“الوحيد الذي لم يهنئ حكومة الرأسماليين ولم يتمن لها التوفيق: مجموعة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بمجلس المستشارين”… ولكن!
1- كانت مجموعة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بمجلس المستشارين الفريق الوحيد الذي لم يهنئ حكومة أخنوش بـ”الثقة المولوية”، والوحيد الذي لم “يتمن لها التوفيق”.
وكان الفريق الوحيد الذي ندد بـ”استغلال فترة الانتخابات وإعداد البرنامج الحكومي لإقرار الزيادة في العديد من المواد الغذائية الأساسية”.
إنه موقف لا يستحق إلا التنويه. موقف هو الجدير بأن تتبناه باقي التنظيمات النقابية التي لها فريق برلماني، أو التي لم يسعفها حجمها لأن تصل إلى مؤسسة الاستبداد تلك. وقد أكد هذا الموقف ما ورد في مقال صدر بموقع جريدة المناضل- ة تحت عنوان: “الحكومة حكومة أرباب عمل برئاسة رجل أعمال: لا معارضة حقيقية لها غير الحركة النقابية”.
….
- لكن!
لكن هذا الموقف المنوَّه به يجب ألا يخفي نقاطا جانَب فيها الفريق الممثل لجزء من الطبقة العاملة داخل مجلس المستشارين الصوابَ.
أ. كانت مداخلة الفريق الكونفدرالي ترجمةً بلغةِ نقابية للخطاب السياسي للأحزاب المهيمنة سياسيا على النقابة العمالية (كدش) وهي أحزابُ معارَضة برجوازية: “فيدرالية اليسار الديمقراطي” و”الحزب الاشتراكي الموحد”. تجلت هذه الترجمة النقابية للغة سياسية برجوازية في ما يلي:
– “الوقوف على ظاهرة استعمال المال التي أًصبحت عنصرا بنيويا في الانتخابات”: وكأن الانتخابات التي يغيب فيها استعمال المال هي أقصى ما تطمح إليه الطبقة العاملة. فجميع الانتخابات في المجتمع البرجوازي، حتى أكثرها نزاهة، لا تمكِّن الطبقة العاملة إلا من صلاحية اختيار من سيقمعها وسيضطهدها مرة كل 5 أو 6 سنوات. وأقصى الانتخابات حرية ونزاهة لن تمكن الطبقة العاملة من استعمال تلك المؤسسات لمصالحها التاريخية. فتلك المؤسسات بطبيعتها هي مؤسسات أرباب العمل.
سبقَ للمستشار الكونفدرالي السابق عبد الحق حيسان أن عبَّر عن ذلك أحسن تعبير، بناءً على تجربته الخاصة في مجلس المستشارين: “سيكون ممثلو أرباب العمل أكثر، هؤلاء الذين منحهم دستور 2011 فريقا من ثمانية أعضاء. كما نجح أرباب العمل في الانتخابات الجماعية وأكيد ستزداد نسبتهم في مجلس المستشارين. وأكيد سيدافعون عن مصالحهم في هذه المؤسسة التشريعية. وبتجربتي الخاصة داخل المجلس كنت ألاحظ كيف أن من يتكلم باسم الطبقة العاملة في هذه المؤسسة يبدو وكأنه قادم من كوكب آخر”، وهو فعلا قادم من كوكب آخر.
لا يعني اعتبار تلك المؤسسات خاصةً بالاستبداد وأرباب العمل العدولَ عن استعمال الانتخابات من طرف منظمة عمالية، بل بالعكس علينا استغلال كل الفرص التي تتيحها لنا الحملات الانتخابية للتواصل مع أقسام لا نستطيع الوصول إليها إلا في تلك المناسبات. وقد عبر عن ذلك إنجلز أحسن تعبير: “ففي الدعاية الانتخابية يتاح لنا وسيلة فريدة في الارتباط بالجماهير في المناطق التي لازالوا فيها بعيدين عنا وأيضًا في اضطرار الأحزاب الأخرى أن تدافع عن مواقفها في مواجهة هجومنا أمام الجماهير”.
– “إن الهدف الرئيسي المفترض لأي حكومة وأغلبية وصناع القرار ومدبري الشأن العام هو مواجهة مظاهر الفساد والبطالة ومواجهة الفقر والهشاشة… إلخ”: ليس هذا التعبير إلا ترجمة للأيديولوجية الليبرالية (البرجوازية) التي تعتبر الدولة محايدةً طبقيا وفوق المجتمع… في حين أن النظرية الطبقية العمالية تعتبر دوما الدولة أداة وجهازا في يد الطبقات المالكة لاستغلال وقمع الطبقات غير المالكة؛ أي دولة الرأسماليين لاستغلال وقمع طبقة الشغيلة… وبالتالي لا يمكن لدولة الرأسماليين بالمغرب أن “تدبر الشأن العام” إلا باعتباره شأنا خاصا بالرأسماليين، وهو ما يُنتِج بالضرورة “البطالة والفقر والهشاشة… إلخ”.
– “القيام بإصلاحات جريئة من أجل إرجاع الثقة بين الدولة والمجتمع”: لا تسعى منظمة طبقية عمالية إلى “إرجاع الثقة بين الدولة والمجتمع”. لأن الدولة كما قلنا دولة الرأسماليين وليست دولة المجتمع/ الأمة. مهمة نقابة طبقية عمالية هي حفز الوعي العمالي ليفقد الثقة كليا في تلك الدولة، لتعميق الهوة بين الطبقة العاملة ودولة الرأسماليين، لقطع ما يربط الوعي العمالي بأيديولوجية تلك الدولة قطعا نهائيا، من أجل فتح الطريق لبناء نموذج دولة من طينة طبقية مغايرة جذريا: دولة الطبقة العاملة. وعلى كل حال فإن “إرجاع الثقة بين الدولة والمجتمع”، هو أحد ركائز النموذج التنموي الجديد، والدولة تقوم به بطريقتها الخاصة (وليست محتاجة لتنصحها بذلك منظمة عمالية)، فهي تسعى لكسب ثقة جزء مهم من المجتمع (23 مليون نسمة) عبر ما سمته تعميم الحماية الاجتماعية.
– “إن الجواب على طبيعة المرحلة المشحونة بالعديد من التحديات والخاطر والتهديدات يقتضي أولا بناء الدولة الاجتماعية التي سبق لمنظمتنا أن تقدمت بها إبان مناقشة مشروع النموذج التنموي الجديد”: لا يمكن لدولة طبقية أن تكون “دولة اجتماعية”، ولا يمكن للتحديات والمخاطر والتهديدات أن تدفع الرأسماليين لكي يحولوا دولتهم الطبقية إلى دولة اجتماعية. فقط تهديد الثورة الاجتماعية (العمالية والشعبية)، هو ما يدفع الرأسماليين للتنازل وتبني “سياسات اجتماعية” درءا لثورة من أسفل ستقوِّض مجمل البناء الطبقي الذي تقوم عليه مِلكيتُهم ومصالحهم ودولتهم. وهذا ما حدث تماما بعد الحرب العالمية الثانية، تحت وقع توسُّع الاتحاد السوفياتي إثر انتصاره على النازية وانتصار الثورة الصينية وصعود ثورات التحرر الوطني واندلاع الحرب الباردة. فالصراع الطبقي إذن هو ما فرض على البرجوازية العالمية أن تُضفي “طابعا اجتماعيا” على دولتها وليس “التعاقد والتوافق على بناء دولة اجتماعية”. أما الطبقة العاملة فيجب عليها ألا تسعى لتحويل الدولة البرجوازية إلى دولة اجتماعية، بل تدمير الدولة البرجوازية وتُحل محلها دولتها الخاصة، ويحتاج إلى أكثر من نقابة طبقية؛ أي إلى حزب سياسي عمالي اشتراكي ثوري.
– “التوافق على إرساء مقتضيات عقد اجتماعي جديد يضمن للجميع قواعد الإنصاف والمساواة وأن ميلاده مرهون بميلاد مؤسسات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية في إطار ديمقراطية حقيقية”: “التوافق” خرافة ليبرالية برجوازية. الخرافة التي تعتقد بأن تطور المجتمع يتم بناءً على التوافق والتعاون بين الطبقات المستغِلَّة والمستغَلة، وليس بناء على الصراع بين هذه الطبقات. ومن شأن هذا أن يزيد تشويه الوعي العمالي المشوه أصلا بفعل سيطرة مديدة لأحزاب برجوازية على نقاباتها.
– “خلق انفراج سياسي من خلال إطلاق جميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي”: لا تطالب النقابية العمالة بإطلاق سراح المعتقلين من أجل خلق “انفراج سياسي”، بل من أجل استعادة أولئك المعتقلين حريتهم كي ينخرطوا من جديد في النضال الاجتماعي والسياسي. أي من أجل تأزيم الدولة والطبقة التي تدافع عنها تلك الدولة (أرباب العمل). ويصدق على هذه النقطة نفس ما يصدق على “إرجاع الثقة بين الدولة والمجتمع”. يعني الانفراج السياسي الرجوع إلى نقطة الصفر بالنسبة للمعتقلين بينما تستمر الدولة في سياستها وهجماتها، ولنا في تاريخ “هيئة الإنصاف والمصالحة” خير دليل. فـ”طي صفحة الماضي التي خلقت انفراجا سياسيا” كان على حساب المعتقلين الذي جرى الافراج عنهم والمنفيين الذين سُمِح لهم بالعودة، في حين انطلقت الدولة في أكبر هجوم عرفه تاريخ المغرب على مكاسب الشغيلة: مدونة الشغل، تسليع التعليم والصحة، البدء في “إصلاح”/ تخريب أنظمة التقاعد والوظيفة العمومية، قانون الإرهاب وتأسيس الأحزاب… إلخ.
– “نحن في الكونفدرالية الديمقراطية للشغل كنا دوما مع دعم المقاولة المواطنة والمسؤولة اجتماعيا… والتي تحترم القوانين الاجتماعية”: ليس هناك شيء اسمه “مقاولة مواطنة”، فهي من اختراع دماغ من يؤمن بها. المقاولة محكومة بقوانين اقتصادية موضوعية: قانون القيمة، وقانون المنافسة، اللذان يجبران تحت وقع سياطهما “أطيبَ البرجوازيين على استغلال العمال” حسب التعبير الرائع جدا لفردريك انجلز. لا تحترم المقاولة “القوانين الاجتماعية” لأنها “مواطنة” بل تحت ضغط النضال العمالي (أي الصراع الطبقي) وهو ما يتنافى مع “دعم المقاولة” ومع ثقافة “التوافق والتعاقد الاجتماعي”.
ما أن انتهت الأربع دقائق الممنوحة للمستشار الكونفدرالي حتى طلب منه رئيس الجلسة مغادرة المنصة، حاول المستشار الكونفدرالي الإلحاح على إضافة 30 ثانية كما فعل غيره، وكان جواب رئيس الجلسة صارما: الرفض. لَمَّ المتحدث باسم المجموعة الكونفدرالية أوراقه وغادر المنصة، فـ”التعاقد الاجتماعي” الجاري حاليا لم يسمح له بأكثر من 4 دقائق من الكلام. فمستوى قوة الرأسمال وحِدَّةُ الهجوم الذي سيمرره لا يمكن أن يتسامحا أكثر مع من يدعي تمثيل صوت الطبقة العاملة داخل تلك المؤسسة. ففي الصراع الطبقي لا يهم ما تستطيع إثباته بل ما تستطيع فَرْضَه.
لو حرَّكت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل الجهاز النقابي بنفس الطريقة الذي حركته إبان الانتخابات المهنية، لو عبأت ذلك الجهاز من أجل استنهاض أقسام الطبقة العاملة التي تنظمها الكونفدرالية وإرسال نداء رفاقي أخوي صادق إلى بقية النقابات، لو انخرطت فعلا (وليس قولا) في دعم المعارك الجارية (وعلى رأسها نضالات شغيلة التعليم المفروض عليها التعاقد) ومعارك شغيلة القطاع الخاص المتناثرة هنا وهناك ضد التسريح، ونضالات شرائح المفقَّرين بالقرى والهوامش المطالبة بالخدمات العمومية والبنية التحتية… أي بلغة صريحة: لو كانت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل منظمة طبقية عمالية فعلا، لشحذت القوة العمالية والشعبية وحاصرت مؤسسة الاستبداد في الوقت الذي كان فيه رئيس حكومة الرأسماليين يلقي تصريحه الحكومي… آنذاك ما كان رئيس الجلسة ليستطيع أن ينبس ببنت شفة ليطالب بكل وقاحة من ممثل العمال أن يغادر المنصة قبل أن يتم مداخلته، بل كان سيكون بالإمكان أن يطالب رئيسُ المجموعة الكونفدرالية من رئيس الجلسة أن يغادر مكانه، ليحتله من سينتخبه الشعب المتظاهر خارج أروقة البرلمان الباردة التي كانت ستشتعل بنيران حماس الجماهير التي ستقتحمه من الخارج.
سيحدث هذا حين يقتحم “الكوكب الآخر”- حسب تشبيه عبد الحق حيسان للطبقة العاملة- مؤسسات الاستبداد ويفرض بقوة النضال العمالي والشعبي انتزاع المطالب الشعبية وليس محض استجابة لها؛ فكل ممنوحٍ يمكن استعادته بسهولة.
بقلم: شيماء النجار
اقرأ أيضا