راهنية مُنجز إرنست ماندل ومدى أهميته
بقلم: دانييل تانورو
كرس إرنست ماندل معظم قواه البدنية والفكرية لبناء منظمة ثورية على صعيد وطني وآخر عالمي في ذات الآن: الأممية الرابعة. كان طيلة أكثر من أربعين سنة رحالة حقيقيا للثورة وللمنظمة التي كان قائدَها الرئيسي. كان، ما لم يسافر، يتحرى في بيته بشارع Josse Impens تطورات الصراع الطبقي في البرازيل، وفي المكسيك، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وفي بلدان أوربا الغربية الكبرى، وفي روسيا وفي اليابان وفي كوريا، وعرَضًا في كل بلد حيث يجري “شيء ما”.
ولم يكن رفيقنا يكتفي بمتابعة هذه التطورات وتحليلها، إذ كان يسعى إلى استباقها. كان يرسم، محاولا الإلمام بمنطق الأوضاع اعتمادا على منهج المادية التاريخية الجدلي، معالم الممكنات ويتصرف على هدي ذلك من وجهة نظر حزبية.
كان ماندل دوما على جبهة الجديد المنبثق بالكاد، حيث ممكنات المستقل ترتسم قبل أن تتلاشى وتحل مكانها أخرى، وحيث لا مفر من ارتكاب أخطاء، وقد ارتكبها طبعا، مع خطيئة التفاؤل غير القابلة للفصل عن الالتزام الثوري.
وجهة نظري أن هذا الجديد المنبثق بالكاد، المستقبل القائم منذ الآن في صورة بذرة، الأممية وفروعها كانت تشكل، بحسب ماندل، أجزاء لا تتجزأ: على نمو هذه الذرة يتوقف بنظره في نهاية المطاف تحقيق الجديد المنبجس بالكاد، أي الانتصارات الثورية التي كان يتمناها من صميم كيانه، بناء على تحليله العلمي لتطور الرأسمالية. بناء الأممية جزء من منجَز ماندل، وهو بكيفية ما عنصره الأهم. أقل ما يُقال إن حصيلة هذا القسم من منجز رفيقنا إشكالي وقابل للنقاش. أكثر إشكالية ومدعاة للنقاش من أعماله النظرية، وكتاباته المساجلة ونصوصه التاريخية.
لذا ثمة ميل لدى البعض إلى فصل ماندل العِلمي، الكاتب اللامع لمؤلف رأسمالية العمر الثالث، عن ماندل المناضل الحزبي. بين الاثنين، يمكن، حسب الكُتَّاب، قبول أو الإشادة بكون ماندل قام بتطوير براكسيس في الحركة الاجتماعية بالمعنى الواسع، في الحركة العمالية البلجيكية قبل 1960 وبعدها مثلا، أو في حركة التضامن مع الثورات اليوغسلافية، والكوبية، أو في الهند الصينية. لكن أن يكون شخص استثنائي من هذا العيار قد كرس حياته لبناء منظمة صُغَيِّرةٍ كالأممية الرابعة، فهذا أمر غريب يبدو في غير صالح الشخص. هذا هو الواقع مع ذلك. ليس ثمة ماندلان اثنان أو ثلاثة-الماركسي العلامة، والمثقف الملتزم في النضالات الطبقية، والمناضل الحزبي؛ ثمة ماندل واحد: المناضل الماركسي الثوري.
يمكن بهذا الصدد أن نستعير كلمة إشادة ماندل بابرهام ليون في مقدمته لكتاب هذا الأخير المفهوم المادي للمسألة اليهودية. كتب ماندل:”ربما يتساءل الذي سيطَّلِعون على تاريخه، لماذا كان رجل بتلك المزايا اللافتة للنظر يربط مصيره بمصير منظمة ثورية صغيرة؛ سيشيدون بصدقه وبنزاهته الأيديولوجية التامة (…) ومع ذلك سيتساءلون لماذا كان ابرهام ليون، وهو من الأعظم موهبةً ضمن الانتلجنسيا الأوربية، اختار كي يناضل حركة لا يمكن أن تَعِدُه بنجاح سهل، ولا بمجد ولا بتشريف، ولا حتى قدر أدنى من الرغد المادي، بل بالعكس تتطلب منه كل التضحيات، حتى بحياته، في عمل مديد و مرهِق، وغالبا في عزلة مضنية لتلك البروليتاريا التي يسعى إلى أن يهبها كل شيء. ويعترفون لهذا الشاب الثوري، فضلا عن مزاياه الفكرية، بمزايا أخلاقية استثنائية، وعليهم مع ذلك أن يقولوا لأنفسهم إن حركة بوسعها أن تجتذب، بمجرد قوة افكارها، هؤلاء الرجال، لن تموت إذ يحيا فيها كل ما هو أنبل في الانسان”.
طبعا لعمل ماندل العلمي استقلاله إزاء ممارسته النضالية الحزبية، على غرار سائر الماركسيين. ما أقول ليس اقتطاعَ نوع من حقوق المؤلف الثوري من منجز رفيقنا بما هو علامة. أولا ذلك المنجز هو منجزه. ولم يكف ماندل عن التأكيد على أن مستوى معينا من الإلمام بالماركسية وإغنائها يستندان على جهد فردي.
وفضلا عن ذلك، كتابات ماندل جزء من ميراث البشرية الفكري. وكل إنسان حر في استعماله، كُلا أو جزءا، كما يحلو له، حتى دون استنتاج الخلاصات الثورية لصاحبه. (شرط ذلك الوحيد قبول الخضوع للنقد).
لكن محاولة الإحاطة بمنجز ماندل من وجهة نظر منهجية ماندل ذاته أمر آخر. لا شك بهذا الصدد، بنظري، أن هذا المنجز يمثل كلاًّ غير قابل للفصل. ماندل ذاته كتب أن العمل العلمي للمثقفين الماركسيين ليس له سوى “استقلال نسبي” عن التزامهم النضالي. يصح هذا بلا ريب بشأنه كما يصح بشأن أبراهام ليون وتروتسكي ولينين وغيرهم.
ليس تعنت ماندل في بناء منظمة ثورية، حزب ثوري، نزوةً شاذة لدى شخص بل هو خلاصة منطقية صارمة، مجدَّدةُ البناء بلا توقف ومُتحقَّقٌ منها بنحو دائم بكامل عمله العلمي ومعارفه التاريخية المذهلة. وإن ماندل لأقرب، في هذا المجال، إلى لينين مما هو إلى تروتسكي ولوكسمبورغ، بالأقل من تروتسكي وروزا قبل العام 1917. ويرفض إرجاء حل المشكل إلى ابتكار الجماهير ومقدرتها في الأزمة الثورية. طبعا طاقة الجماهير حاسمة بنظره بما هي خاصية أساسية للأزمة الثورية-لكنها ستتعرض للتبديد ما لم توجَّه بوعي نحو الهدف الأول، هدف تدمير الدولة البرجوازية والاستعاضة عنها بدولة الديمقراطية العمالية. هذا الانتصار الأول للثورة الاشتراكية لا يُرتجل.
وعلى غرار لينين، ينبع تعنت ماندل «الحزبي” من اقتناعين متلاقيين:
- دخلت الرأسمالية منذ أغسطس 1914 أزمة بنيوية تهدد البشرية بمخاطرَ رهيبةٍ، وتضع في الآن ذاته على جدول الأعمال التفجرَ الدوري لأزمات ثورية. أزمات يرى ماندل ضرورةَ جعلها تفضي إلى انتصارات، وإلا تفتَحُ حقبَ ردة قد تكون كارثية العواقب، ليس على البروليتاريا وحسب بل على البشرية جمعاء: على هذا النحو يحلل ماندل انتصار النازية في ألمانيا بما هو عاقبة لفشل الثورة الألمانية لأعوام 1919-1923 (ما لا يعني حتمية تلك العاقبة)، فشل يحيل بدوره إلى نقص الاستعداد بحزب ثوري قادر على تنظيم العمال المتقدمين في اللحظة الحاسمة.
للثورة الاشتراكية أربعُ سمات تميزها عن سائر الثورات في التاريخ، وخلاصتها هي ذاتها: يجب بناء حزب ثوري. هذه السمات الخاصة معروفة جديا، أُعيدها إلى الأذهان بعُجالة:
° ثورة تنجزها الطبقة الأدنى في المجتمع، طبقة تملك في الواقع طاقة اقتصادية كامنة عظيمة لكنها بلا أي سلطة اقتصادية: أول ثورة في التاريخ لا ترمي إلى إعادة نظام قديم، ولا إلى تحرير تطور نظام جديد سائد على صعيد اقتصادي، بل عليها أن تنجز سيرورة جديدة كليا على صعيد اقتصادي وآخر سياسي على السواء.
° ثورة لا تشكل نهاية قلب المجتمع من قبل الطبقة العاملة بل بدايته فقط.
° ثورة عالمية بطبعها، لا تكتمل سوى بالتشييد الشامل لمجتمع بلا طبقات ولا دول.
أقول إن هاذين الاقتناعين متلاقيان لأن كليهما يطرح سؤال مركزة الطليعة في منظمة على حدة كشرط لتشكل البروليتاريا في “طبقة لذاتها”. ليس الحزب في تصور ماندل صنما بل محل ديالكتيك بين الانفصال عن الطبقة والاندماج في الطبقة. بدون هذا الديالكتيك-المستلزمِ روابطَ تُمفصل بين جماهير العمال-والعمال المتقدمين-والنواة الثورية-ما مِنْ تَشكُّل ممكن لوعي طبقي ثوري، بحسب ماندل. لذا يعتبر ماندل كتابات لينين بصدد المسائل التنظيمية كتابات نظرية ذات أهمية قصوى. “لم يُخلِّف لنا ماركس نظرية ناجزة حول تشكل وعي البروليتاريا الطبقي”، وأوضح في الآن ذاته: “تمثل النظرية اللينينية في التنظيم تعميقا للماركسية مطبقا على المسائل الأساسية للبنية الفوقية للمجتمع. وتُشكِّل مقرونةً بأعمال لوكسمبورغ وتروتسكي (وبقدر ما لوكاتش وغرامشي) ماركسية العامل الذاتي”.
في هذا النقطة، يذهب دفاع ماندل عن لينين ورده على انتقادات روزا (وتروتسكي) حقيقة إلى عمق المسألة. بنظر ماندل، كما لينين، الحزب الثوري أداة لا غنى لتشكل الوعي الطبقي الثوري عنها. فقط ضمن هكذا إطار يمكن للعمال المتقدمين، أولئك الذين يواصلون المعركة حتى في حقب التراجع، التعاون مع مثقفين ثوريين، (يجب أن نضيف اليوم: مع الشباب، والنسويات الماركسيات، ومع مناضلي العالم الثالث، (…) من أجل تجاوز متسق لحدود النضال الاقتصادي، وبالتالي إدراك مجمل علاقات الاستغلال والاضطهاد، ومن ثمة تطوير المعرفة الإجمالية للمجتمع التي تشكل أساس كل خطة استراتيجية نحو الاستيلاء على السلطة السياسية-حتى عندما تشكل الطبقة العاملة سواد السكان الأعظم، كما هي الحال راهنا في البلدان الرأسمالية المتطورة. بدون هكذا فهم سياسي- عملي من قبل شريحة العمال المتقدمين، وبدون استطاعة هؤلاء العمال التقدم بمطالب انتقالية، مكيفة مع كل مرحلة من حركة الجماهير، مستهدفة مسألة السلطة، وبدون رؤية لعلاقات القوى العالمية، وبدون عُدَّة متينة من الدروس المستنتَجة من تاريخ النضالات الطبقية، يغدو ضربا من الوهم التام بنظر ماندل تخيُّلُ مقدرة طبقة دنيا كما هي الطبقة العاملة على تجرؤ ادعاء ممارسة السلطة، فضلا عن استلامها فعلا والدفاع عنها بوجه مخاطر الانحطاط البيروقراطي.
لقد أسلفتُ قول ذلك: إن حصيلة النشاط الماندلي في بناء منظمة سياسية إشكالية ومدعاة للنقاش. وماندل ذاته لا يتبلبل بهذه المعاينة. من اللافت أنه قاوم هذا التوتر دون أن يسقط قط في العصبوية. لم يكن واهما بتاتا بصدد “الخط السديد” كحل معجزة لبناء منظمته.
كان يدرك، بنحو أفضل من أي كان، أن العوامل الحاسمة هي نشاط الجماهير والدروس التي يستخلصها منها العمال المتقدمون. ربما أنه لم يستخلص كل العواقب من واقع أوضحه هو ذاته، ألا وهو أن ليس هناك ديالكتيك حزب-عمال متقدمون-طبقة عاملة فقط، بل أيضا ديالكتيك حزب ثوري-أحزاب غير ثورية-عمال متقدمون-طبقة عاملة. والحال أن قانون جاذبية الجماهير لا يشتغل لصالح الحزب الثوري: حتى العمال المتقدمون الذين أدركوا ضرورة ممارسة السياسة يريدون استنفاذ كل الإمكانات الأخرى قبل دق باب منظمة من قبيل الأممية الرابعة.
والمفارقة أن ماندل المتحمس المتعجل لرؤية المساء العظيم، هو أيضا مناضل صبور. كان وعيه للعقبات على طريق الثورة حادا بقدر وعيه للممكنات. على هذا النحو كان بوسعه أن يصحح بسرعة الوجهة عمليا عندما يدرك أنه أخطأ. وكان يبرز آنذاك أن الأممية الرابعة هي اليوم المنظمة الأممية الثورية الوحيدة القائمة فعلا ككيان وليس كمنشأةٍ أُمٍ ذات بضعة فروع. ولم يكن يرى أي تناقض بين بنائها وبين المشاركة في عمليات إعادة تركيب سياسية لليسار، كما في البرازيل او إيطاليا. وكان يثمن المكسب الثمين المتمثل في وجود بضع آلاف من الأطر الماركسية الثورية المنغرسة جيدا في النضالات الاجتماعية لبلدانها عبر فروع وطنية تحوز بعضها تأثيرا حقيقيا وحتى تمثيلا لا يستهان به في المؤسسات المنتخبة. من وجهة النظر هذه، يصعب اعتباره على خطأ. لا سيما أن ما من أحد أتى الدليل إلى طريق آخر للقيام بسياسة ثورية.
وهنا في الواقع يوجد النقاش، إن كان ثمة نقاش: “النظرية اللينينية في التنظيم هي نظرية للثورة الاشتراكية ” كما كتب ماندل.
لم يهزم بعد أحد الأولى دون مهاجمة الثانية.
رابط المقال الاصلي
ترجمة المناضل-ة
اقرأ أيضا