أزمة معبري سبتة ومليلية: مأساة إنسانية ودناءة سياسة النظام
بقلم: أحمد أنور
تدفق آلاف المهاجرين المغاربة (ضمنهم 1200 قاصر) وآخرون من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء نحو سبتة ومليلية. تلقى هؤلاء الهاربون من جحيم انعدام الأمل في العيش بكرامة ببلدهم معلومة أن الطريق سالكة، وأن الرقابة الشديدة للحدود ستختفي، فتوافدوا جماعيا في لحظة الصفر. بلغ أغلبهم سبتة سباحة ومنهم من استعمل وسائل بدائية بسيطة لمساعدته على قطع عشرات الأمتار البحرية الفاصلة بين الحدود. وعرف محيط مليلية بدوره تدفقا لموجة بشرية من المتطلعين لبلوغ أوروبا، لكن صدهم القمع وَحَدَّ من تكرار نفس ما وقع بسبتة.
مأساة اجتماعية عنوانها بطالة جماهيرية وإحباط الشباب من الأمل بوطنهم
تعكس صور عشرات القاصرين بمراكز الاحتجاز وهم يتوسلون مطالبين بعدم ترحيلهم لحظة إمساك حرس الحدود الإسباني بهم، درجةَ الألم العميق الذي أجبرهم على الفرار لإنقاذ أنفسهم ومساعدة أسرهم البئيسة. ليس خافيا أن سياسة التقشف النيوليبرالية المطبقة طيلة عقود وتلقى دعما وتشجيعا حماسيا من الاتحاد الأوربي خلفت دمارا اجتماعيا مرعبا مقابل تمكين كبار الرأسماليين والشركات الامبريالية وعلى رأسها الأوروبية، من نهب الثروة الوطنية ونقلها إلى الخارج عبر ترحيل الأرباح وآلية الديون الجهنمية.
القبضة الديكتاتورية لضبط البؤساء وحماية الباحة الخلفية لأوروبا
بات النظام المغربي شريكا استراتيجيا لأوروبا ويستفيد من دعمها السياسي ويتلقى إعانات مالية، وتتجاهل انتهاكاته للحريات الديمقراطية كما في الريف وجرادة وقمع الصحافة… الخ، مقابل اضطلاعه بحراسة حدودها من تدفق المهاجرين المتربصين بالقارة الأكثر تطورا من قارتهم المنهوبة. كما يعد حليفا في محاربة الجريمة الدولية خصوصا تجارة المخدرات وضبطها في حدود “معقولة” خصوصا ما ينتجه منها كمادة الحشيش. وأخيرا تعاونه في محاربة “الجماعات الإرهابية”.
يستعمل النظام المغربي نجاته من زلزال موجة السيرورة الثورية 2011 وتجنب اضطراب واسع بالمغرب كما ببلدان أخرى (ليبيا- سوريا- اليمن-) ليبرهن لأوروبا أنه أهل بزيادة الدعم، بل وممارسة الضغط عليها لزيادة دعمها السياسي والمالي نظير خدماته التي تحمي أوروبا المرعوبة من تكرار موجة تدفق كبير للمهاجرين كما حصل في 2013 على الحدود اليونانية.
بدورها تمارس الدول الأوربية ضغطا محسوبا على للنظام المغربي لجعله ينصاع في ملفات بعينها. نرى بعضها تُلوح بالاعتراف بالبوليساريو عبر بوابة برلمانها، وأخرى تُقْدم على خطوة تتعارض مع مصلحة النظام في قضية الصحراء الغربية أو تصدر تقارير هنا لنفس الغاية، لكن سرعان ما تعود إلى التعبير عن ثقتها بالنظام المغربي ومتانة علاقاتها معه واستعدادها لتوسيعها ما أن تفتك منه صفقات اقتصادية أو تمكينها من كعكعة نهب البلد.
إن البؤس الاجتماعي واتساع البطالة الجماهيرية والفقر المنتشر سببه نهب واستغلال شرس للبلد من طرف الرأسمال المحلي القريب من دوائر الحكم والرأسمال الإمبريالي سواء كشركات خاصة أو دول وعلى رأس القائمة الامبريالية الأوروبية. إن اغلاق حدود أوروبا واستعمال جيوش بلدان الجوار لحراسة تلك الحدود مقابل تقديم إعانات مالية ولوجستية والتغاضي عن الجرائم الاقتصادية والسياسية التي ترتكب الأنظمة في حق تلك الشعوب ثمرة تحالف طبقات مالكة في القارتين متكاملة المصالح وموزعة الأدوار في إطار تقسيم تراتبي للرأسمالية عالميا.
إن الإمبريالية تحصد ثمار ما زرعته في قارتنا خلال قرون من نهب ثرواتنا ودعم أنظمة ديكتاتورية فاسدة، وبالتالي فالدفاع عن حق التنقل وإدانة الجرائم المرتكبة في حق المهاجرين العزل واجب كل مناهض للإمبريالية وكل مدافع عن التحرر الديمقراطي الشامل لشعوب قارتنا الافريقية.
لماذا الآن؟
ظلت أوروبا الإمبريالية تكيل المديح للنظام المغربي الذي أبان عن علو كعبه في منع المهاجرين من النفاد للقارة الأوربية. حينما كانت إيطاليا واليونان تعرف تدفقا استثنائيا للمهاجرين كان الجنوب الغربي لأوروبا يعرف أضعف معدلات توافد المهاجرين بفضل إحكام المغرب قبضته على الحدود. فما الذي قلب الوضع رأسا على عقب؟
ليس سرا أن استقبال اسبانيا للأمين العام للبوليساريو أثار غضب النظام المغربي الذي سلك أسلوبا غير مألوف في ديبلوماسيته الخارجية مع بلدان أوربا. اعتاد قادة البوليساريو زيارة اسبانيا وحتى تنظيم أنشطة سياسية بل يحمل الكثيرون منهم الجنسيات الإسبانية بحكم أنها القوة الاستعمارية للصحراء الغربية فما مبررات الجلبة الأخيرة وما غاية النظام المغربي؟
يبرر النظام غضبه من “شريكه الموثوق” بأنه خذله بعدم اعلامه بالأمر مسبقا، وثانيا باستعمال التزوير والسرية وتنسيقه مع خصمه اللدود النظام الجزائري لوضع ترتيبات استقبال “إبراهيم غالي” المتهم بالاغتصاب والاختطاف والتعذيب من طرف عدة “ضحايا” يحملون الجنسية الإسبانية ورفعوا دعاوى أمام القضاء الاسباني.
يرفض النظام المغربي مبررات الدوافع الإنسانية التي تقدمها الدولة الإسبانية، بحجة أنها ذريعة ضعيفة الحجة لأن التزوير والإخفاء وعدم الإبلاغ يبطلها.
يبدو أن النظام المغربي أُتيحت له فرصة نادرة لحشر الدولة الاسبانية والجزائر والبوليساريو في الزاوية بسبب خطأ في التقدير من الدولة الاسبانية، هذه الفرصة لن يفوتها أبدا وسيجبي منها أقصى ما يمكن من المنافع السياسية والمالية.
يوجد النظام المغربي في موقع الأفضلية بفضل التغيرات العديدة التي حصلت بالمنطقة ولا يخفي كبار مسؤوليه ذلك بل صرح وزير الخارجية والتعاون المغربي أن “مغرب اليوم ليس مغرب الأمس وعلى اسبانيا أن تعي ذلك”. ما الذي تغير؟
– كان لعملية غلق معبر الكركرات من طرف منتمين للبوليساريو وتدخل الجيش الملكي وإعادة فتح المعبر، نتائجٌ غيرت المعطيات على الأرض، أهمها تشييد جدار عسكري آخر لتحصين الممر من التهديدات. ما مكن من إبعاد قوات البوليساريو نهائيا عن المنطقة “العازلة” وحشرها في منطقة المخيمات فقط وبسط السيطرة على الجيب 5 كلومترات الفاصلة مع موريتانيا خصوصا الجهة الأطلسية لمنطقة الكويرة. ثانيا إعلان البوليساريو الحرب منذ نوفمبر 2020 أسقط ورقة هامة من يديها ما دام ما تعتبره حربا ليس إلا مناوشات ضعيفة التأثير ميدانيا وسياسيا. وأخيرا الوضع بالمدن الصحراوية الذي لم يعرف أي تحرك نضالي مند تفكيك مخيم أكديم ايزيك.
– إعلان دولاند ترامب اعترافه بالحكم الذاتي حلا وحيدا لقضية الصحراء الغربية وقراره بفتح قنصلية أمريكية بالداخلة. قرار ترامب لا يفسَّر بالطباع الخاصة ولا هدية للكيان الصهيوني في إطار صفقة “ابرهام” بل دافعه مصلحة الإمبريالية الأمريكية الاقتصادية والأمنية بالإقليم ووضع اليد على منصة استراتيجية نحو القارة الافريقية في إطار تنافس محموم بين قوى عالمية على إعادة توطين قواها بقارة واعدة للنهب الامبريالي. يقول النظام المغربي لأوروبا الإمبريالية مفهومنا للصداقة والشراكة الاستراتيجية يجب أن لا يقل عما جنيته من مكاسب مع الإمبريالية الامريكية.
– إن تقهقر النظام الجزائري وأوضاع جبهة البوليساريو المتقهقرة تنظيميا وعسكريا والمتأثةر بما يعانيه النظام الجزائري، عناوين لتغير ميزان القوى إقليميا، هذا ما يفسر مطالبات النظام المغربي لبلدان أوروبا والضغط عليها لدعمه سياسيا لحسم نهائي لمشكلة الصحراء الغربية وزيادة دعمها المالي نظير خدماته الأمنية كحارس حدود.
الكادحون في رقعة شطرنج الدولية
إن الطامحين للهجرة نحو أوربا من أبناء قارتنا الافريقية الذين يغامرون بحياتهم والذين يتحينون الفرصة على الضفة الجنوبية للمتوسط هم مجرد ضحايا لنهب ثرواتهم طيلة قرون من طرف أوروبا إمبريالية تحولت من الاستعمار المباشر إلى نهب مستمر بإسناد من أنظمة ديكتاتورية تابعة. وعندما يختلف الاستغلاليون المحليون مع الإمبرياليين يستعملون أوراق لابتزاز بعضهم البعض قبل العودة إلى التفاهم على قواعد جديدة لاستمرار استغلالهم المشترك لشعوبنا. هذا هو سبب تفجر أزمة الهجرة الاستثنائية نحو معبري سبتة ومليلية. إنه التلاعب بحياة وآمال عظيمة للباحثين عن حياة لائقة بالهروب من جحيم قارة لا تعدهم بالمستقبل.
وطبعا فان قضايا التحرر القومي والديمقراطية في صلب الأزمة الراهنة. فثغري سبتة ومليلية كمدينتين أفريقيتين من بقايا التركة الاستعمارية لإسبانيا كما باقي الثغور المحيطة بها، وهي خاضعة للمقايضة بين النظامين كما قضية الصحراء الغربية. فالصمت عن اثارة الأولى يقابله مواقف أكثر دعما في الثانية، هذه هي رسالة النظام المغربي لشريكه الاسباني.
إن انهاء مأساة شبابنا في مقبرة المتوسط غير ممكن طالما ظلت قارتنا بقرة حلوبا للنهب الإمبريالي وطالما أنظمة الحكم الديكتاتورية التابعة تحكم خناقها على شعوبنا. سيواصل الباحثون عن ملاذ آمن دق جدران العار التي تطوق بهم أوروبا نفسها وسيبتكرون كل السبل للتسلل إلى القلعة الحصينة لكن مقابل ثمن باهظ: آلاف الموتى والجرحى وضحايا الجريمة المنظمة والاستعباد. إنها كلفة باهظة تستنزف قارتنا.
إن بديلنا هو استكمال مهمتنا للتحرر الديمقراطي الشامل وقطيعة جذرية مع المشاريع المرعبة لنهب قارتنا وبناء تكامل اقتصادي يلبي حاجيات شعوبنا الاقتصادية والاجتماعية، ويحمي ثرواتنا من النهب والاستنزاف. وهذا غير ممكن دون إعادة تقرير مصير شعوبنا والتخلص من أنظمة التجزئة والتبعية الديكتاتورية التي تديم سيطرتها بدعم إمبريالي صريح.
اقرأ أيضا