القّيادات النّقابية الخمسْ والتّفاوض مع الوزارة، إجماعٌ على إخفاء الحقيقة عن الشّغيلة
أصدرت قيادات النقابات التعليمية الخمس الأكثر تمثيلية (FDT-FNE-UGTM-CDT-UMT) بلاغا مشتركا حول مجريات لقاء لجنة الحِوَار القطاعي ليوم الأربعاء 20 أبريل 2022. مُضَمِّنَةً إياه جردا للائحة ملفات الفئات التعليمية التي يجرى التفاوض بشأنها، ومنها الموعود بحلها في إطار “النظام الأساسي الجديد”، والذي تشارك هذه القيادات النقابية في “صياغته”، في مسايرة حثيثة لخطة الدولة. فاشتراط تمرير المخطط القاضي بـهدم نظام 2003، المعمول به، مقابل فتات، هو مُقايضة رخيصة سرعان ما سيتجلى طابعها المدمر لمكتسبات الوظيفة العمومية.
لا تختلف بلاغات القيادات النقابية، والحالة هذه، عن بلاغات وزارة التربية الوطنية: فهي تجرد نقاط جداول أعمال اللقاءات، وتخبر بـموعد الجلسة القادمة “للحوار القطاعي” .لا تعبئة للشغيلة، ولا تحريض. بل لا تفاصيل عن مجريات الاجتماعات. فماذا طرحت وزارة التربية الوطنية في عشرات اللقاءات المنصرمة؟ وما مضمون مقترحات هذه القيادات؟
إن التوقيع على اتفاق يناير 2022 الذي اشترط التكتم على مضامين النقاشات، تعبير عن حجم التواطؤ الذي أوغلت فيه قيادات النقابات، والتي أضحت الفروقات بينها منعدمة، حيث ظلت منضبطة جميعها وأبقت مجريات كواليس التفاوض سرا لا يبرح ديوان الوزارة. على هذا الدرب سار القادة المنتسبون إلى اليسار، المشاركون في اللجن التقنية، والغارقون بدورهم في مستنقع التشارك مع الدولة في تمرير خطتها، مساهمين بذلك في خداع قواعدهم وعموم الشغيلة.
بلاغ ناتج عن ضغط
هذا البلاغ المشترك هو الأول من نوعه فيما تلا الاتفاق الموقع فِي 18 يناير 2022. فما الدافع للتعجيل بإصدار بلاغ مشترك مدبج بملفات مطلبية، و لا يحمل جديدا غير الوعود ذاتها؟
البلاغ تعبير عن تأثير الضغوط التي تتعرض لها القيادات من قاعدتها ومن شغيلة التعليم. فاتفاق 18 يناير 2022 الفارغ ولد سخطا، ليس ضد الدولة وحسب، بل حتى ضد قيادات نقابية كرست منطق شراكة اجتماعية مع الدولة، أي مساندتها على تنفيذ خططها في قطاع التعليم وتوفير غطاء لتصعيد هجومها تجاه مكاسب تاريخية لشغيلة القطاع، باسم “الحوار” الذي ستتمخض عنه “حلول مبتكرة”. ففي ثنايا أشد هجمة شرسة تستجدي هذه القيادات الحفاظ على المكاسب، وانتزاع أخرى !.
البلاغ بمثابة التفاف على توجس الشغيلة وانتقاداتها ودعواتها العديدة للانسحاب من لجن إعداد النظام الأساسي، وجوابٌ من القيادة النقابية على الداعين للانسحاب، تبرر عبره تواجدها في اللجنة التقنية لصياغة النظام الأساسي الذي سيعصف بالوظيفة العمومية الممركزة.
فخ اشتراط حل الملفات المطلبية في إطار نظام أساسي تراجعي
قبول هذه القيادات التفاوض بصدد الملفات المطلبية لشغيلة التعليم في إطار نظام أساسي جديد فخ عظيم، إذ لا يخفى أن الدولة إنما تبحث عن السبل الممكنة لهدم نظام 2003 بأقل تكلفة، مع تفادي ما قد يولده ذلك من احتجاج، لا سيما إن تحرك جسم الرسميين، ما سيضع الدولة في موقع ضعف، إذا تضافر نضال هذا القسم من الشغيلة، مع نضال المفروض عليهم-هن التعاقد.
لذلك فصيغة حل الملفات المطلبية في إطار النظام الجديد، هو آلية خطيرة ستجعل الشغيلة ينتظرون فتات ما قد يتحقق فئويا، وينشغلون عن مضامين هذا النظام في شموليته. إن الضربات والهزائم المتتالية التي تكبدها الشغيلة، إنما سُدِّدَت باستعمال نفس الخطة. ألم يكن معظم القيادات الحالية جزء من اللجنة الملكية التي باسمها صدر الميثاق الوطني للتربية والتكوين وما تبعه من مخططات صادرة عن المجلس الأعلى للتعليم وهلم جرا ؟ ألم تكن قيادات النقابات جزءً من اللجن التقنية لإصلاح أنظمة التقاعد وتوسمت خيرا من مشاركتها في ذاك الإصلاح؟ فما تمخض عن تلك المشاركة من مكاسب غير الضربات الموجعة..
هل يتعلق الأمر فعلا بنظام أساسي في إطار الوظيفة العمومية؟
سبق لقادة النقابات التعليمية التشديد في مناسبات مختلفة على أن النظام الأساسي الجديد ينتمي لنظام الوظيفة العمومية (1958). إن وثائق الدولة ومؤسساتها، والتزاماتها مع الدائنين الأجانب، لا تخفي نيتها وعزمها على إصدار نظام أساسي خارج الوظيفة العمومية. فالدولة منذ 2013 وعبر إجراءات عملية، تؤكد بألف دليل أنها تريد إصدار نظام أساسي جديد خارج الوظيفة العمومية. بل عملت على استصدار ترسانة قانونية مسبقا، مهيأة الشروط القانونية والتنظيمية للوظيفة الجهوية.
وفي هذا السياق صودق على المرسوم رقم 2.17.618 بمثابة ميثاق وطني للاتمركز الإداري في 26 ديسمبر 2018، هذا المرسوم الذي ينقل صلاحيات تدبير المسار المهني ل “الموارد البشرية”- من المؤسسات المركزية للدولة إلى “رؤساء المصالح اللاممركزة للدولة على الصعيد الجهوي”. ومعلوم أن المسار المهني يبتدئ بالتوظيف وينتهي بالتقاعد مرورا بالترقية والتأديب… وحددت الدولة مدة استكمال تنفيذ إجراءات تنزيله في ثلاث سنوات. كما صدر المرسوم رقم 2.19.40 بتاريخ 24 يناير 2020 ليحدد “نموذجا للتصميم المديري المرجعي للاتمركز الإداري الذي ستشتغل عليه كل بنية ممركزة للدولة” لنقل صلاحياتها للبنيات الجهوية والإقليمية في المدة المحددة (عدا قطاعات العدل والأوقاف والدفاع ومديرية الأمن، المستثناة من أحكام ميثاق اللاتمركز). هذا علاوة على المرسوم رقم 2.15.770 الصادر في 5 ذي القعدة 1437 (9 أغسطس 2016) القاضي بتحديد شروط وكيفيات التشغيل بموجب عقود بالإدارات العمومية.
جوهر الأمر إذن هو ما تفعله الدولة وليس ما تقوله للقيادات النقابية. واستمرار ترديد وعود خارج مجرى الوقائع الملموسة، لا يعني سوى قيادة الشغيلة مباشرة صوب المذبحة.
“شراكة اجتماعية” خادمة لإستراتيجية الدولة
منذ نوفمبر 2021 التحقت تلك القيادات بدعوات وزارة التربية الوطنية لـ”الحوار”. وامتد هذا الأخير طيلة الموسم 21/22، وها نحن مشرفون على نهايته. خطة الدولة، تقوم على زرع الأوهام. والحال أنه منذ غشت 2019، استأنفت الدولة تطبيق “القانون الإطار 51.17″ الوارِد جوهرُه في التقرير العام لـ”لجنة النموذج التنموي”.
ليس الحوار بشكله هذا حصيلة ضغط نضالي، بل حيلة لجأت إليها الدولة بعد رفض مديد، لأن ذلك يخدم غاياتها السياسية الرامية لتمرير ضرباتها النوعية ببصمات النقابات الأكثر تمثيلية. بهذه المنهجية مررت الدولة بنجاح هجمات قاسية مضفية عليها طابع المشروعية [الميثاق الوطني للتربية والتكوين، مدونة الشغل، إصلاح أنظمة التقاعد..]، كما أبطلت مفعول دينامية نضالية نوعية [الحوار الاجتماعي لأبريل 2011 المفضي إلى تحييد الطبقة العاملة عن المشاركة في حراك 20 فبراير]. وفي السياق الراهن، تستعمل الدولة هذا الحوار لأجل تدمير الوظيفة العمومية المركزية ونسف مكتسبات الشغيلة باستقدام طرق الاستغلال التي أثبتت وَقْعَها الكارثي المدمر في القطاع الخاص، وهزم نضال المتعاقدين-ات قسرا والأجيال القادمة مقابل تنازلات مادية جزئية لبعض الفئات، سرعان ما تستردها أضعافا. تكتيك الدولة مكشوف وقائم على تقسيم شغيلة التعليم بإغراء قسمها الرسمي بتنازلات والاستفراد بالمفروض عليهم-هن التعاقد الذين سيشكلون أغلبية شغيلة القطاع. والمصيبة أن القيادات النقابية تجاري الدولة في مناورتها متوهمة انها تدافع عن قاعدتها… متجاهلة أنها تفسح الطريق أمام دكاك الدولة ليجعل الوظيفة العمومية ومكاسبها في مهب الريح.
إن الرابح من وراء هذا الحوار هو الطرف الأقوى الذي يمركز نقاط القوة بين يديه، بينما يخرج الطرف الأضعف خاوي الوفاض. وميزان القوى الاجتماعي حاليا مائل لصالح الدولة، التي استطاعت ضبط الوضع النقابي والتحكم في نضالية الشغيلة وحصرها في حدود لا تهدد مخططاتها. وتعاون هذه القيادات يزيد من تقوية كفة الدولة وإضعاف كفة الشغيلة. لذلك فالجري وراء “الحوار” خارج سياق نضالي لا يجلب إلا فتاتا تافها، هذا إن استطاع انتزاعه. إن واجب النقابات هو إعداد القوة اللازمة لفرض تفاوض مثمر من زاوية مصالح الشغيلة، وليس الركض وراء وهم شراكة اجتماعية، أثبتت سوابق تاريخية أنها لا تحافظ على مكسب ولا توقف هجوما.
ما العمل؟
القيادات النقابية مطالبة بتقديم جواب واضح لا لبس فيه حول تساؤلات الشغيلة، وعليها أن تؤدى أبسط واجباتها إزاء المعنيين الأصليين بأوضاع شغلهم ومستقبلهم المهني:
- من حق الشغيلة الاطلاع الدقيق على ما يجرى التفاوض حوله، وعلى مقترحات الدولة وبدائل القيادات النقابية.
- عرض تقارير تفصيلية منتظمة على الفروع والأجهزة النقابية، لا تقارير موجزة. ويجب فتح النقاش حول موضوع النظام الأساسي بشكل منتظم ومفتوح أمام كل المنخرطين لأجل إبداء أرائهم.
- تنظيم جموع عامة لنقاش موضوع النظام الأساسي، وحملة تنوير لعموم الشغيلة بشأن مضامينه، تتعاون فيها فروع النقابات الخمس.
- كخطوة نضالية أولى نحو الرد الجماعي المطلوب على هجوم الدولة الشامل، يجب التعبئة لتنظيم إضراب عام في القطاع بمشاركة المفروض عليهم/هن التعاقد، وتعزيزه بتنسيق نضالي حقيقي بين مختلف تنسيقيات شغيلة التعليم حول ملف مطلبي وبرنامج نضالي موحدين.
- ربط هذا النضال ضد النظام الأساسي التراجعي بالنضال ضد الهجوم القادم على الحق في التقاعد.
إن الوقائع آجلا أو عاجلا ستكشف الحقيقة كاملة ولن تقبل الشغيلة حينها تبرير خداعها بحجج واهية، ولن ينطلي عليها القفز من سفينة الخداع في الأشواط الأخيرة وادعاء الوفاء لمصلحة الشغيلة.
بقلم: م.ح
اقرأ أيضا