انقلاب قيس سعيد: سعي لاستعادة “البنعلية” التي أسقطت ثورة 2011 رأسَها المكشوف
هناك قانون أساسي من قوانين الثورة مفاده: قبل اندلاعها يحاربها الرجعيون والمحافظون ويخشاها الليبراليون ويسعون لتفاديها عبر التلويح بالطريق الإصلاحي وتحذير الجماهير (والحكام أيضا) من كلفتها. ولكن ما أن تنتصر حتى يتحول كل هؤلاء إلى ثوريين لكن بلب رجعي. وتكون مهمتهم المشتركة آنذاك: البحث عن أقصر السبل لإعادة الجماهير المنتفضة إلى حظيرة الطاعة، وترك الفرصة للنخب والمِلاك السياسي والقمعي لنفس الطبقة السائدة لإعادة ترتيب الأمور وعودتها إلى طبيعتها. لا يمكن فهم انقلاب قيس سعيد إلا في إطار المحاولات من أعلى جهاز الدولة البرجوازية لإنهاء التدفقات الجماهيرية الدورية التي أطلقتها ثورة ديسمبر 2010 من قمقمها. ليست تونس حالة فريدة عما حصل في مجمل المنطقة المغاربية والعربية.
هذا هو المسار الذي سارت فيه الثورة التونسية منذ إسقاط بن علي في يناير 2011، منذ الحكومات المؤقتة الأولى التي نَحَّتْها اعتصامات القصبة، مرورا بفَسْح المجال أمام السلفية الرجعية الدينية لإرهاب الجماهير بعمليات اغتيال (شكري بلعيد، مصطفى البراهمي) واستهداف النساء ومهاجمة مقر نقابة الاتحاد العام، والإبقاء على جهاز الدولة البوليسي مع الاقتصار على حل واجهته الحزبية (التجمع الدستوري الديمقراطي)، ومسلسل التوافق الوطني الذي نتجت عنه جمعية تأسيسية ودستور وحكومة ائتلافية ضمت قطبا الثورة المضادة (حزب النهضة، وحزب نداء تونس) سنة 2014… انتهاءً بانقلاب قيس في يوليو 2021… تلك هي المسيرة الظافرة للثورة المضادة لحدود اليوم.
مَثَّلَ التوافقُ بين حزبي النهضة ونداء تونس الوجهَ المحلي للثورة المضادة التي عمت المنطقة منذ 2013، مع الهجوم المضاد لبشار الأسد في سوريا وانقلاب السيسي في مصر. وبدل التصادم بين هذين القطبين اختارا التوافق المدعوم إمبرياليا ومحليا من طرف برجوازية تسعى لاستعادة الاستقرار سريعا ومن طرف بيروقراطية الاتحاد العام التونسي للشغل الباحثة عن استعادة السلم الاجتماعي والتحكم في القاعدة العمالية المنفلتة منذ اندلاع الثورة.
أنتج هذا التوافق بناءً سياسيا هشا، منطوِ على صراع دائم بين مكوناته: رئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة، ورئاسة البرلمان، فضلا عن الصراعات الحزبية. وظل محور هذا الصراع هو: هل يجب جعل النظام رئاسيا تنفيذيا، أم تكريس بُعده البرلماني؟
ليس هذا الصراع في مجمله إلا انعكاسا غير مباشر لاستمرار الثورة في الفترة بين 2011 و2014، وللتخوف من انبعاثها منذ 2014 حتى الآن. فقانون المجتمع هو الصراع، وميزان القوى هو من يحسم النتيجة. ولا يؤدي التوافق إلا إلى نقل الصراع إلى داخل الحكومة الائتلافية والائتلافات الحزبية. لذلك لا يمكن تفسير التوترات السياسية التي شهدتها وتشهدها تونس منذ 2011 إلا على خلفية تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المستمرة، والمحفزة بمفاعيل الأزمة الصحية (كوفيد- 19)، وعدم الاستجابة للمطالب الشعبية، التي تجعل مجمرة الاحتجاج دائمة التوقد، وتَصلي بنيرانها الوضع السياسي فتُوتره بشكل دوري.
الأزمة الصحة والاقتصادية في خلفية التطورات الأخيرة
تأثر الاقتصاد التونسي- على غرار الاقتصاد العالمي- بجائحة كوفيد 19. تراجع الناتج الإجمالي الخام بنسبة 21.4% في الثلاثي الثاني من سنة 2020، وتضاعفت النضالات الاجتماعية حول الماء والتشغيل ودفع الأجور، وفقدت السلطات الصحية السيطرة على تطور جائحة كورونا التي باتت متفشية في كامل أنحاء البلاد[1] ما أدى إلى شبه انهيار للمنظومة الصحية، وأعلنت وزارة الصحة أن “المركب يغرق”.
يواجه البلد مديونية حادّة بعد عشر سنوات من التدهور المالي. فقد تطوّر حجم الدين من %45 من الناتج القومي العام سنة 2010 إلى حوالي %100 الآن. هذا وتفاوض البلاد بشأن قرض رابع من صندوق النقد الدولي. صنفت وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني تونس في المرحلة الأخيرة قبل التخلف عن سداد الدين في 8 يوليو الجاري[2]، ما يُصعب إمكانيات التمول من السوق الدولية ويفتح الباب لتعفن الأزمة أكثر، أو وضع البلد تحت اشتراطات أقسى من المانحين الدوليين في حالة تقديم ديون جديدة.
انطلقت احتجاجات شعبية قوية، بلغت ذروتها يوم 25 يوليوز 2021 (عيد الجمهورية)، مطالبة بإسقاط الحكومة التي يرأسها هشام المشيشين ورافعة شعارات ضد حركة “النهضة” ورئيسها راشد الغنوشي، تطورت في بعض المناطق إلى أحداث عنف وحرق ضد مقرات ورموز حزب النهضة.
إنها أعمق أزمة اقتصادية تشهدها تونس منذ الثورة، وقد تكون عواقبها المركبة (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية) سببا في تجدد الاحتجاجات الشعبية، وإن كان هذا التجدد يحدث في سياق غير ملائم: إفلاس شبه تام للجبهة الشعبية، كبح بيروقراطية الاتحاد العام للشغل لنضالية الطبقة العاملة التي أصابتها الأزمة في مقتل، غياب بنيات تنظيم دائمة للاحتجاج الشعبي منذ تفكيك معتصمات القصبة سنة 2011.
أزمة سياسية من فوق محفزة بالأزمة ومسَعَّرة بانبعاث دوري للاحتجاجات
الأزمة السياسية مستمرة منذ توافق 2014. والصراع بين مكونات الدولة التي أرساها دستور 2014 لا زالت قائمة. غذّت الصدمة الصحية والمالية الصراع المفتوح بين رئيس الجمهورية قيس سعيّد من جهة والأغلبية البرلمانية وأساسا حركة النهضة -اللّذان يرأسهما راشد الغنوشي- ومعه رئيس الحكومة من جهة أخرى، حيث حاول قيس سعيد جاهدا منذ يناير الماضي بسط يده على رئاسة السلطة التنفيذية.
ليست هذه الأزمة إلا تعبيرا مؤسسيا عن مأزق “التوافق” الذي لم يأتي بحلول، ولا يمكن له أن يأتي بها، ما دامت الثورة غير المكتملة لم تستطع ذلك بسبب عجزها المؤقت عن هزم نظام السيطرة الطبقية. كان انتخاب سعيد قيس في انتخابات 2019 ترجمةً لهذا المأزق بلغة السياسة وأرقام الانتخابات: إحباط الجماهير وتبخر آمالها المديدة من تحسن الوضع بعد الثورة، وفقدان للثقة في كل التعبيرات السياسية القائمة. وكانت الأرقام دالة عن حالة الإحباط السياسي هذه: لم يحُز قيس على “شرعية شعبية خارقة، وقد انتخُب رئيسا بأصوات أقل من %40 من مجموع الناخبين في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية قبل عامين (%72.7 من أصل %55 أدلوا بأصواتهم) بعد أن صوّت له أقل من %9 من الناخبين في الدورة الأولى (%18.4 من أصل %49 أدلوا بأصواتهم)”[3].
التفتت الجماهير نحو ظاهرة تشكل جزءا من تاريخ تونس السياسي: البحث عن البطل/ أب الأمة. وهي ظاهرة زرعها بورقيبة وعززها القايد الباجي السبسي وركب أمواجَها بطريقة كاريكاتورية سعيد قيس.
نسخة رديئة عن مسخرة المأساة
استعار جلبير الأشقر في كتابه “انتكاسة الانتفاضة العربية، أعراض مرضية” العبارة التي استعارها ماركس بدوره من هيجل وهو يصف انقلاب لويس بونبارت في فرنسا سنة 1851: “يقول هيجل في مكان ما إن جميع الأحداث والشخصيات العظيمة في تاريخ العالم تظهر، إن جاز القول، مرتين. وقد نسي أن يضيف: المرة الأولى كمأساة والمرة الثانية كمهزلة”[4]. استعاد الأشقر هذه العبارة للرد على من يماثلون بين انقلاب عبد الفتاح السيسي عام 2013 وسابقه انقلاب جمال عبد الناصر عام 1952، قائلا: “بيد أن ما أغفله ماركس هو أن “المهزلة” قد تكون مأساوية” تماما”.
إذا كان عبد الفتاح السيسي مهزلة مأساوية عن انقلاب جمال عبد الناصر، فإن قيس سعيد نسخةٌ كربونية رديئة عن شخصية السيسي وانقلابه. لم يأت سعيد قيس من خلفية عسكرية، بل من الدستوريين التقليديين وفقهاء القانون من المدرسة القديمة الذين لم تكن لهم كلمة في صياغة دستور 2014[5]، باستثناء دعوة لجنة الخبراء (كان قيس عضوا فيها) لتقديم تعليقات على مشروع الدستور. شغل قيس منصب الأمين العام للجمعية التونسية للقانون الدستوري بين عامي 1990 و1995، ومنصب نائب رئيس تلك الجمعية منذ عام 1995، في ظل دكتاتورية زين العابدين بن علي التي يعلم الجميع مدى اعتمادها على الحذافير الدستورية[6].
ليس تأويل المادة 80 من الدستور التونسي هو أساس انقلاب قيس، بل إحدى وسائله. استند قيس على تأييد “القوات المسلّحة التونسية لقراراته، والحال أن صورة الاجتماع الذي ضمّه وقادة الأجهزة المسلّحة التونسية عند إعلانه لقرارته كفيلة بأن تؤكد لمن ساوره شكّ في الأمر أن ما جرى في تونس يوم الأحد الماضي هو انقضاض على الديمقراطية من نوع ما ألفنا في منطقتنا كلمّا تأزّمت الأوضاع في بلد ما”[7]. وكانت مواقف القوى الإمبريالية شبيهة بتلك التي صدرت عنها إبان انقلاب السيسي عام 2013: تتراوح بين إبداء القلق والدعوة إلى عودة العمل بالمؤسسات في أقرب وقت (الولايات المتحدة وفرنسا). موقف حذر، ولكن ما لم يٌندد بما قام به قيس، ويدعو فقط إلى عودة المؤسسات إلى عملها الطبيعي في أقرب وقت، فهو لا يخرج عما قام به قيس ذاته: تعليق البرلمان لمدة 30 يوما. ألم تكن الدول الإمبريالية ومؤسساتها تقدم نظام بنعلي مثالا عن نجاح توصياتها النيوليبرالية ورائد التطور الاقتصادي بإفريقيا وعلامة نجاح في مؤشرات التنمية على صعيد منطقته؟
كان الانقلاب، إذن، وسيلة لغاية يشترك فيها قيس مع كل التعبيرات السياسية البرجوازية (رجعية وتقدمية وليبرالية): درء الثورة واستعادة الاستقرار السياسي. إن ما قام به قيس هو استباق لما يختمر في قاع المجتمع ردا على تعفن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، خصوصا مع احتجاجات يوليوز الأخيرة. بدل انتظار أن تكنس الاحتجاجاتُ حكومةَ النهضة، ما يفتح الباب لتجذر شعبي جديد على غرار ما وقع سنة 2011، من الأفضل بالنسبة للدولة (الجيش والنواة الصلبة للدولة الموروثة عن بن علي) وبيروقراطية الاتحاد العام الحريصة على السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي، والقوى الإمبريالية، من الأفضل لكل هؤلاء، كنس تلك الحكومة من أعلى، وفرض حالة الطوارئ بمبرر الحالة الاستثنائية التي نتجت عن تفشي الوباء مؤخرا وعجز الحكومة عن معالجة الوضع.
لذلك فإن أي دعم لإجراءات قيس بمبرر أنها موجهة لمواصلة مهام الثورة (وكأن الثورة المضادة حُذِفت من الحساب!) أو محاربة المفسدين ولصوص المال العام (وكأن الرئيس قادر على مهمة لم تستطع بعدُ الثورةُ إنجازها!)، أي دعم لهذه الإجراءات، سيكون مثيلا لتلك الأوهام التي اخترقت الصف اليساري والليبرالي والنقابي في مصر، لما دعم انقلاب السيسي. وكانت الكلفة كارثية. قد لا يكون قيسُ هو سيسي تونس، لكنه قد يفتح الباب لمن سيتولى تلك المهمة، إن عجز انقلابه عن توليها.
من شأن انتظار استكمال مهام الثورة (!) من طرف قيس سعيد أن يحرف الاستعداد النضالي لدى جماهير شعب تونس، تماما كما كان التعويل عام 2011 على دستورٍ يصوغه مجلس تأسيسي في النهوض بمهمة التحويل السياسي والاجتماعي قد جعل الطاقات السياسية تتجه باتجاه التحضير للانتخابات، وأسفر بالتالي عن تجميد الحراك الثوري[8].
أعلن قيس عن رأيه من الثورة عند اجتماعه برؤساء حكومات سابقين يوم 15 يونيو حين قال: “إن مهمتي تتمثل أساسا في مواصلة الانفجار الثوري مع التقيّد الصارم بالمؤسسات”[9]، وهو نفس موقف الرئيس السابق للجمهوري القايد باجي السبسي: “كتبت هالي الباجي عنه، فيما يبدو رؤية مقنعة عن شخصيته أنه كان ممن يعتبر “أن الثورة لا تمثل قطيعة مع الدولة الوطنية بحد ذاتها”[10]. إن ترجمة هذين التصريحين إلى لغة السياسة هي القضاء على الثورة لإعادة بناء الدولة البرجوازية.
وليس هذا هو موضوع الاتفاق الوحيد بين قيس وباجي السبسبي؛ فالحرص على صرامة مؤسسات الدولة جعلهما ينفران من الأحزاب. إثر اعتصام القصبة الثاني، كان رأي باجي السبسي هو إجراء انتخابات رئاسية سريعة، بحيث يكون للأحزاب نفوذ أقل في صياغة الدستور، وتخضع عندها لسيطرة السلطة بشكل أكبر. وطيلة حملة ترشحه ركز قيس على تكرار عبارة أنه “بدون انتماء حزبي” وأنه لا يقيس مواقفه من القضايا بمقاييس السياسيين، نابذا شيئا اسمه البرامج السياسية: “الشعوب أصبحت تتحرك خارج الأطر التقليدية ولم تعد في حاجة إلى برامج بل إلى أدوات تمكنها من التعبير عن إرادتها”[11]. يشكل نزع الطابع السياسي عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية أحد مظاهر الثورة المضادة، وعَبْرَهُ تُربَط الجماهير المذرَّرة إلى زعيم الأمة الكاريزمي المتعالي عن الانتماءات، مباشرة ودون هيئات وسيطة، خاصة الأحزاب. هذا ما فعله لويس بونبارت وهتلر والخميني.
قيس ينهي مساراً بدأه غيرُه
السعي لإرساء سلطة شخصية وكاريزمية تنهي التسوية السياسية لدستور 2014 وتعيد مركزة القرار السياسي والإداري الذي أسقطته ثورة 2011، كان قائما قبل انقلاب قيس بوقت طويل. ويجد جذوره ليس في نصوص الدستور ولكن في تشنجات المجتمع والسياسة الناتجة عن الثورة المضادة المنقسمة على نفسها (بين قطب ليبرالي/ حداثي وقطب رجعي ديني) وعن خضات السيرورة الثورية طويلة الأمد التي تتجلى بشكل دوري في انفلاتات عفوية أو نضالات عمالية وفلاحية.
فاز الباجي قيد السبسي في انتخابات ديسمبر 2014، لكن في إطار نظام برلماني لم يكن يتمناه، ومنذ الأشهر الأولى من عام 2015، بدأت الأصوات تتعالى مطالبة بإحياء الطابع الرئاسي للنظام. و”كان الباجي قائد السبسي هو الناطق بلسانها. لم تكن الثقافة التقليدية لهذه الأسرة الطامعة بالعودة الى الحكم تتضمن أي دور لرئيس وزراء يستند الى الأغلبية ولا أي ضوابط للسلطة ولا أي تحقيق للامركزية ولا أي هيئات مستقلة. وإن كانت المحكمة الدستورية لم ترَ النور حتى الآن، فلأن ممثلي هذه العائلة السياسية في المجلس النيابي لم يوافقوا على تكبيل أيديهم بهيئات لا تخضع لسيطرتهم”[12].
أذكت صراعات الأحزاب وتوجساتها الموروثة عن ما قبل الثورة أزمة البناء المؤسسي لدستور عام 2014، وهي ذاتها ناتجة عن هذا البناء. ذاب حزب نداء تونس بعد أن وضع نجل الباجي السبسي يده عليه، وتفككت الجبهة الشعبية بعد أن غرقت في رتابة العمل البرلماني وصراع أيديولوجي مع الإسلاميين وصل حد التحالف مع ورثة بن علي (نداء تونس)، وظل الجميع (لبيراليين ويساريين) متخوفين من حزب النهضة وساعين إلى تحجيمها. ويرد حزب النهضة بدروه بتحالفات انتخابية غير مبدئية (خاصة مع حزب “قلب تونس”) لمحاصرة سعي رئاسة الجمهورية الاستئثار بالسلطة التنفيذية، وقبل هذا كانت النهضة قد دعمت ترشيح قيس إلى الرئاسة. لم يتح هذا الصراع الحزبي قيام حكومة قوية تريدها البرجوازية والدول الإمبريالية الساعية إلى فرض الاستقرار، وجاء انقلاب قيس في يوليوز 2021 للقيام بذلك.
جذور المسألة
لا يمكن تفسير ما وقع في تونس دون استحضار مناخ الردة الذي يقوم في سنوات الثورة المضادة. كتب تروتسكي عن هذا المناخ: “دائما ما يكون الأمل الذي تستثيره ثورة مبالغا فيه. هذا ناتج عن آلية المجتمع الطبقي، أي عن وضع أغلبية الجماهير الشعبية المريع، وعن الحاجة الموضوعية لاستثارة أعظم الآمال وتعبئة أكبر الجهود من أجل تأمين حتى أبسط نتيجة، الخ… تنتج عن هذه الشروط ذاتها إحدى أهم عوامل الثورة المضادة- فضلا عن كونه إحدى أكثرها شيوعا. فالمكاسب المنتزعة في النضال لا تطابق، ولا يمكنها بقوة الأشياء أن تطابق، مباشرة تطلعات الجماهير المتخلفة العريضة المستيقظة لأول مرة في غضون الثورة. إن خيبة أمل هذه الجماهير، وعودتها إلى حياة الرتابة والتفاهة، يمثل جزءا لا يتجزأ من الحقبة ما بعد الثورية، شأنه شأن انتقال الطبقات “الراضية”، المشاركة في الثورة، أو فئات منها، إلى معسكر” القانون والنظام”[13].
وفي رجع صدى هذه الأطروحة كتب الصحفي تيري بريزيون عن وضع تونس بعد الثورة: “بعد عشرات سنوات، ينظر الرأي العام التونسي كما المتابعون للأوضاع بإحباط إلى ما آلت إليه هذه الثورة، ويحوم حول تونس شبح عودة النظام القديم، رغم أن البلاد نجت من القمع الشرس الذي طال الحركات الديمقراطية في بلدان عربية أخرى”[14].
لا تعبر صيغة “عودة النظام القديم” عن واقع تونس تماما. فالنظام القديم لم يسقط، ما سقط هو رأسه الموشح، في حين حافظ الموظفون والمسؤولون ووزراء من النظام القديم على مواقعهم في دوائر السلطة، وانخرط أعضاء التجمع الدستوري الديمقراطي -الحزب الحاكم زمن بن علي- الذي تم حلّه سنة 2011- في الأحزاب السياسية الجديدة. لم يجر تفكيك المؤسسة الأمنية الموروثة عن ديكتاتورية بن علي ولا عوقب المتورطون في قمع ما قبل الثورة وأثناءها وبعدها، بل عززت المؤسسة مكانتها مع التلويح المستمر بالخطر الإرهابي. ويستغل مسؤولو “النظام القديم” (والمتوجسون دائما من حزب النهضة) عدم كفاءة المؤسسات الجديدة للعودة باسم الدفاع عن الدولة. أليس هذا هو ذات مبرر انقلاب قيس ؟!
قد يكون قيس كاريكاتورا رديئا عن عبد الفتاح السيسي، لكن ليست سماته الشخصية هي المحدد لما سيتطور إليه انقلابه، بل القوى الطبقية والفئاتُ التي تعمل من وراء ظهر الجماهير. فقد كان لويس بونبارت تافها لكنه دفن جمهورية بنتها ثورة 1848. يشهر قيس سعيد خطابا شعبويا يخدع به المستعدين للانخداع، لكنه مدفوع بكل تلك الكتلة غير المتجانسة الشكل، ولكن المتفقة على هدف واحد: إعادة النظام والقضاء النهائي على الثورة. هذه الكتلة مكونة من كوادر الجيش والجهاز الأمني والكادر البيروقراطي الموروث عن عهد بنعلي، طبعا دون إغفال الرأسمال المحلي والأجنبي الذي يحبذ دوما دولة قوية وصارمة لتأمين سير الأعمال الرأسمالية واستغلال الجماهير.
تتخذ أغلب الآراء من الدستور مرجعية لها للحكم على انقلاب قيس. حتى حزب العمال يتحدث عن خرق الدستور، وكأن الدستور والقانون هو ما يسير المجتمع، وليس الوضع الاقتصادي- الاجتماعي وردود فعل الطبقات تجاه هذا الوضع.
طالب الاتحاد العام التونسي للشغل الرئيس قيس بمرافقة “التدابير الاستثنائية التي اتّخذها الرئيس بجملة من الضمانات الدستورية وفي مقدّمتها ضرورة ضبط أهداف التدابير الاستثنائية بعيدا عن التوسّع والاجتهاد والمركزة المفرطة وتحديد مدّة تطبيق الإجراءات الاستثنائية والإسراع بإنهائها حتّى لا تتحوّل إلى إجراء دائم والعودة في الآجال إلى السير العادي وإلى مؤسّسات الدولة”. هذا وهمٌ سيخدع الطبقة العاملة وعموم الجماهير، ويأخذها على حين غرة وهي غير مستعدة.
دور مخز لبيروقراطية الاتحاد العام التونسي للشغل
كان اندلاع الثورة في ديسمبر 2010 مغايرا لاتجاه بيروقراطية النقابة العمالية. وتحت ضغط القواعد واليسار النقابي، اضطرت إلى إعلان إضراب عام متنقل، هرب بنعلي بعد وصول هذا الإضراب إلى العاصمة.
ومنذ ذلك الوقت استعادت البيروقراطية زمام المبادرة من أسفل، وانخرطت- بل ورعت- التسوية السياسية بين قطبي الثورة المضادة التي اكتملت أركانها عام 2014، ونالت عنه بيروقراطية الاتحاد جائزة نوبل للسلام سنة 2015. جرى ذلك في الوقت الذي كان يتعين فيه على تنظيمٍ عمالي أن يحفز جماهير الثورة للضغط على تلك الجمعية من أجل صياغة دستور يستجيب للمطالب التي فجرتها، أو استبدالها بهيئة شعبية حقيقية وفعلية.
بيروقراطية الاتحاد العام منخرطة تماما- وعن وعي- في المسار السياسي المفضي إلى القضاء على الثورة من أسفل، وتعويضها بألاعيب دستورية من أعلى. وهي تعلن دعمها لانقلاب سعيد قيس الدستوري الذي اعتبره المكتب التنفيذي للاتحاد “تدابيرا استثنائية… توقّيا من الخطر الداهم وسعيا إلى إرجاع السير العادي لدواليب الدولة وفي ظلّ تفشّي الكوفيد”[15].
توجد الطبقة العاملة في قلب سيرورة الثورة والثورة المضادة ضد منجزاتها. فالثورة وإن لم تمس أسس نظام الرأسمالية التابعة، إلا أنها زعزعت أسس إعادة الإنتاج وتداول الرأسمال في مقدمتها انضباط الطبقة العاملة وحرية التبادل بسبب الإضرابات العمالية واحتلال الطرق. إن وقوف قيادة الاتحاد العام إلى جانب انقلاب قيس موافقة على تصفية مكاسب الطبقة العاملة السياسية منذ ثورة 2011.
إن هدف انقلاب قيس، هو ذاته هدف الثورة المضادة بكل أشكالها: فرض استقرار السيطرة الطبقية ومركزة سلطة القرار وإجبار الجماهير العمالية والشعبية على دفع فاتورة تخليص البرجوازية التبعية من أزمة خانقة متعددة الأبعاد: فك التعبئات المطالِبة بالشغل والمناهضة لتهميش مناطق الداخل وأحزمة المدن، إجبار الطبقة العاملة على القبول بتقهقر أوضاعها وخفض قدرتها الشرائية، ورفع الأسعار والضرائب المباشرة وتجميد التشغيل العمومي تنفيذا للتعهدات إزاء الدائنين. كل هذا غير ممكن مع حرية الإضراب والتنظيم والتعبير. وإنْ فَشِل قيس وانقلابه في إنجاز ذلك نظرا لافتقاده لقوة شعبية منظمة، فان الجناح الأكثر تنظيما في الدولة (الجيش) سيؤدى المهمة بطي صفحة الإطار القانوني والمؤسساتي الانتقالي الذي تولد عن ميزان قوى ما بعد ثورة 2011.
واجب الثوريين- ات
هناك اتجاه واع ومتعمد لفرض تقاطب سياسي ثنائي- شبيه بالذي شهدته مصر بعد انقلاب السيسي على مرسي والإخوان- تقاطب بين أنصار الشرعية والدستور من جهة وداعمي الانقلاب الذي قام به قيس.
سيكون من الخطأ الفادح أن يسقط اليساريون- ات في فخ هذا التقاطب، واعتبار ما قام به قيس “قرارات جريئة ومفرحة” فقط لأنها تستهدف عدوا سياسيا (النهضة)، لا قِبَل لهم- هن بهزيمته. قيس هو رئيس السلطة التنفيذية التي توافقت حولها أجنحة البرجوازية التونسية في إطار مسار سياسي موجه كله لتصفية الثورة التونسية القادمة من أعماق المجتمع. لذلك فما قام به حاليا، ليس إلا التتمة المنطقية لتلك التسوية السياسية من فوق بين أجنحة البرجوازية هذه وعلى حساب أحدها، ولا يمكن أبدا أن يكون استمرارا للثورة ولا انتصارا لها.
علينا الدفاع عن خط ثالث: خط ثوري ديمقراطي منسجم حتى النهاية. نحن لا ندافع عن شرعية دستورية، لأن دستور 2014، هو دستور التوافقات بين أقطاب البرجوازية. علينا الدفاع عن الحريات الديمقراطية والسياسية للطبقة العاملة وجماهير الشعب الكادح: حرية التعبير والرأي والاحتجاج في الشارع والإضراب في أماكن العمل، ورفض أي إجراء يمس بهذه الحقوق بمبرر حالة الاستثناء وقانون الطوارئ، فضلا عن محاسبة كل المتورطين في أعمال القمع وتفكيك أجهزتها. إلى جانبها التقدم ببرنامج مطالب اجتماعية- اقتصادية تأخذ بعين الاعتبار إعادة بناء الاقتصاد بما يخدم الحاجيات الملحة والحيوية لجماهير العمال وصغار الفلاحين- ات والبطالين- ات: مجانية الخدمات العمومية وجودتها (صحة، تعليم، إسكان)، وسياسة تشغيل عمومية واسعة، ودعم عمومي دائم لصغار المزارعين- ات والقطع النهائي مع نهج الفلاحة الاستخراجية بما يضمن السيادة الغذائية، ووقف نهائي لسداد المديونية (الخارجية والداخلية) والتدقيق في أوجه صرفها واستدانتها، واستعادة الأموال والثروات المنهوبة، وتشريك قطاع البنوك والطاقة والنقل.
بقلم- شيماء النجار
[1] – تيري بريزيون- صحفي مراسل في تونس (24 سبتمبر 2020)، “تونس واحتمالات الإغراء الشعبوي”، ترجمة سارة قريرة، https://orientxxi.info/magazine/article4157،.
[2] – تيري بريزيون (27 يوليوز 2021)، “أزمة سياسية، تونس، “لحظة قيصرية” دون قيصر”، ، ترجمة مسعود الرمضاني، https://orientxxi.info/magazine/article4938.
[3] – جلبير الأشقر (27 يوليو 2021)، “قيس سعيّد يستوحي من عبد الفتّاح السيسي”، موقع القدس العربي.
[4] – كارل ماركس، “الثامن عشر من برومير لويس بونبارت، 1852- 1869”.
[5] – تيري بريزيون (13 غشت 2019)، “تونس: الباجي قائد السبسي وإعادة كتابة التاريخ”، ترجمة ندى يافي، https://orientxxi.info/magazine/article4157.
[6] – جلبير االأشقر، مرجع مذكور.
[7] – المرجع نفسه
[8] – “تونس: الباجي قائد السبسي وإعادة كتابة التاريخ”، مرجع مذكور.
[9] – “أزمة سياسية، تونس، “لحظة قيصرية” دون قيصر”، مرجع مذكور.
[10] – “تونس: الباجي قائد السبسي وإعادة كتابة التاريخ”، مرجع مذكور.
[11] – 1 يونيو 2019، https://www.aljazeera.net/news/politics/2019/6/1/تونس-قيس-سعيد-انتخابات-رئيس-رئاسة-مرشح.
[12] – “تونس: الباجي قائد السبسي وإعادة كتابة التاريخ”، مرجع مذكور.
[13] – ليون تروتسكى (1926)، “أطروحات حول الثورة والثورة المضادة”، https://www.almounadila.info/archives/2838، 17 أكتوبر 2015.
[14] – تيري بريزيون (14 يناير 2021)، “تونس وشبح عودة النظام القديم”، ترجمة سارة قريرة، https://orientxxi.info/magazine/article4157، 14 يناير 2021.
[15] – “بيان المكتب التنفيذي الوطني حول التطوّرات الأخيرة في البلاد”، 26 يوليوز 2021، http://www.ugtt.org.tn/.
اقرأ أيضا