الأسرة وأدوارها، وتفاقم مشاكلها، وهشاشتها في مواجهة أوضاع الفقر الاقتصادي، وخشونة العلاقة الاجتماعية داخلها، وسهولة تفككها بثقل أعباء جدورها في مجتمع رأسمالي متخلف، لا يوفر حد أدنى للحياة الكريمة يرمي على كاهل الأسرة مهمة تحمل الأطفال والمسنين، وما يترتب عنه من صراع يومي لإعالتهم ورعايتهم، ما يحول حياة الأسرة لحلبة صراع تنتهي في الأخير في ردهات المحاكم. يشتد صراع الفقراء حول الكلفة المالية للطلاق في أجواء تسحق نفسية الأطفال يجدون أنفسهم عبئا تتقاذفه أرجل المتصارعين.
تلقي الرأسمالية المتخلفة عبء بؤس الكادحين على كاهل النساء. ترفض توفير خدمات عمومية جيدة ومجانية، تحرص أن تظل الأجور متدنية والبطالة مستشرية، والعمل المنزلي غير معترف به. وفي الوقت نفسه تبقي على منظومة أيديولوجيا متأخرة عن الواقع.
في ظل هذا الوضع غير المحتمل لدى سواد النساء الأعظم، تضغط على الحاكمين ضرورة نزع فتيل القنبلة النسائية، وعلى غرار تدبيرهم لمجمل المعضلات السياسية، يلجؤون إلى “إصلاحات ممنوحة” بتجديد طلاء الأغلال بتعديلات سيظل معظمها حبرا على ورق.
ستتحكم الملكية في مضمون التعديلات المسموح بها، حيث ستصدر اقتراحات التعديل عن الجهات الرسمية المعنية، وسيؤول حسم الأمر إلى الملكية بعد تدافع محتمل بين الأطراف (حركة نسائية تقدمية وقوى دينية رجعية) بما يجعلها تبدو حكيمة فوق طرفين سيبدوان مغاليين أحدهما في “السعي للتحرر من الموروث” و الآخر “في التمسك به”، وهذا كسب سياسي سبق أن فازت به الملكية عند سن المدونة في 2004 وتسعى إلى تجديده. وفضلا عن ذلك، تتمثل غاية أخرى رئيسية في تفادي نشوء حركة نسائية تهتدي إلى طريق النضال الجماهيري الذي يهدد بتقويض أسس القهر الذي تقوم عليها مدونة الأسرة ومجمل القوانين المستعبدة للنساء.
يحرص الحكم على الظهور بمثابة المدافع عن حقوق النساء على مستوى التشريعات، وإثبات تعهد الدولة بالتزاماتها الدولية في مجال مكافحة كافة أشكال الميز ضد النساء، ويعكس دستور 2011 الذي نص على مبدأ المناصفة ومكافحة الميز هذا الادعاء. يبقى نظام الاستبداد أكبر المنتفعين سياسيا من سن تلك القوانين، طالما لا تشكل خطرا على الطابع الفردي للحكم، ولا تقوض ركائز اضطهاد النساء في مجتمع طبقي يقوم على الاستغلال والملكية الخاصة.
باركت العديد من الجمعيات النسائية ما جاء في الخطاب الرسمي، وترى فيه استكمالا لمسار نيل النساء لحقوقهن. ودأبت الحركة النسائية المغربية على تأسيس ائتلافات وتنسيقيات كلما أعطت المؤسسة الملكية الضوء الأخضر لإطلاق “المشاورات ” حول سن أو مراجعة تشريعات تخص حقوق النساء. وقامت في هذا الصدد سبع جمعيات بتأسيس “التنسيقية النسائية من أجل التغيير الشامل والعميق لمدونة الأسرة”، للترافع وتقديم مقترحاتها بشأن تعديل قانون الأسرة. وسبق للجمعيات المكونة لهذا التنسيق أن قامت بنفس المبادرات لتعديل مدونة الأحوال الشخصية، وأسست “ربيع المساواة سنة “2002 وأثنت إيجابا على مدونة الأسرة واعتبرتها “ثورة هادئة” واستجابة ملكية لمطالبها، وأنشأت في خضم نضالات حركة 20 فبراير 2011 “الربيع النسائي للديمقراطية والمساواة”. هذا النوع من الحركة النسائية لا يتوخى بناء القوة الجماهرية القمينة بانتزاع مكاسب فعيلة، قوامها تجسيد المساواة والديمقراطية في قانون الأسرة، ويركن إلى التوجه بالملتمسات إلى فوق والتصفيق لـ”تجاوبه”، ثم بعد عقدين تكرار العملية.
يكتسي النضال ضد كل القوانين التمييزية ضد النساء أهمية مركزية في النضال من أجل تحرر النساء، ويعد النضال ضد قانون الأسرة الحالي إحدى واجهات النضال النسوي، ولا يمكن الحديث عن مساواة قانونية فعلية دون سن قوانين تقطع مع كافة المرجعيات الرجعية البالية ولا تخضع في تشريعها لسلطة الاستبداد السياسي. وستبقى بعض المكتسبات التي تحققت على المستوى القانوني مجرد حبر على ورق مالم تتحمل الدولة العبء الاقتصادي والاجتماعي لتجسيد تلك الحقوق واقعيا.
لن تكسر أغلال مدونة الأسرة إلا بنضال القاعدة العريضة لنصف المجتمع، النساء العاملات و الكادحات، ضمن سيرورة كفاحية تشمل النضال ضد مجمل السياسة النيوليبرالية التي تعمق فقرهن وتبعيتهن الاقتصادية.
إن أنصار تحرر فعلي للنساء يناضلون/ن من أجل قانون أسرة ديمقراطي يكرس المساواة القانونية ويقضي على الميز ضد النساء ويحمي الأطفال ويحمل الدولة كلفة التعهد بإعالتهم المادية. نضال يتجاوز التعديلات الصورية الممنوحة من أعلى بل يرتكز على نضال النساء أنفسهن من تحت في سيرورة تحررهن من الاضطهاد البطريريكي والاستغلال الرأسمالي.
المناضل-ة
اقرأ أيضا