دروس نضال أجراء وأجيرات التعاقد المفروض وهرولة قيادات النقابات إلى “الحوار القطاعي”
بقلم: وائل المراكشي
للمرة الثانية على التوالي تفضل القيادات المركزية النقابية هجرانَ شارع النضال وميدان الإضراب لتلتحق بدعوة وزارة التربية الوطنية لـ”الحوار”. المرة الأولى هي إضراب التنسيقية وإنزالها في شهر أكتوبر، والمرة الثانية في مسيرتين قطبيتين بمدينتي فاس ومراكش يوم 16 نوفمبر 2021.
مسيرة القطبين: انتعاش علينا الحرص على ألا يكون ظرفيا
تبقي تنسيقية أجراء- ات التعاقد المفروض شعلة النضال متقدة. عرفت مدينتي فاس ومراكش مشاركة آلاف الأساتذة- ات، وعلَّق على حجمها بعض المناضلين- ات بقول: “مشاركة فاقت التوقعات” وبعض آخر بقول: “فاقت حدود المعقول!”. ما يدل على تحول الكامن من استعدادات نضالية في صفوف الأساتذة- ات إلى فعل ميداني، ذلك الاستعداد الكامن الذي جرى كبته بسبب الاقتطاعات من الأجور والاعتقالات والمتابعات القضائية، فضلا عن ما بدا وأنه استجابة لبعض المطالب (الإلحاق بـ CMR، الالتحاق بالزوج). كمون ذلك الاستعداد وعدم ظهوره على السطح هو ما يفسر مفاجأة العديدين- ات بالمشاركة التي فاقت التوقعات، وفي الآن ذاته قياسا إلى التراجع الكبير الذي عرفه النضال طيلة السنتين الماضيتين.
درس ذلك الرئيسي هو أن المعنويات والقتالية لا يمكن الحفاظ عليها دائما في خط تطوري، بل تتذبذب صعودا وهبوطا حسب مستجدات الهجوم ومقاومته وسياق هذه المقاومة.
يعزى تفوق المشاركة على التوقعات إلى ما كان قبل مسيرتي القطبين. فالانتصار في قضية وجدان سليم واضطرار الدولة إلى السكوت عمليا عن إجبارية جواز التلقيح بعد تظاهرات جبارة في مراكز البلد (طنجة، البيضاء، الرباط، أكادير، فاس…)، كانا إشارة واضحة التقطتها شغيلة التعاقد المفروض على أن بالإمكان انتزاع شيء ما. ماذا سيكون ذلك الشيء: هل هو الإدماج وإسقاط التعاقد أم تحسين ظروف الاشتغال في ظل نفس نمط التوظيف؟ ذلك كله مرتبط بميزان القوى، الذي تتلمسه الشغيلة تجريبيا وليس عن دراسة ووعي مسبَقين.
السبب الآخر مرتبط بما أثاره تصريح وزير التعليم (شكيب بنموسى) على أن شهر نوفمبر سيحمل جديدا بخصوص الملف وتصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة مصطفى بايتاس بأن هناك “حلولا مبتكرة” في ذات الصدد. فقد أثار هاذان التصريحان أملا بوجود “حل”، مع جهل مضمونه رغم أنه وارد بالتفصيل في “القانون- الإطار” و”النموذج التنموي الجديد”؛ لكن الغموض دائما مغرٍ أكثر من الوضوح. حفزت هذه الآمال/ الأوهام الاستعداد النضالي، بمبرر أن ضغطا متزايدا “قد يحسن العرض الوزاري”، فضلا عن البحث على مجد المشاركة النضال- وإن في وقت بدل الضائع- من أجل انتزاع المطلب، خصوصا إذا توفرت ضمانات لذلك الانتزاع، يتقي معه هؤلاء نظرة الازدراء بفعل تمتعٍ بمكسب لم يساهموا في انتزاعه.
سبب ثالث هو مكان تنظيم المسيرتين. فنقلها من المركز (الدار البيضاء) إلى جهتي مراكش وفاس شجع ارتفاع نسب المشاركة. بعد الاعتقالات الأخيرة في أبريل وأكتوبر 2021، تكرست فكرة أن العاصمة تعني الاعتقال في عقول الكثيرين. ومن الحكمة طبعا عدم تقديم ضحايا مجانية، ولكن بدل أن يحدث ذلك إثر نقاش جماعي يفضي إلى تلك الخلاصة، بلغها الأساتذة- ات بشكل فردي وانقطعوا تلقائيا عن مسيرات المركز. والمشاركة في المسيرتين القطبيتين الأخيرتين تؤكد إحدى سمات الشعب عندما يكون في موقع ضعف: حساب دقيق لكُلفة المشاركة في أي خطوة نضال. وقد تأكد الأمر بخصوص الأشكال الجهوية السابقة حيث قُمِع بعضها بينما ترِك بعضه الآخر لحاله، وحتى قمع الأول لم تنتج عنه اعتقالات أو متابعات. والاستنتاج هو: المسيرات الممركزة تعني الاعتقال، وقمع أخف في المسيرات الجهوية. حتى هنا ظل التوتر واضحا للعيان: واكبت قوات القمع المسيرة تاركة لها مساحة محددة عليها ألا تتجاوزها، وهو ما التزم به المتظاهرون- ات، ملتجئين حتى (في مراكش) إلى شريط لا يتعدونه إلى الجانب الأخر الذي تحتله أجهزة القمع. لا يعني الأمر أن المراكز أصبحت محرمة، فلو تنادت النقابات إلى المشاركة ونسقت التنسيقية مع الفئات الأخرى التي احتجت في الرباط (ممرضين- وأطباء- ات وشغيلة التربية غير النظامية والتعليم الأولي)، لتكمنَّا من “فتح” هذه المراكز للاحتجاج مرة أخرى.
علينا ألا نغفل عن “رمزية” المدينتين: فاس حيث استطاع إنزال وإضراب جهويين رد الأستاذة وجدان سليم إلى عملها، ومراكش حيث نُظِّم اعتصام جهوي تضامنا مع الأساتذة المرسبين. إن آثار ذلك على معركتنا دال وحاسم، فأغلب الشغيلة حاليا لديها الاستعداد للانخراط في معارك دفاعية تحافظ من خلالها على مكاسب المعارك السابقة، لكن استعدادها أقل للمشاركة في معارك تتطلب جهدا نضاليا أشد وبكلفة أعلى. قد يتعدل هذا المزاج إن تمكن الأساتذة- ات بنضالاتهم- هن الدفاعية من رد تعديات مباشرة، ما يرفع المعنويات، وهذا يحتاج إلى بصيرة نضالية لن تتأتى إلا عبر استحضار خبرة الانتصارات الجزئية والهزائم السابقة وفهم مستجدات هجمات الدولة. يدفع إغفال هذا السياق العديدَ مرة أخرى إلى البحث عن تفسير نجاح المسيرتين في التنسيقية ذاتها وينتعش معها شعار “فخر الانتماء” والنزوع إلى الفئوية، ما سيُسِهم في سرعة انطفاء هذه الدينامية الجديدة.
هل هذه الحماسة والمشاركة التي فاقت التوقعات مجرد حادث عرَضي وظرفي؟ ستكون كذلك إذا لم نُحسِن قراءة الوضع في شموليته، بدل الانغماس في حالة انتشاء بنجاح خطوة اليوم وتقرير خطوات نضالية بناءً عليها وحدَها. والبدء بمعرفة ما تُعِدُّه الوزارة فعلا ودور القيادات النقابية في ذلك هو مهمتنا الضرورية الآنية.
بدون تعبئة مُسبقة تهيئ آلاف الأساتذة- ات لفهم خطة الوزارة، فمهما كان اتجاه تلك الخطة سيؤثر سلبا على الحماس ويؤدي إلى فتور الهِمة. إن كانت خطة الوزارة هي التماطل (وهو ما يبدو فعلا من بلاغها حول “الحوار القطاعي” 16 نوفمبر) فسيستنتج الكثيرون- ات أن الضغط لم يؤتِ أكله: ما مبرر مزيدِ الضغط إذاً؟ واستنتاج أن ما لم يأتِ بالنضال سيأتي بمزيد من النضال احتمالٌ ضئيلٌ ومقتصرٌ على الطلائع الأكثر صمودا، وليس بمن استيقظ لتوه من مناخ الاستكانة. أما إن كانت خطة الوزارة تقديمَ تنازلٍ فإن الكثيرين- ات سيستنتجون أن الضغط أتى أكله، وأن الظروف لا تسمح إلا بـ”تحسين العرض الوزاري”، وسيكون من المغامرةِ زيادة الضغط بما يمنح الوزارة ذريعة التملص، كما وقع مع سعيد أمزازي في يناير 2020 بمبرر أن الوزارة لا تتحاور تحت الإكراه.
شكلت مسيرتي فاس ومراكش فرصة ذهبية، إذ التقى آلاف الأساتذة- من كل مناطق البلد. فرصة كان لازما استغلالها لتنظيم نقاش حقيقي حول خطة الدولة لتطبيق ما تبقى من “القانون- الإطار” و”النموذج التنموي الجديد” وهزم كل مقاومة ضدها وعلى رأسها تنسيقية التعاقد المفروض. لكن تقاليد الأشكال النضالية الحالية لا تتيح حتى إمكانية التفكير في ذلك. تَشغل الشعارات تسعة وتسعين بالمئة من مدة المسيرات والاعتصامات: لا نقاشات (باستثناء كلمات تحريضية، والكلمة الختامية التي تكون عادة قراءةَ البيان الوطني) ولا منشورات توزَّع، فتقاليد الإعلام العمالي أُقبِرت مع غيرها من تقاليد النضال العمالي الأخرى، ولم تتمكن بعد الأجيال الشابة من بعثها، رغم ما تتيحه وسائل التواصل الجديدة من إمكانات هائلة.
من شأن هذا النقاش والتوضيح أن يجعل الحاضرين- ات مدركِين- ات لحجم المعركة ورهاناتها بالنسبة للدولة وبالنسبة للشغيلة، وما يتطلبه ذلك من تطوير لجهود الفهم والنضال. إن لم يجرِ استدراكُ هذا النقص، قد يخبو الحماس الحالي وتتأكد ظرفيته، تماما كما وقع مع مسيرات الأقدام وإضراب المؤسسات في يناير 2021.
علينا ألا نقتصر على إبقاء شعلة النضال متقدة، بل حفز بقية النضالات والمشاركة في نضالات قائمة بنَفَسٍ وحدوي: نضالات شغيلة الصحة وباقي فئات شغيلة التعليم.
خطة الوزارة؟
ليس للوزارة خطة جديدة، فهي تطبق ما جرت المصادقة عليه في غشت 2019، أي “القانون الإطار 51.17″ الوارِدُ جوهرُه في التقرير العام لـ”لجنة النموذج التنموي” التي سبق لوزير التعليم الحالي ترؤسَها. فـ”القانون- الإطار” منذ المصادقة عليه في البرلمان أصبح مُلزما لجميع الحكومات، ما لم يصدر قانون آخر ينسخه أو يفرض النضال إلغاءَه أو تأخير تطبيقه. لذلك فأمل أن يقدم “حوار” الوزير مع القيادات النقابية “حلا مبتكَرا” وَهْمٌ نزرعُه في أنفسنا وتغذيه هذه القيادات.
جزء من هذه الخطة كان عبارة عن إحدى مآخذ التنسيقية الوطنية على سياسة الدولة. اعتمد خطاب التنسيقية على ما أُطِلق عليه “ترافعا قانونيا” سعيا وراء تَصيُّد الثغرات القانونية لإجراءات الدولة (وضمنها مخطط التعاقد) للتأكيد على لا قانونيتها وبالتالي مشروعية مطلب الإدماج.
كان أحد تلك المآخذ أن النظام المحدث للأكاديميات الجهوية (المرسوم 07.00) لا يمنحها صلاحية ترسيم المدرسين- ات، وعزمُ الدولةِ حاليا هو تعديل ذلك المرسوم بما يخول الاكاديميات تلك الصلاحية.
سيُعتَبرُ ذلك تقنينا لإحدى الهجمات الرئيسية على الوظيفة العمومية التي تسعى إلى القضاء على مركزيتها وتعويضها بتوظيف جهوي (في أفق إقليمي ومحلي حسب المادة 135 من “الميثاق الوطني للتربية والتكوين”).
ورد في “حقيبة تنزيل مشاريع القانون- الإطار” ما سيقوم شكيب بنموسى بتفعيله، بغض النظر عن خلاصات حواره مع القيادات النقابية. فحسب مؤشرات تَتبُّع التنفيذ الواردة في هذه الحقيبة، تعمل الوزارة على إصدار “مرسوم خاص بشأن النظام الأساسي الخاص بموظفي الأكاديميات الجهوية بالجريدة الرسمية داخل آجال معقولة”، ويعني ذلك التثبيت القانوني لآلاف الأساتذة كشغيلة لدى الأكاديميات الجهوية وليس مركزيا لدى الوزارة كما تطالب التنسيقية.
ليس هذا بأمر محض تشريعي، بل هو في صميم خطة القضاء على الوظيفة المركزية وإحلال الوظيفة الجهوية محلها (توصية تقرير البنك الدولي لسنة 2017). وهو ما نصت عليه حرفيا الحقيبة بقول: “اعتماد تدبير جهوي للموارد البشرية في انسجام مع النهج اللامتمركز لمنظومة التربية والتكوين”.
هل سيُعتَبر ذلك مكسبا أم التفافا على المطلب الأصلي؟ كِلا الجوابين صحيحين. فإصدار مرسوم في الجريدة الرسمية يثبت وضعيةً قانونية بعد أن كانت هشة وخاضعة لمزاج مدراء الأكاديميات، دون إغفال أن تطبيق المكاسب المقننة تخضع بدورها لميزان القوى؛ وأفضل مثال هو تهرُّب أرباب العمل من تطبيق مدونة الشغل. إن مرسوما يقنن وضعية التوظيف الجهوي أفضل بكثير من عمل بالعقود محددة المدة مع الأكاديميات الجهوية، ولكن هذا المرسوم أقل بكثير من الإدماج في نظام أساسي لوظيفة عمومية مركزية. قد يكون الأول جسرا نحو الثاني، إن استعملنا ذلك المكسب غير الناجز كرافعة لتعبئة المزيد من شغيلة التعليم، والفئات الأخرى من الشغيلة التي دمر التوظيفُ بالعقدة شروط عملها (القطاع الخاص)، أو التي يهدد بتدميرها (الصحة والجماعات المحلية). ولن يمنع “ترسيم المفروض عليهم التعاقد” مع الأكاديميات الجهوية النضالَ من أجل الوظيفة العمومية القارة، بل سيساعد في تحسين شروط ذلك النضال.
هل سيُعتَبر بذلك تنازلا من الدولة؟ طبعا، خصوصا إذا استحضرنا خطتها الأصلية: التوظيف بموجب عقود يجري تجديدها بشكل دوري مع تضييق ضمانات التجديد. لكن نضال التنسيقية ومجمل شغيلة التعليم فرض عليها الحديث عن “إلغاء التعاقد” و”التوظيف الجهوي بموجب مرسوم”.
هل يعدل ذلك التنازل اتجاه هجوم الدولة؟ أبدا. فالهدف الاستراتيجي للدولة لا زال قائما وهو هدم الوظيفة العمومية المركزية. والتوظيف الجهوي (بمرسوم أو بدونه) هو من معاول ذلك الهدم. لكن هذا التنازل يُبطئ ذلك الهجوم ويخفف من وقعه، وهو بحد ذاته مكسب، يُحتسَب لتنسيقية التعاقد المفروض.
الدولة مجبَرةٌ حاليا على هذا التنازل. فتفجرية المسألة الاجتماعية التي أبانت عن قسط يسير منها الاحتجاجات ضد إجبارية جواز التلقيح التي سرعان ما تحولت ضد تردي الخدمات الصحية وغلاء الأسعار وإضرابات واحتجاجات نقابات الأطباء- ات والممرضين- ات، كلها أمور تدرك منها الدولة ضرورة التلويح بجزرة التنازلات، ما دامت عصى القمع غير قادرة على ضبط الوضع.
إذا جرى التعامل مع تنازل الوزارة بعقلية إما الإدماج أو لا شيء، سنكون قد اقترفنا جريرة “القَصَوِية”. وهو ما تتمناه الدولة وتدفعنا إليه، إذ سيتيح لها ذلك عزل “الأقلية المتطرفة” التي تريد إسقاط مخطط التعاقد، والأكثرية التي تريد تلطيف أوضاع استغلالها. أو باللغة الشائعة في صفوف مناضلي- ات التنسيقية بين من “يريد إلغاء العبودية” ومن “يريد تحسين ظروفها”. وهذه الأخيرة، أي الأغلبية، هي الأكثر تحسسا وبشكل غريزي، لميزان القوى واتجاه ميلانه بحكم أنها ليست مؤطرَّة بترسيمات نظرية مُسْبَقَة تبحث عما يسوغها في الواقع، كما هو الحال مع “الأقلية المتطرفة”. إن لم تُتقِن هذه الأخيرة استعمال “تنازلات” الدولة من أجل ترسيخ فكرة جدوى النضال في أذهان الشغيلة وتعبئة أقسامها الأخرى للانخراط فيه، ستنجح الدولة فعلا في دق إسفين عميق بينها وبين الأكثرية.
أمر آخر يندرج ضمن البرنامج الحكومي الذي يطبق بنموسى شقه المتعلق بالتعليم، وهو إصدار “القانون الأساسي لمهن التربية والتكوين”، الذي ورد بشأنه في حقيبة مشاريع القانون- الإطار: “تعزيز الحكامة الجيدة في تدبير الموارد البشرية، من خلال نظام أساسي جديد، يقوم على مبادئ العدل والإنصاف وتكافؤ الفرص والارتقاء بتدبير المسارات المهنية…”، وهو ما التزمت النقابة الوطنية للتعليم- كدش بالانخراط فيه حسب بلاغ 16 نونبر بعد “حوار” مع الوزير: “مواصلة الحوار حيث توقف (نتائج اللجنة الموضوعاتية للنظام الأساسي)”.
وعندما نقرأ “تدبير الموارد البشرية” و”الحكامة”، يجب أن نفهم منها تشديدَ الاستغلال عبر ما تُطلق عليه الدولة “آليات حديثة لتدبير الموارد البشرية”، وعلى رأسها اعتصار أكبر مردودية من الشغيلة مقابل أقل قدر من الحقوق. وضمنها طبعا ما ورد في حقيبة مشاريع القانون- الإطار بخصوص الترقية: “إنجاز تقييم منتظم للأداء المهني والمردودية وربطه بمنظومة الترقي”، وهو تطبيق لتوصية تقرير المجلس الأعلى للحسابات حول الوظيفة العمومية لسنة 2017 الذي انتقد المعايير القديمة الجماعية المتسمة بسرعة الترقي، وطالب بمعايير فردية قائمة على بطء الترقية والقهقرة.
يتكامل هذا مع ما ورد في “البرنامج الحكومي” حول تعديل مدونة الشغل بما يسمح بتشجيع المفاوضات داخل المقاولة وتشجيع اعتماد “حد أدنى جهوي للأجور”، وإن جرى تمرير هذا الهجوم في القطاع الخاص، فلن يطول زمن نقلها إلى القطاع العمومي كما حدث مع التشغيل بالعقدة.
هذه هي خطة الوزارة، وكل “توسم خير” من بنموسى كما ورد في تصريحات قيادات نقابية عديدة، يعني تورية هذه الخطة وتغذية الأوهام سريعة الزوال.
شكيب بنموسى للقيادات النقابية: “لقد أجبرتموني على ما أريد”
استجابت القيادات النقابية (كلها دون استثناء) لتنبيه أخنوش في جلسة عمومية بالبرلمان (13 أكتوبر 2021) بأن “هذا ليس وقت الإضراب بل وقت العمل، وعلينا بدءً أن نتحاور”. لم تُعلن أي قيادة نقابية إضرابا تضامنيا مع القسم الأكثر استغلالا في شغيلة التعليم: المفروض عليها التعاقد. فإضراب أكتوبر (5 أيام) ونوفمبر (ثلاثة أيام) ومسيرة مركزية بالرباط وقطبيتين بمراكش وفاس، لم تدعُ أي قيادة نقابية للمشاركة فيها، باستثناء مبادرات مكاتب إقليمية تشكل نقطة مضيئة في ظلام الالتزام بالسلم الاجتماعي من أعلى الأجهزة.
مغزى هذا الوحيد هو أن القيادات النقابية ترسل إشارات واضحة إلى الدولة بأن واجبها فيما يخص الحفاظ على السلم الاجتماعي قد أدته على أحسن ما يرام، وأفضل دليل على ذلك أنها بدل تعزيز التعبئات النضالية القائمة تكتفي بمشاهدتها. وأن الدولة ملزَمة بدورها أن تدفع المقابل؛ وعلى رأسه “المقاربة التشاركية” و”التعاون مع الشركاء الاجتماعيين” و”مأسسة الحوار الاجتماعي”، وهي مطالب لا يخلو منها أي تصريح أو بيان من القيادات النقابية.
بعد جلسة الاستماع الأولى (أكتوبر) عقد الوزير “حوارا” في 16 نوفمبر، سرعان ما أصدرت الوزارة بلاغا حول مجرياته. استجاب بنموسى (مبدئيا وعلى صعيد النوايا) لمطلب عزيز على قلوب القيادات، فأوردَ في بلاغ الاجتماع ما يلي: “ترتكز خارطة الطريق الجديدة هاته على منهجية جديدة للعمل المشترك. تقوم على دراسة الملفات المطلبية لموظفي القطاع، كما تقوم على آلية اشتغال مضبوطة، في إطار لقاءات منتظمة، توضح كل ما سيتم القيام به من خطوات على المدى القريب والمتوسط”. أي “مأسسة الحوار الاجتماعي”، كما تطالب به القيادات النقابية دائما.
لم يفت البلاغَ الإشارةَ إلى تثمين ممثلي النقابات التعليمية لـ”مقترح إرساء خارطة طريق مشتركة” واستعدادهم “للعمل مع الوزارة والانخراط في تنزيل هذه الخارطة التي ستمكن من بناء حوار قطاعي مثمر وإيجابي يقوم على مبادئ الإنصات والثقة والتفهم المشترك”. وهو ما أكده بدوره بلاغ النقابة الوطنية للتعليم- كدش بقول: “تم الاتفاق على مباشرة حوار قطاعي… ابتداء من الجولة المقبلة، والتي ستنعقد يوم الثلاثاء 23 نونبر 2021″، وهو نفس ما ورد في بلاغ الجامعة الوطنية للتعليم- التوجه الديمقراطي.
لكن الإشكال ليس في المنهجية وحدها بل في المضمون أيضا. فـ”خارطة الطريقة الجديدة هاته” التي استحسنتها تلك القيادات هي- حسب ذات البلاغ- “النموذج التنموي الجديد الذي دعا إلى تحقيق “نهضة تربوية مغربية” ترتكز على منظور الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015- 2030 والقانون الإطار المنبثق عنها”. ومعروف الدور الذي سطره “النموذج التنموي الجديد” للنقابات: “تعبئة النقابات والغرف المهنية في إطار مهمة الوساطة التي تقوم بها”. وما دام بلاغا النقابتين لم ينفِ ما ورد في بلاغ الوزارة من “تثمين واستعداد النقابات” فسنأخذ ذلك بأنه صحيح.
إن مطالب القيادات النقابية بخصوص “المقاربة التشاركية” و”الشراكة الاجتماعية” و”مأسسة الحوار الاجتماعي” هي نفس ما تريد الدولة تطبيقه ودبجته في “النموذج التنموي الجديد”، ومن حق شكيب بنموسى أن يغني بعد انتهاء الجلسة: “لقد أجبرتموني على ما أريد”.
ستقوم القيادات النقابية التعليمية وفق هذه “المقاربات” بدور مرافقة الهجوم (تطبيق “القانون- الإطار”) وإقناع الشغيلة به وكبح نضالها، مقابل فتات (26 ملف) قابل للاسترداد بإجراءات مضادة، وستكون شغيلة التعاقد المفروض أكثر الضحايا خسارةً، وهو ما أكده عبد الرزاق الإدريسي بقول: “أن وزير التربية الوطنية خلال حديثه لم يشر إلى حل لملف الذين فرض عليهم التعاقد، إلا أنه وعد بمناقشة هذا الملف خلال الاجتماعات المقبلة ومعرفة آراء النقابات حوله، وفق تعبيره”. أي العمل بمقولة: وشاور النقابات ولا تأخذ برأيها، ما دامت الخطة جاهزة سلفا.
من أجل تنسيق من أسفل
في الاتجاه المعاكس لسلوك القيادات النقابية، انخرطت الفروع الإقليمية لنقابتي الجامعة الوطنية للتعليم- التوجه الديمقراطي والنقابة الوطنية للتعليم- كدش في معارك محلية وإقليمية، ونادت مناضليها ومناضلاتها للمشاركة في مسيرات المفروض عليهم- هن التعاقد، آتين بذلك بما لم تتجرأ القيادات المركزية فعلَه بسبب التزامها بالسلم الاجتماعي مع “الحكومة”. رغم أن بعضا من دوافع تلك الدعوات الإقليمية يدخل من باب رفع الحرج عن القيادة النقابية التي لا تريد قطع شعرة معاوية مع الشغيلة المناضلة والحريصة على الحفاظ على ما يربطها مع الوزارة (الحوار الاجتماعي). فاستكمال الواجب هو الضغط قاعديا على القيادات المركزية للانسحاب من “حوار اجتماعي” يجعل من النقابة شريكا في تنفيذ خارطة طريق تقوم على تطبيق “القانون- الإطار” و”النموذج التنموي الجديد”.
الرهان على مبادرة من أعلى الأجهزة النقابية لتوحيد النضال ضد “خارطة طريق تطبيق القانون- الإطار” بعيد الاحتمال، ما دامت قيادات تلك الأجهزة ملتزمة بـ”العمل مع الوزارة والانخراط في تنزيل هذه الخريطة”.
لذلك يظل الباب الأضمن هو تعبئات ومبادرة من أسفل مع المكاتب النقابية المحلية والإقليمية والجهوية لجميع فئات شغيلة التعليم (هيئة تدريس وإدارة وأعوان وشغيلة شركات التدبير المفوض من حراسة ونظافة وإيواء وإطعام مدرسي)، ومد سبل التعاون النضالي لدرء تعميم مخطط التوظيف الجهوي والتعاقد على قطاعات أخرى مثل الصحة، الذي ستُحذف شغيلته من النظام الأساسي للوظيفة العمومية. وقد دخلت نقابات الصحة في برنامج احتجاجي يفتح باب تلاقي نضالي في معركة موحدة، تكون مدخلا لتعديل ميزان القوى لصالح الشغيلة.
هناك إمكانات هائلة لالتقاء نضالي ميداني على ملفات مطلبية موحَّدة بين جميع فئات الشغيلة هذه وعلى رأسها إلغاء كل مخططات هشاشة الشغل ومرونته (التوظيف الجهوي، التدبير المفوض) ورفع الأجور وتقليص الاكتظاظ وساعات العمل وتوفير البنية التحتية والتجهيزات والترقية واسترداد مبالغ الاقتطاع من أجور الإضراب وضمان تقاعد مريح… إلخ.
وسيكون لتنسيقية شغيلة التعاقد المفروض دور كبير في فتح هذا الباب وولوجه.
وائل المراكشي
اقرأ أيضا